صفحات العالمما يحدث في لبنان

دولتان اصطناعيتان في المنطقة إحداهما لبنان ؟

سركيس نعوم
بعد الاضطرابات المحدودة التي كانت منطقة عائشة بكار البيروتية أخيراً مسرحاً لها والتي كادت ان تمتد الى شوارع أخرى، رفع عدد من نواب بيروت وفي مقدمهم الصديق والزميل نهاد المشنوق مطلب جعل بيروت مدينة آمنة. وباشروا سلسلة تحركات في اتجاه عدد من المراجع الدينية والسياسية بغية شرح مطلبهم والدعوة الى تبنيه وتنفيذه. كما توجهوا صوب وسائل الاعلام شارحين موقفهم للرأي العام اللبناني طالبين منه الدعم.
هل مطلب جعل العاصمة بيروت مدينة آمنة واقعي؟
قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من التأكيد انه اولاً مطلب مشروع لأن استمرار الفلتان الأمني وتحديداً سيطرة المسلحين على الشوارع، سواء كانوا ابناء ميليشيات او ابناء احياء واياً تكن دوافع حملهم السلاح، من شأنه في ظل الخلافات وخصوصاً على الصعيد المذهبي الاسلامي ابقاء العاصمة ساحة للتوتر والصدامات والاشتباكات. ومن شأنه ايضاً تعزيز احتمال اندلاع حروب مذهبية قد لا تبقى محصورة في العاصمة. وطبيعي في وضع كهذا ان ترتفع اصوات ابناء بيروت، سواء كانوا منها او صاروا جزءاً منها، مطالبين بالأمن والأمان ولا سيما منهم البعيدون عن الاحزاب والتيارات. ولكن طبيعي ايضاً التساؤل اذا كان بقي في بيروت، سواء من ابنائها الاصليين او من الذين صاروا ابناءها، من هو بعيد عن الاحزاب والتيارات وخصوصاً بعدما صارت كلها معبّرة عن مذاهب ونجحت في مذهبة الشارع الاسلامي البيروتي وتعبئته ووضع ابنائه بعضهم ضد بعض؟
انطلاقاً من ذلك يمكن القول بكل تجرّد وصدق مع الذات ان مطلب جعل بيروت مدينة آمنة غير واقعي. فما تعانيه بيروت تعانيه مناطق اخرى من لبنان وتحديداً مدن اخرى، منها صيدا التي بادرت بعد انطلاق الدعوة البيروتية الى المطالبة بجعلها هي أيضاً آمنة. ومنها طرابلس عاصمة الشمال التي عانت في السابق صدامات ظاهرها “سياسي ووطني وقومي” وجوهرها مذهبي صرف. وقبل ذلك شهدت مناطق بقاعية معروفة صدامات واشتباكات من النوع نفسه، وليس هناك ما يمنع تجدد ذلك وتوسعه. هذا كله يؤكد حقيقة اساسية هي ان الأمن إما ان يسود البلاد كلها أو يبقى مفقوداً في البلاد كلها. اذ لا يمكن ان تعيش مدينة او منطقة بأمان، في حين تعيش المناطق والمدن الأخرى تشنجات واشتباكات متنوعة ولا سيما في ظل إصابة الكل بالأمراض نفسها المتسببة بالفتن والاقتتال.
ويؤكد حقيقة اساسية ثانية هي ان شرط سيادة الأمن البلاد كلها هو وجود دولة يعترف ابناؤها بها وبسلطاتها ومؤسساتها المدنية والامنية والعسكرية وطبعاً الدستورية، ولا يشكك احد منهم في نيات اطراف فيها ويثق جميعهم بأنها عادلة في معاملة الجميع. ويؤكد حقيقة اساسية ثالثة هي ان وجود دولة كهذه لا يمكن ان يتحقق اذا كان اللبنانيون مختلفين على اي لبنان يريدون: هل يريدون لبنان الاسلامي ام لبنان المسيحي؟ هل يريدون لبنان السنّي ام لبنان الشيعي؟ هل يريدون لبنان المسيحي (المستحيل) ام لبنان المسيحي – الدرزي (على استحالة قيامه) ام لبنان المسيحي السنّي ام لبنان المسيحي – الشيعي؟ هل يريدون لبنان الديموقراطي أم الشمولي؟ ولكل من هذه اللبنانات انصار ومؤيدون. وبعض هؤلاء مدجج بالسلاح، وبعضهم الآخر مدجج بالعناد والرفض رغم نقص السلاح، أو بالمناورة والتشاطر والتذاكي.
ويؤكد حقيقة اساسية رابعة هي انه في ظل غياب اتفاق على الوطن الذي يريده الجميع، فان الدولة القائمة ستبقى عاجزة بكل مؤسساتها عن حماية المواطنين وردع المخالفين والمخلّين بالأمن، لأن الموضوعات والقضايا والمشكلات متداخلة كلها وهي التي شلّت المؤسسات الدستورية، رغم وجودها، والمؤسسات المدنية. وهي التي تمنع المؤسسات العسكرية والأمنية من التحرك، بل من القيام بواجبها من دون اذن. واللبنانيون يعرفون، ومنهم اصحاب مطلب “بيروت مدينة آمنة”، ان الأمن بالتراضي ليس أمناً. ويعرفون في الوقت نفسه ان الأمن بغير التراضي مستحيل لأن محاولة فرضه تؤثّر على وحدة المؤسسة وتضع البلاد على عتبة مجهول قد يكون معلوماً عند كثيرين… ومطلوباً.
طبعاً لا نريد في هذه العجالة اصابة رافعي المطلب المذكور باليأس والإحباط. لكننا نريد ان نلفت “الشعوب” اللبنانية الى انها هي المسؤولة الأولى عن كل ما يصيبها مجتمعة او منفردة او “بالدور” كما يقال. اولاً، لأنها شعوب وليست شعباً واحداً. وثانياً، لأن لقادة كل منها مشروعات شخصية وأخرى فئوية تؤذي البلاد وتستهدف شقيقاتها. وثالثاً، لأنها منقادة الى هؤلاء القادة بوعي او من دون وعي. علماً ان مصالح القادة عند الجميع اوسع بكثير من مصالح شعوبها واكثر اهمية.
في اختصار، على اللبنانيين الا “ينغشّوا” ويصدقوا قادتهم، وخصوصاً عندما يقولون انهم رفعوا الغطاء السياسي عن الذين يرتكبون اعمالاً عنفية من انصارهم او من شعوبهم. فهذا القول لا معنى له ولا ترجمة، وخصوصاً عندما نرى في أزقة بيروت وزواريبها والشوارع كما في كل مدينة أخرى صغيرة او كبيرة وفي كل منطقة مجموعات تتصرف على انها “وحدات ميليشياوية” كي لا نقول عسكرية مفرزة للمراقبة والتدخل عند وقوع اي حادث، سواء أكان ابن ساعته أم مفتعلاً. فكل قادة لبنان يعرفون أن مصير وطنهم وشكل نظامه ودولته لم يحسما نهائياً بعد، وأن كل ذلك لن يحسم قبل ان ترسو المنطقة على صيغة نهائية بعد حل مشكلاتها. وبدلاً من ان يبادروا الى التعاون لتقرير مصير بلادهم بيدهم، نراهم موزعين على الخارج سواء لسخائه في دعمهم المتنوع (السلاح – اموال – حماية – دعم سياسي)، او لعجزهم عن الافلات من سيطرته. ذلك كله اعاد اخيراً الى العالم الفاعل او الى بعضه على الاقل نوعاً من الاقتناع بان لبنان دولة اصطناعية او زائفة. وتشاركه في هذه الصفة دولة اخرى في المنطقة. والدول الاصطناعية او الزائفة يمكن الاستغناء عنها كما يمكن استعمالها ساحة وابناءها ادوات. وذلك يعني مزيداً من الاقتتال والدماء.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى