صفحات مختارة

كيف أحبُّكِ؟ مجاهَدة لسانية

أحمد نظير الأتاسي
من الكلمة إلى الأنثى:
أشجاني مقال الأستاذ نادر قريط ثرثرة على ضفاف الكتابة حين ذكر رسائل كافكا إلى محبوبته متسائلاً “عن لغتنا وكيف يتأوّه الناس في بلادنا ويتسامرون، وكيف يُترجمون أشواقهم وعواطفهم وما يجتاح كينونتهم؟ وماذا يقول الفتى وهو يلمس يدها؟ وماذا تقول وهي ترمقه بخفر وحياء؟” وثمّنت صراحته حين أفصح عن مشاعر “الصدمة والخجل” التي خالجته إبان قراءة الكتاب. والشجا غير الشجو وغير الشجن. فالشجا غصة في الحلق، والشجو طرب وهيجان يولّدان حزناً، والشجن حاجة أو عوز في النفس تَهمّها فتُحزنها. وأصحّح فأقول أشجاني غصة وطرباً وشجنني فقداً وعوزاً. قلت نَعم، نِعم ما قال. وقلت لا، بئس ما قال. وقلت لا، لا أتباكى على الأطلال. فهيا إلى العقل أعصره، واللسان ألويه، والقلم أثقِله، والورق أدميه.
وإنّي أفهم قصده، لكنّي لا أشاركه المشاعر لأنّي ألفت الصدمات من زمن حتى استسغت طعمها لا بل طلبتها. وخلعت برقع الحياء والخجل متلذّذاً بالمجابهة، ساكناً للفضيحة. ولا يهمّني المعنى الأخلاقيّ هنا بقدر ما يهمّني المعنى الفكريّ. وبقيت سؤالاته تموج بي، وجاس بي طيف كافكا حتى هَوَسني وهو يُعْوِل كشيخ الجبّ (البئر) الذي كانت جدّتي تخوّفنا به لإبعادنا عن أهوال السقوط في البير. لكن أين حكمة جدّتي من حكمة “أليس” التي ما وصلت إلى بلاد العجائب إلا بسقوطها في البير. فكفاكَ صراخاً يا كافكا فما أنت إلا غرّ جاهل بالحبّ والجسد يدّارئ خلف كلماته يخفي بها اضطراب قلبه وانقباض أمعائه وهذيان عقله أمام عالم المرأة الذي لم يختلس حتى نظرة متلصصة متلذذة من خرم بابه.
وسؤال نادر قريط أظرِفه في ظرف كلماتي رافعاً عنه السلبية مسبغاً عليه الإيجابية هو التالي : هل يا ترى تتضخم اللغة وأدواتها حين نحسن التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا؟ هل يمكن للكاتب أن تبزّ مشاعرُه لغتَه غنىً وتنوعاً؟ أم أنّ المشاعر تتقلص وتتقلّل لتجاري فقر اللغة؟ وهنا أجترئ فأقول إنّ اللغة قد تتفخّم وتتضخّم لتخفي ارتباكنا وخوفنا من الإبحار في خضمّ المشاعر دون دليل. لم أقرأ كافكا ولم يرمِ يوماً في وجهي قفّاز التحدّي ولم يؤجّلني إلى فجر الغد للمبارزة. لكني وبذكورة تنتشي بخمرة التستسترون سأقوّله ما ألمَح إليه قريط وسأساجله في عالم ذكورته المتضخّم، أي اللغة.
لن أكتب نثراً فيكتورياً في الحبّ العذريّ، أو بالحقيقة المتعذّر، محافظاً أنيقاً منمقاً مدبّجاً مدمجاً متصلّباً كالمصاب بكتمان البراز أو بتصلّب فقرات العنق. ولن أكتب نثراً أقُطّ فيه أذني لأرسلها إلى الحبيبة معتقداً، في دوراني النرجسيّ حول صرّتي، أنّ الحبيبة لا تطلب من حبيبها إلا قطعة من جسده، أذنَه كانت أو قضيبه أو حتى خصلة من شعره. لكني سأكتب نثراً يسعى بين مروة الجسد وصفا الشعور، هائماً في عالم الذكورة النرجسية بحثاً عن أوّل الخيط الذي قد يقودني إلى الأنثى. فأنا الجالس على كرسي الاعتراف أقول: “إني مريض بالأنا الذكرية، هذه الغابة من القضبان التي تحجبني عنكِ وتحجبك عني، ولن أصلِ إليك إلا بأن أجاهد أناي باللسان حتى يسحّ العرق من كلّ مسامّ في جلدي. حتى أتجاوز ذاتي في مرآة وجهك لأرى وجهك كما تحبّين أن أراه”.
الكلمة والمعنى، آح الفكرة ومحّها، هيكلها ومحتوها، صورتها وهيولاها؟ لا أعرف الجواب يا أستاذ قريط لكني سأرمي نفسي في البير دون أن أرمي حصوة أوّلاً لسبر الغور. كالمصارعين الأتراك سيطلي كلٌ جسدَه بزيت الزيتون ثم ستتشابك الأيدي. سيمطّ المعنى أوصال الكلمة حتى الألم، وستحشك الكلمة المعنى في قوالبها حشراً حتى الاختناق. سأستجدي الكلمات على أبواب القواميس حتى تطردني كما يُطرد الشحّاذ الملحاح النقّاق. سأكسر كلّ قواعد الصرف واستنباط الكلمات حتى يقولوا : “قالتِ العرب كذا، لكن قال نظير كذا” أو يقولوا “هي كذا علمناها بالسماع من قبيلة تائهة برواية نظير”. سأذهب إلى زوابيق العامية وأدخل مجالس الفصحى وصالوناتها. سأستبضع للغتي عند لغات أخرى لأنجب جيوشاً من المولّدين، وسأترك بابي مفتوحاً ليحرث الغريب في حرثنا يدحمُهنّ دحماً (كما وعد الحديث أهل الجنة)، فما الولد إلا للفراش. فنحن لا نعرف بين اللغات إلا علاقات سفاح فنسميها تلاقحاً إن استحسنّا واختراقاً إن استهجنّا.
لست أرى تراجيديا قطباها الكلمة والمعنى أفضل من مبارزة كافكا على أرض طينيّة زلقة لم يألفها كلانا، وأعني الغوص الاعترافي في غياهب الذكورة من أجل الخروج على ضفاف الأنثى وتقديم إكسير الحياة : “يا امرأتي، أعرف كيف أحبّك”. لن أحبّها إمرأتي، أو أعشقها أو أهيم بها أو أجِد بها، فهذه ليست إلا مشاعر أنانية نحبّ من خلالها أنفسنا قبل أن نحبّ الأنثى، أو على أقلّ تقدير نحبّ حبّنا لها. لكني سأنقُب الأرض بحثاً عن سبيل إلى حبّها كما تريدني أن أحبّها لا كما أريد أن أحبّها. أذكر هنا نصيحة مضيفات الطائرة : “إذا طرأ طارئ ضع قناع التنفس على وجهك قبل أن تضعه على وجه من تحبّ، وإلا متّما كلاكما اختناقاً”. والحقيقة المُرّة التي يجب قبولها هي أننا لن نحسن حبّ الآخر ما لم نبرع في حبّ أنفسنا قبلاً، ولن نعرف الآخر حتى نعرف أنفسنا، ولن نفسح للآخر مكاناً في قلوبنا ما دامت ذواتنا تملأ قلوبَنا. إذاً، لن أمارس حبّ ذاتي متقنّعاً بقناع العشق والهيام والوجد، بل سأدخل لجّة ذاتي أسبر الأغوار مستقصياً من أدناها إلى أقصاها عن التي أحبّها ولستُ هي حتى أصل إليكِ أنتِ. أنتِ الكائنةُ بذاتها خارج ذاتي، أنتِ بما هي أنتِ، أنتِ كما أنتِ كائنة، لا كما يجب أن تكوني.
من الذكر إلى الأنثى – هل من طريق؟
قَضَبَ الشيء قطعه، والقضيب غصن مقتطَع من شجرة. اختبل عقلي حين خصاني لسان العرب. أحسست بوخز مبضع الجرّاح بين فخذي لما علمت أنّ القضيب فرع وليس أصلاً، أنه لا يكون قضيباً إلا بالقضب أي القطع. هل يُعقل أن يكون الله قد أخطأ قراءة مسودة مشروعه فبدل أن يقضب جزءاً من حواء ليجعله في آدم قضيبَه، كسر جزءاً من آدم ليجعله حواء نفسَها. زَبلت لسان العرب وكفرت به وبجامعي مادّته من الأعاجم وأمسيت دخيل المحكية السورية تحميني وتجيرني من أعجميّ سمع أعرابياً منذ ألف شتاء يقول اقتضب بسؤالك يا علج، أي أقصر. فأنا أبحث عن التطاول ويهولني التقصير. ردّ لي ذكورتي قضيب الرمان في بستان جدّي وقضيب الخيزران في سوق الجمّالين والحمّارين والبغّالين في حمص. غصن البان وعود الريحان وقضيب الرمّان، والفرق واضح. الرمان شجيرة قديمة قدم تاريخ البلد، فروعها متينة لكن طيّعة، تتلوّى في الهواء كخيط الحرير لكنّ وقعها على الجسد كالسوط المجدول، صبورة على العطش، ضنينة بأوراقها، سخيّة بوخز إبرها، متشبّثة بثمارها تُضمِّنها ظرفاً ثخيناً وتحشوها حامضاً قارحاً. كم خدد جلودَنا قضيبُ الرمان لكنه ابن أبيه، شبل من ذاك الأسد، جدير برمز الذكورة. لا يكون القضيب إلا من الرمان، وما عداه أعواد وأخشاب وعِصِيّ، راسخ، أصيل، يخشى مسَّه الجميعُ وعلقمَ جلدة ثمرته وتقريحَ عصيرها الحامض.
“رجل” (ويقف وهلة) كما يحلو لأبي أن يقول، “رجل”؛ وفراغات المعنى تملؤها قرون من التراث. مفهوم لا تحيط به الكلمات ويكفي الصمت للتعريف به. لا توجد كلمة تتماهى مع معناها ككلمة رجل. الصورة هي المعنى، إذ تكفي الكلمة لأدائه ولا تستطيع أية كلمة أخرى أداءه ولذا لا حاجة بنا إلى جملة إسمية يعرّف خبرُها بمبتدئها. المبتدأ يكفي بذاته، والخبر يكفينا الصمتُ مؤونة اختراعِه.
مرة ألح عليّ طلابي الأمريكان، وكنت أدرّسهم العربية، أن أعلّمهم فنّ الشتيمة في اللغة العربية، فالحظوظ كبيرة أن تكون أوّل كلمة تسمعها في بلد أجنبيّ أو أوّل كلمة تنطق بها في بلد أجنبيّ شتيمة. فكّرت ملياً في الأمر ثم حزمت أمري أن أجعلها تجربة عسيرة من النوع الذي يطلب المسيحيون من الربّ في صلواتهم أن يبعدهم عنه. فرسمت على السبورة ثلاثة مربعات تربطها علامات جمع. في المربع الأول تربعت كلمت “أيري” وفي المربع الثاني أخضعت “الكس” للأير السابق له بحرف جرّ قادر متسلّط. وفي المربع الثالث أضفت إلى “الكسّ” عبارة “أية أنثى من أقارب المشتوم في تركيب إضافة” حيث “الكس” هو المضاف والقريبة هي المضاف إليه. ثم جمعت الكلمتين الأوليين بمربع واحد يقوم بديلاً عنهما عنونته “أنيك”. وكما يصمت الناس بعد كلمة “رجل” (إلا إذا أضافوا العبارة الدرامية التي تبرز خطورة المعنى “والرجال قليل”) يمكن أن نصمت عن كلمة “أيري” وأن نلفظ الواجب معرفته بالضرورة (أي ضرورة أذى الشتيمة)، وأعني “كس + قريبة للمشتوم”. وحسبت أني دفعت التجريد إلى حدّ تحويل الشتيمة المثيرة إلى نظرية لغوية مملّة، وإذا بهم يطلبون قائمة بالقريبات المحتملات، مرتّبات حسب شدّة وقع الشتيمة. فابتدأت بالأمّ وأتبعتها بالأخت. وهنا ينتهي الشرف وتبدأ إراقة الدماء لكني أؤكّد لكم أنّي سمعت مَن جادت قريحته السادية بقريبات أخريات مثل أخت الأب وأمّ الأب وأمّهات الأجداد، والغالب أن يكنّ من طرف الأب لأنّ لطرف الأم رجالا يذودون عن حماه وليس المشتوم معنيّا بهنّ.
عندما ننتقل من فضاء لغة إلى فضاء لغة أخرى نترك إرث الأولى مع كلماتها يغيب في ثنايا الدماغ وننطلق أحراراً خفافاً في فضاء اللغة الجديدة دون موانع تعوق تقاطُر الكلمات إلى اللسان، مثل الإحساس بالذنب أو الخزي أو العار، وكأننا نحبّ أن نسمع الكلمات الجديدة دون أن نوقد في أذهاننا نيران أفران محرّكات اللحظات والتجارب التي تصوغ المعنى. لكن عندما درّست العربية دخلت في عوالم لم أعرفها ولا خرائط لها عندي تعرّفني بتضاريسها، سهلها وجبلها، عسيرها ويسيرها. عندما ألفظ الكلمة العربية أستحضر المشاعر والتجارب التي تكوّن معناها، لكن في فضاء اجتماعي لا يعرف سوق الرموز هذا، قد أتلذّذ بنقل ما أحبّ من المعاني من خلال ما يحضرني من ذكريات مربوطة بخيط اللفظ، وقد أتلذذ أحياناً أخرى بلفظ كلمات تابوهات دون الخوف من العقاب الذي قد يُنزله المجتمع المنتِج للمعنى بي. فهل يا ترى جرجرني الطلاب إلى عالم الشتائم أم أنّي انسقت إليه متقنّعاً بالحرج والخجل؟
لكن هذا اللعب الطفولي بالرموز ودلالاتها وتبعاتِها الاجتماعية انتهى بصاعقة الغثيان التي انتابتني حين أصرّ الطلاب أن أشرح لهم معاني الشتائم التي اختصرتها بنجاح لم أتوقّع عواقبه ولا حمدتها. كلّ الشعوب تتكئ على القضيب كأداة تعذيب جسدي ومعنوي (بالأحرى أداة اغتصاب)، ولم يكن من العسير إحالة الطلاب إلى لغتهم الأمّ لتبيان المعنى العامّ للشتائم العربية. إلا أنّ ذهني أبحر وحده مشدوداً باستكشاف كهوف اللغة الأمّ، هذه الأمّ التي مكنتني من أن “أنيك أمّهات كثيرات”. لم يخطر يوماً ببالي أنّ صوراً لوجوه إنسانية وأعضاء إنسانية وأفعال إنسانية يمكن أن تحلّ محل الكلمات المحاطة بمربعاتي. ما هو الفعل الذي نعنيه “بكس أمك”؟ ما هي تفاصيل الممارسة؟ أين تكمن الأذية الموجّهة إلى المشتوم؟ أهي في هتك العرض؟ أم في دغدغة أوديب المشتوم بإلصاق أبٍ بأمّه كان قد حسب أنه قتله وانتهى منه؟ أم في القهقهات الشيطانية لمغتصب يعذّب ضحيتَه أمام من يحبُها؟ وتظل الأمّ هنا جسداً منتهكاً لا قيمة له ولا حساب في اتفاق ضمنيّ بين الشاتم والمشتوم يحوّلها إلى مجرّد ناقلة للأذية. “النيك”، هذه الرجفات الإيقاعية التي لا يرى فيها الذكر الشاتم السكران بذكورته المستفَزّة إلا طَرقات مطرقة، ضربات سوط، لطمات كفّ، ضربات عصى، لسعات قضيب رمان.
“وماذا يقول الفتى وهو يلمس يدها؟” يقول: طرق، ضرب، خجأ (ضرب)، دحم (دفع)، قضى وطره، وطئ، علا، افتضّ (ثقب)، افترع (أدمى)، باضع (شق)، ركب، فلح، حرث، فتح، فتق، شق …
وإن غطس في اللسان، لسان آبائه وأجداده وكل السلف الصالح الطالع من بين سطور (أو أساطير) النصوص القديمة، لن يجد إلا هذه اللولوات: يا كِناز (الجارية الكثيرة اللحم، وكذلك الناقة)، يا سَلْهَبة (الجَسِيمةُ، وليست بِمدْحَة)، يا بَهْصَلَة ويا بُهْصُلة (الشديدةُ البياض، وقيل هي القَصيرة)، يا فُنُق ويا مِفْناق (جسيمة حسنة فَتِيَّة مُنَعَّمة. الأصمعي: وامرأَة فُنُق قليلة اللحم)، يا هِرْكَوْلة (الضَّخْمة الأَوْراك، ذات فخذين وجسم وعَجُز، الجارية الضخمة المُرْتَجَّة الأَرْداف)، يا مُزَوْزِكة (التي إِذا مشَتْ أَسْرَعت وحركت أَلْيَتَيْها)، يا دَرْماء (لا تستبين كُعُوبُها ولا مَرافِقُها).
“وماذا تقول وهي ترمقه بخفر وحياء؟” تقول: يا سبعي، يا ضبعي، إني أنكَحتُك نفسي … فانكحني. ولا يجوز أن تقول نَكَحتُك فهذا ما لم تقله العرب، العاربة والمستعربة والمُعرِبة والمعرَبة والمعرِّبة والمعرَّبة والمتعرِّبة والمتعرَّبة والمتعاربة والمنعربة والمُعْرَبَّة، ولن تقوله، لأن العين منقلبة عن فاء بالفطرة والراء مُبدَلة بحاء طبيعةً والباء سقطت سهواً وحلت محلَها لام، فَحْل.
من الأنثى إلى الذكر – حيث تنتهي كل الدروب:
لطالما فكّرت في الفراسة، هذه المهارة التي زعمت كتب التراث، وما أكثر ما زعمت، أن الأعراب القدماء امتلكوها. هل يمكن فعلاً أن أعرف شيئاً عن خبايا نفسكِ بإمعان النظر في وجهكِ؟ هل غضون وجهك أبواب إلى طيّات ذاتكِ؟ ألهذا كانت الأنفة من ارتفاع الأنف؟ فما الصلة إذاً بين الحَنَك والحِنكة؟ وهل الأفوَه دائماً مفوّه؟ وحقيقةً، إن اللحيظات القليلة التي يعترض فيها جسدُكِ نظري لا أملك إلا تلك الصورة المنطبعة في عينيّ. فإذا بعُدتِ لم أعرف إلا شخصك وقامتك، وإذا قرُبت ساحت نظراتي على أجزاء جسدك تستنطقها جزءًا فجزء. وفي الحالتين لستِ إلا صورة تعوم في بحر الوهم. لكنها ملكي أتسلّط عليها سلطة مطلقة. صورتكِ هذه ملكي أفعل بها ما أشاء وتتلاشى شيئاً فشيئاً مع كلّ كلمة تلفظها شفتاك. لكني غالباً ما أتفادى الكلمات قاصراً معرفتي على صورة لا تنطق ولا أريد لها أن تنطق. صورة تقرأ أفكاري وتطيعها دون مويجات صوتية من فمي أو فمك، آمرها فتفعل. ملكي أنا وحدي ألعب بها، أقلّبها، أعرّيها، أتحسّسها. ما أسهل أن نملك إنساناً آخر أو إنسانة حين لا يكونان إلا خيالاً مسلوب الفكر والإرادة والحركة والفعل.
شعرك، نهداك، خصرك، ردفاك، أعمدة أرجلك، ووجنات قفاك، لا أرى فيكِ مِنْ أنتِ إلا جسمَكِ وهَنَاكِ. منذ خلق الله إسماعيل وأنطقه العربية كانت الأسماء ستة لكنهم لم يعلموني إلا خمسة: أبٌ، أخٌ، حَمٌ، فو، ذو. قالوا هذه أقوى الأسماء في العربية لأنه تُعرَب بالأحرف لا بالحركات أو بالأحرى تُعرِب عن نفسها دون خفر بحرف واضح جليّ وليس بحركة هي أقرب إلى الإيماء منها إلى البوح بالمخبّإ. لكنها متى تأنثت (باستثناء أب وفو) استحيت واكتفت بالإشارة والومى. أليس صمت العذارى لغة، لكنها لغة لا تعرف إلا كلمة واحدة، نعم. لكن السرّ، الكاعب المخبوءة، الذي يتناقله الصبية المراهقون كما يستمنون هو أن الأسماء ستة، وسادسها، أعنى سادستها، المنبوذة المخلوعة من قبيلة الأسماء التي تفصح عن نفسها بالحروف وليس بالإشارة إسم مؤنث، الأنثى الوحيدة، هَنٌ (أي عضو الأنوثة). جماعة الخمسة، جماعة الرقم العقيم المفرد أخفت سادستها حتى لا تزدوج فتخصب الجماعة كلها، أخفتها بأن أهملتها ثم بأن فرضت عليها قِناع المعنى المزدوج (كلمة هنٌ تعني أيضاً الشيء). السادسة مصابة بانفصام الشخصية، شخصيتها الأولى عضو (أو عضوة) منبوذ مخلوع، وشخصيتها الثانية جماد لا وجه له، شيء، ليس مذكراً ولا مؤنث. “أعطني هَناكِ يا أختَ العرب، أعني قلمَكِ!”، “خُذ هَنايَ يا أخا العرب، أعني قلمي!”
حين أتفرّس في هَنيكِ يا حبيبتي تحلّ بي مهارة الأجداد العجيبة في معرفة المعنى من الصورة، في معرفة العمق من السطح، وفي معرفة الطوية من القسمات. حين أتفرّس في هنيك يا حبيبتي فإني لا أرى بين الإسكتين وعلى شفا الشفرتين إلا حفرة مدمّاة تركها الإله حين اقتلع قضيبكِ من شرشه. عفواً أستاذ بروفسور فرويد أعتقد أنك على حقّ، لقد أضاعته، وهي تحنّ إليه ليل نهار وتغار مني لأني حافظت عليه في حين أنها أضاعته. يا لبؤسها. لا بدّ أنها الخطيئة الأولى التي يتحدثون عنها.
عفواً مرة أخرى أستاذ بروفسور فرويد، لا أستطيع أن أكذب على محلّل نفسيّ، لأنك كالقسيس الكاثوليكي في مقصورة الاعتراف، لا تقبل إلا الحقيقة التي لا يكون الغفران دونها. إني أسخر منك وأعتقد أن فراستك مثل فراستي، لأني حين نظرت إلى حبيبتي من الكوة الوحيدة التي تقودني إلى محتواها لم أرَ إلا خيال نفسي. فكيف أحبُكِ؟

ثرثرة على ضفاف الكتابة
نادر قريط
“بعد سيغموند فرويد لم يعد المرء مسؤولا عمّا يقوله فقط ، بل عمّا يخبّؤه في ثنايا لاوعيه. فسلوكه ودوافعه ليست مجرّد كلمات تُقال. الكلمات قد لا تقول شيئاً”
E. Fromm
بغضّ النظر عن مغزى إيريش فروم، فاللغة وعاء للأفكار، وكلّما افقَرّت* المصطلحات اقفرّ* العقل وتضخّمت الكلمات وفقدت دلالاتها، وفي ذلك تدهور المعرفة والعلوم وقحط الخيال والأدب. هذا ما يُحسّه المرء ويكاد ينعقد لسانه حين يتصفّح رسائل فرانس كاكفا، التي دبّجها لصديقته البرلينية الآنسة براون. يا للهول 700 صفحة متدفّقة بالكلام والمشاعر، بثّها كافكا في أعوام قليلة. حين تصفّحت بعضها أصبت بالصدمة والخجل، ورحت أتساءل عن لغتنا وكيف يتأوّه الناس في بلادنا ويتسامرون، وكيف يترجمون أشواقهم وعواصفهم وما يجتاح كينونتهم. وماذا يقول الفتى وهو يلمس يدها. وماذا تقول وهي ترمقه بخفر وحياء؟ أيتذكّرون شيئا من رموز القباني الجنسية المتوتّرة من قبيل:
“مطرٌ مطرُ ولتشرينَ نواح
والبابُ تئنّ مفاصله ويعربدُ فيه المفتاح”
لا أدري تماما.. فلم أقرأ أدبا شفّافا عن الصبابة والوله وجنون الحبّ، ولم أسمع عن أديب عربيّ ترك عشر رسائل لحبيبته (أو جاريته) أو قطع أذنه مثل فان كوخ وأرسلها إليها، فما عرفته لا يزيد عن “طوق الحمامة” أو بعض المجون الفاضح والغلمانيات والروض العاطر والأيك؟ لهذا أشكر أيروس العرب نزار قباني، فلولاه لاختنقت لغتنا من فرط الكآبة وصدأ الأيام.
ما ورد أعلاه كان بداية لثرثرة طويلة بمناسبة بلوغ القاموس الإنكليزي في يونيو 2009 مليون كلمة، وبينما كنت غارقا في التأمّل تذكّرت بيت شعر يقول:
وقبرُ حرب بمكانِ قفر ــــــــ وليس قرب قبر حربٍ قبرُ؟!
ففأفأت قليلا وفقدت الشهيّة وقلبت الصفحة.
قبل أيام عثرت أيضا على نص قصير معبّر، خطّه أستاذ الفلسفة عصام عبد الله، تناول فيه بعض مقولات جاك دريدا، التي عقّبت على أحداث 11سبتمبر، وفيها ينقل تشكيكه بمصطلح “الإرهاب” ويقول: ” كلما ازداد المفهوم غموضًا أصبح عرضة للتطويع الانتهازي” وأصبح كلّ طرف يشهره بوجه الآخر المناوئ، ثمّ يضيف بأنّ اضطراب المصطلحات ليس خللا وفوضى مفاهيم، على العكس “يجب أن نرى فيها (المصطلحات) استراتيجيات وعلاقات قوى، فالقوى المهيمنة هي التي تتمكّن في ظروف معيّنة من فرض تسميتها، ومن ثمّ فرض التأويل الذي يناسبها، وبالتالي إضفاء الشرعية على هذه التسميات”.
هذه الرؤية الكثيفة لدريدا، تُذكّر بما اقتبسه إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية “الإمبراطوريات ليست مجرّد أساطيل تمخر البحار، بل لغة تُدقّ في شفاه الأمم المقهورة”، والقصد هنا ليس مصطلح الإرهاب كمصدر للألم والدماء، فعدد من تبتلعهم التماسيح الاستوائية يبلغ سنويا أكثر من ضحايا منهاتن، إنّما قصدت المصطلح حسب دريدا وكيف يفقد شرعيته عندما يُطوّع انتهازيا، ويشهره كلّ طرف بوجه الآخر. وهذه لعمري قاعدة ذهبية يمكن اختبارها في كلّ ما نمضغه من كلمات (لا تقول شيئا) وأوّلها لفظ “عرب” الذي أصبح مأكولا مذموما (كالبصل)، وطاله كثير من الحيف والمسخ الدلالي والتاريخي وتعرّض محتواه السياسي للتسخيف والشتيمة، بدءا من الحرب الأهلية في لبنان، وكامب ديفيد، واحتلال العراق. والمضحك المبكي أنّ معظم شاتمي العرب لا يعرفون إلا لهجات العربية حتى في منامهم وصلواتهم. والأدهى أنّ جميع الأعدقاء يحمّلون هذا المصطلح وزر إخفاق الأنظمة والمجتمعات وعجزها عن تحقيق التنمية والرفاه والديمقراطية وتداول السلطة، وكأنّ العرب مرادف للدولة، مع أنهم لا يختلفون جوهريا عن “أمريكا اللاتينية” التي تجمعها عرى الكاثوليكية والإسبانية والهسبانو وأدب غارسيا أكثر ممّا يجمع دبي بمقديشو، (وبيروت الشرقية بالغربية؟) إذاً نحن أمام مصطلح يطوّعه الجميع بشكل انتهازيّ لإخفاء العجز والفشل وتعليقهما على مشجب الوهم. أمّا السؤال فهو عمّن يكون العرب وما المقصود بهم؟
ميثولوجياً هم قبائل تنتسب لإسماعيل، وثقافيا هم لغة ودين وتراث، وهم أيضا البدو والرعاة حسب اللهجات المحكيّة في الشام والعراق..فاختصارهم في كونهم أعرابا غزاة (رزقهم تحت ظلّ رماحهم)، قولٌ متهافتٌ، بشهادة كثير من القراءات النقدية الحديثة المدعّمة بالأركيولوجيا والنقوش القديمة وعلوم المقارنة التي تنظر لمدوّنات التاريخ المبكّر باعتبارها نصوصا أدبية نسجها الرواة بعد مضيّ قرون من أحداث افتراضية مُتخيّلة، بما فيها قصص الهجرة والسقيفة ودولة المدينة والفتوحات والفتنة.. فالسير والمغازي هي تاريخ بدون تاريخ. ومحتواها من الحقيقة يضارع السيرة الهلالية، كما أنّ مضمونها الأسطوري (كهواتف الجنّ، وتنبّؤ الأصنام بقدوم نبيّ العرب ونطقها بالشعر، ومعجزات انشطار القمر، واهتزاز إيوان كسرى) أقلّ قيمة من “حكايات السندباد”.
أما المثبت (بالنقوش والاركيولوجيا) فهو وجود إثنيات وممالك عربية سبقت الإسلام بقرون عديدة، وامتدّت بين اليمن والحيرة والحضر والغساسنة (بصرى) والأنباط (بترا) والرها وصولا لشرق دلتا النيل. من هنا تبدو الفتوحات العربية في نظر الكثير من البحوث نسيجا روائيا، فالواقع على الأرض، يحكي عن قيام سلالة ملكية (أموية) لملء الفراغ الدوليّ الناجم عن الوهن الذي ضرب الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وقد استتبّ الأمر حسب مبادئ الشرعية الدولية آنذاك، التي تتيح للمنتصر وراثة ممتلكات المهزوم (بما فيها جنوب إسبانيا البيزنطي)، والأدلة في وادي اليرموك لا تشير إلى حروب خالد وسيفه المسلول، بل إلى انتقال سلميّ للسلطة، وهناك ما يؤكّد أنّ أرملة هرقل تنازلت عن مصر لحاكم الشام (الأمويّ) وسحبت حامياتها، ودراسات النقوش والفنون والعمارة، تثبت أيضا أنّ القصور الأموية الصحراوية ذات طابع ساسانيّ (صور مصارعين ونساء عاريات وآلهة أسطورية، ورسم الخليفة تطوّقه الشمس المجنّحة لأهورا مازدا..إلخ).. كلّ ذلك يدلّ على أنّ الدولة سبقت الإسلام الذي نعرفه، وكذلك هو حال المسكوكات التي توحي بواقع إمبراطوري أوتوقراطي تعكسه بعض المسكوكات التي نعتت عبد الملك والمأمون بلقب “خليفة الله”، وهذا يتناسب مع روح العصر آنذاك حيث كان القيصر البيزنطي يتلقّب بباسيليوس (خادم الربّ) والملك الفارسي بكسرى (وتعني بالبهلوية: نور الآلهة).
وبقليل من المجازفة يمكن القول بأن الأمويين أنشؤوا إمبراطورية عالمية (فارسية العقل عربية اللسان) قبل اختراع ميثوس الأصول المكيّة وقبل نشوء الإسلام، كلاميا وفقهيا وتدوينا وعلم أنساب، ولم يصبح الإسلام دينا للسلالة الحاكمة (الدولة) إلا بعد حسم النزاع بين السلالتين المروانية (أميّة) والخرسانية (بنو العباس) منتصف القرن الثاني الهجري، تماما كالإمبراطورية الرومانية التي لملمت المسيحية من حطام ميثرا ونبوءات التوراة والأفلوطينية لتصبح عقيدة الدولة في عصر قسطنطين (وفعليا منذ جستنيان في القرن السادس م).
وعودة إلى مصطلح “عرب” كمركب مفاهيمي سوسيو ـ تاريخي ثقافي، أجد من العبث اختزاله بجغرافيا الحجاز، وتاريخ فتوحات شبحية وعلم أنساب وهميّ، وجعله قافية لقصائد المديح أو الهجاء والرثاء. فالمصطلح هو تكثيف لخطاب معرفي (وايديولجي)، متعدّد الطبقات والدلالات، ويرتبط بكيفية التلقي وظروف الإدراك والوعي التي ترسّخها كلّ ثقافة، ومن السذاجة إصدار أحكام أخلاقوية على ماضي نجهله بطريقة ما. أقول نجهله لأننا لا نستطيع أن نتحرّر من الفرضيات والمسلمات التي فرضها علينا الحاضر وثقافته المهيمنة.
لا يقتصر الأمر على “العرب” فحسب. فمعظم ما خطّه الروّاد ونحته أساطين الكلام من تماثيل لغوية [حداثة ـ دستور ـ دولة ـ أحزاب ـ قومية ـ حرية ـ ديمقراطية ـ علمانية ـ جماهير ..إلخ] هي مصطلحات عائمة ومتضخّمة، تم استنزافها وتفريغها، فالدستور (مرجعية العقد الاجتماعي) يفقد معناه في ظلّ قانون العصبيات القبلية (العائلية) والمذهبية.. والدولة (حامية الدستور، والأمن، وموزّعة الثروة وموّجهة الثقافة، ومحتكرة العنف) لا علاقة لها بدولة السلطان، وضمور الحداثة هو ترجمة لغياب الإنسان كذات فردية واعية (مواطن) وطغيان مفهوم الرعيّة. وهكذا يضيع المعنى الحديث “للأحزاب” باعتبارها ميلا فكريا أو طبقيا، ليعاد إنتاج الدلالة القديمة (لأحزاب الخندق).
إنّ معظم ما نتشدّق به صباح مساء، يشي بأننا نعوم فوق شبر من الماء؟
لذا أستسمحكم بقلب الصفحة:
اقترنت صدمة الحداثة، بصهيل خيول نابليون في باحة الأزهر، ومعها بدأ مشوار طويل من الجدل في مسائل الدولة والدين والعلمانية بلغ أحيانا حدّ الفوضى.. ولأنّ الحداثة مسار قلب أنماط الحياة على كوكبنا. كان من الضروريّ وصفها وشرحها معرفيا، وربطها بأزمنة ومفكرين، مما جعلها أحيانا متاهة للناظرين. مع أنها ببساطة ثمرة لفتوحات المعرفة والعلوم، التي بلغت أوجها مع الداروينية في القرن 19 وكشوف اللغة المسمارية وخلخلة قصة الخلق التوراتية (وطينها اللازب) وانتزاع عصا القيادة من يد الإكليروس..إلخ.. إلا أنها لم تكن طلاقا بائنا مع الماضي، كما يحلو للبعض، فمسيحية الغرب ومن حيث لا تدري سهّلت تلك القيامة. لأنّها مؤسّسة سلطوية هرمية لها عنوان وفاتيكان يسهل الوصول إليه، في حين كان الإسلام التاريخيّ (رغم وجود الفقهاء ودور الفتوى) عفويا بدون عنوان أو عقل مؤسّسي. وهنا تحضرني ملاحظة جديرة أوردها أمين معلوف في خاتمة كتابه: الحروب الصليبية، إذ ينقل شهادات من العصر الأيوبي تؤكّد أنّ الفرنجة (البرابرة) أنشؤوا في المشرق ممالك مستقرّة ذات مؤسّسات، تعاقد فيها الإكليروس والفرسان والنبلاء، وانتقلت فيها السلطة بيسر وسلاسة. ورغم تخلّفهم في الفقه القانونيّ “عدلوا في توزيع الحقوق”، أمّا السلطنات الإسلامية “المتحضّرة نسبيا آنذاك”، فقد خضعت غالبا لنزوات السلطان وبطشه وعشوائيته، وكان رحيله نذير حروب أهلية (وسمل عيون وخوزقة) وهروب التجّار (من نعمه الوفيرة) واللجوء لممالك (الكفار الحقيرة) وما أشبه اليوم بالبارحة.
وقد يكون نظام العصبيات (قانون الدم) هو الأبلغ لوصف المشرق العرب ـ إسلامي، حيث كانت مدنه أسيرة أبديا لمحيط بدويّ يسيل لعابه عليها، فمعظم السلالات التي تناوبت على ركوبه (عرب، سلاجقة، مرابطون، كرد، ترك) كانت من أصول عشائرية، بعكس أوروبا الوسيطة التي عاشت منذ سقوط روما وفق نظام جمع النبلاء والكنيسة والقنانة في إقطاعيات ربطتهم قسريا ووجوديا، لتكوّن فيما بعد بذرة وعي جمعيّ انبثقت منه فكرة التضامن والوطن والدولة الحديثة. أمّا في المشرق فقد ساهم مناخه الحارّ الجافّ في خلق أنماط معاشية تتيح للسكان البندلة (من بندول) بسهولة والترحال بين حياة الوبر والمدر، وهذا ساهم في قلق المدينة (مركز الأرثودوكسية والكتابة).. وقلق فكرة الوطن في الذات الجمعية، وما زالت صور هذا القلق تتجسد في لاوعي مشاعيّ (أرض الله واسعة) واستهتار بالمصالح العامّة وقيم التضامن واقتران مفهوم “الحكم” بالغنيمة أو السلطة الغاشمة، مع أنّ الجذور الدلالية للفظ “حَكَمَ ” تدلّ على “القضاء والحكمة”.
ما أوردته للتوّ ليس مقاربة انتروبولوجية تدّعي العصمة، بل إطار أفكار لتعزيز الموضوع وتحديده بعيدا عن تعويمه بالكليشيهات، أو إغراقه في التجريد اللغويّ. فالحداثة كحامل لمشروع العلمنة والأنسنة أعقبت الثورة الصناعية التي سبقها عصر النهضة ومرحلة ازدهار دويلات المدن التجارية بعد انتهاء الطاعون المروّع في القرنين 13و 14، ولعلّ النهضة الفعلية بدأت مع سقوط القسطنطينية في القرن 15بيد العثمانيين، وهروب النخب البيزنطية غرباً، ومساهمتها في تضخّم مراكز التدوين الكتابيّ، التي كانت وقتذاك حبيسة الحصون وجدران الأديرة، وهذا التضخّم المباغت ولّد الضرورة والحاجة لاختراع المطبعة (أي تعميم المعرفة).
وباختصار يمكن الزعم بأنّ الكنيسة لعبت منذ القرن 12 دورا محرّضا في ازدهار الفنون (فالرسم والنحت في عصر النهضة هما مثالان مُدهشان على تقدّم هندسة الفراغ، أحد روافد علم الميكانيك، وليس من قبيل الصدفة أن يكون دافنتشي رساما نحّاتا ومصمّما للآلات)، إضافة لتأسيس جامعات أوروبا وحركة الترجمة (منذ سقوط طليطلة نهاية القرن11) وتطوّر مراقبة الفلك (فالتنبّؤ بآحاد الفصح، وإعداد جداولها حفّز على تطوير أدوات الرصد وذلك لارتباط “الفصح” بأشواط القمر، والاعتدال الربيعي في آنٍ معا، وهذه عملية مُعقّدة بمعايير ذلك الزمن).
ويبدو لي أنّ آلام مخاض الحداثة التي يُطنب البعض في وصفها، ذات طبيعة رمزية بلاغية. رغم الدماء الغزيرة التي رافقت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، فالتناقضات اللاهوتية كانت أهمّ مساهمة قدّمتها الكنيسة، إذ أنّ مقولات من طراز: أَحِبَّ لجارك ما تحبّه لنفسك، وأحبّوا أعداءكم ومبغضيكم. كانت تهويمات شعرية، وبنفس الوقت حجر عثرة أمام تحقيق القوة والنجاح (بدءاً من الحروب الصليبية)، ولعلّ تاريخ الفاتيكان نفسه يشهد ضمنيا، بأنّ الكرسي الرسولي ورغم التناقض الشكليّ، كان منصة لصعود إنسان نيتشه. وكم كان حريا بدستويفسكي أن يدّخر مقولته : “عندما يموت الله يصبح كلّ شيء مباحاً”، فالربّ (له المجد والملك) أباح كلّ شيء منذ أمد بعيد، وأطلق يد أمراء إسبانيا ومطارنتها لغزو أمريكا الجنوبية، وجلب ذهبها، وتعميد المليون الأخير من شعوب الإنكا والمايا (بعد إبادة 24 مليونا فيما بين القرنين16و17)..
فالكلام عن صراع مع الدين (الكنيسة)، هو كلام نسبيّ وأحيانا اختزاليّ، ينفيه الحاضر والماضي القريب، فالدين كان حاضرا في مباركة مدافع فرانكو أيام الحرب الأهلية الإسبانية. وحاضرا في مقولة ستالين، عن هزيمة النازية بجنود يرتدون قبعات القيصر، وكان حاضرا في نشوء إسرائيل على أشباح الآباء الأسطوريين، وحتى في أحلام السيد بوش وبلير. لكن وتخفيفا من حدّة المغالطة أو المغالاة عليّ الاعتراف بأنّ حضور ذلك الدين، كان بتجلّياته كثقافة وهوية ووعي جمعيّ، وليس الدين المختزل في بضع آيات وركعات. ولتأكيد ذلك أسوق مثال النمسا (حيث أعيش) فالمعروف أنّها بلد كاثوليكي حتى النخاع، عاش تحت سلالة الهابسبورغ التي عاصرت الدولة العثمانية وانقلعت معها عام 1918 بعد أن حكمت قرونا كسلالة ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، ومفاتيح القدس، لكنّ شعب النمسا أعاد انتخاب اللاديني (الملحد؟) هانس فيشر رئيسا ومنحه 79% من الأصوات، ومنح خصمه الكاثوليكي 5% فقط لما أثاره من سخرية، عندما اقترح وقوف نوّاب البرلمان كالتلاميذ وترديد: “أبانا الذي في السمَوات”، فالموروث المسيحي الثقافي لأوروبا لم يصبْها بالعمى، ولم يمنعها من الإقرار بأنّ للحداثة فرادتها وندرتها، وقدرتها على صياغة الحياة، لما حقّقته من كفاءة وجدوى في تفسير الطبيعة وفهمها وترويضها والحدّ من جموح الآلهة، لأنها في العمق نظم وآليات مقايسة عقلية تنأى بالإنسان عن العشوائية وأحكام الغيب.
*افقَرّ (أصيب بالفقر) واقفَرّ (أصبح قفرا) مجرد اقتراح لاشتقاق صيغة فعلية جديدة على وزن احمرّ اسودّ
ملاحظة: لا أجد ضرورة لذكر مصادر الاقتباسات الواردة، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى