بـيـن “أهل الـيمـيـن” و”أهــل اليسـار”: نـظــرة مــخــتلــفــة
عايدة الجوهري
لماذا مفهوما “اليمين” و”اليسار”؟
اخترنا اعادة التفكير في مضامين ودلالات مصطلحي “يمين” و”يسار” لاختزان كل من المفهومين جملة من المفاهيم تكشف عن المنطلقات الفكرية والقيمية والاخلاقية الكامنة وراء مواقف اصحاب القرار ومن ينظّر لهم، واستطراداً منطلقات ذوي السلطة في المواقع التقريرية والمؤثرة في حياة المجتمع والافراد، والتي تحتاج الى دراسة خاصة اذا اخذنا بنظرية “فوكو” حول توزع السلطة الى عدة مراكز قوة.
يختزن المفهومان مجموعة من الافكار المترابطة والمتوالدة تحول كلاً منهما الى مفهوم – ملك، يشكل منهجاً فكريا لمقاربة العديد من الظواهر والاحوال تبدأ بمعنى كينونة الانسان بحد ذاتها، وعلاقة هذه الكينونة بنظيراتها، لتمتد الى حضور هذا الانسان في الاقتصاد والقانون والاجتماع والفلسفة والثقافة…
فضلا عن ذلك يؤمل من اعادة فرز المفاهيم المتناثرة وتصنيفها، المساهمة في اعادة تشكيل المعاني والتدقيق فيها، وبلورتها بغية امتلاك مزيد من الادوات لفهم الوقائع والظواهر والافعال وتحليلها لجلاء الافكار والحقائق. هي غاية معرفية، ولكن موضوع هذه المعرفة، التي تبدو نظرية بحتة، ملتصق التصاقاً شديداً بالحدثين السياسي والاجتماعي، بالحياة اليومية، وتالياً بمسارات الافراد والجماعات ومصائرهم.
لاعادة التعريف اعتمدنا تقنية المقارنة التي تؤهل لها اصلا علاقة المصطلحين الضدية، فلو لم ينوجد “اليمين” لما انوجد “اليسار”. فلا وجود لـ”اليسار” بدون “اليمين” فوجود احد المصطلحين ملازم، مفهومياً، لوجود الآخر، فاليسار هو بمثابة الاجسام المضادة Anticorps لأجسام “مريبة” يعتبرها غريبة على منطقة قيمه وتصوراته ومعارفه.
من جهة اخرى قصدنا بـ”اليميني” و”اليساري” اولئك الفاعلين نظريا واجتماعيا لا المتلقين العاديين الذين يتحركون وفقاً للخطاب المهيمن، ولما يملى عليهم، مستهلكين ما يقترحه عليهم زعماؤهم الزمنيون والروحيون، دون ادنى اعادة نظر. سنبدأ بما يؤسس كلتا الايديولوجيتين، لنتطرق الى انعكاس هذه الاسس على ظواهر حياتية عديدة وهي بمعنى ما نظرة فلسفة لماهية الانسان وموقعه من نظرائه وموقعه في التاريخ والمجتمع.
النظرة الى الانسان
اساساً، يؤمن اليساري بمساواة البشر الجوهرية بالعقل والمنطق ابتداء من مقولة ديكارت (1650 – 1596) الشهيرة، التي جاءت في كتاب “خطاب المنهج” حيث قال: “بين كل اشياء هذا العالم، يبدو ان الحس السليم هو الاكثر مساواة في التوزيع بين الناس” اذ يعتقد ديكارت ان كل انسان يمتلك هذا الحس السليم، اي ان ملكة تشكيل الحكم الصحيح، وتمييز الصواب من الخطأ او ما يسمى العقل، هي ملكة متساوية طبيعياً بين كل الناس، وان الذات المفكرة هي الحقيقة اليقينية الاولى، وجعل ديكارت الفكر صنو الوجود “انا افكر، اذا انا موجود”، والفكر عمل العقل الفرد ولا يكون فرد ولا عقل فردي الا بالحرية. القول بوجود عقل فردي يجعل الفرد حرا في افعاله.
مهدت هذه النظرية المبنية على توكيد انسانية الانسان، وعلى امتلاك كل فرد المنطق والحس السليم والقدرة على الفهم والتعقل، وعلى المساواة الاولية بين البشر، الى القول باستقلال الانسان وبحريته وبالتالي مسؤوليته عن افعاله واستقلاله عن العالم الغيبي.
ولما كان اليساري يؤمن بالمساواة الجوهرية بين البشر فهو لا يفرق بينهم على اساس العرق او اللون او الجنس او الدين او الطبقة خلافا لليمين، كما هو لا يرى في اختلاف الثقافات عاملا للتمييز بين البشر ولا مبررا لاضطهاد بعضهم بعضا، ولا يقتنع بتحول الثقافات هوية وجودية احادية، نهائية، تامة وثابتة، تبنى على اساسها الايديولوجيات والنظرة الى العالم والسياسة، وتحويل ما تبقى من اشكاليات الوجود الانساني الى تفاصيل ونوافل.
يخشى اليساري الصلة العضوية بين التعصب الثقافي والديني والعرقي والفاشية والنازية والارهاب.
هذا لا يعني انه لا يولي الثقافات الخاصة بالشعوب اهمية خاصة، ويرى فيها ثراء وجمالية ومعنى وضرورة، ولكنه يستبعد مبدأ تحويل “الخصوصية” الثقافية فكرة عقائدية هوياتية تفضي للنظر الى الآخر من خلال هويته الثقافية، فما يعني الهوياتي هو تحقيق الحرية من اجل مشروعه، هو، لا من اجل حرية الآخرين، وتحررهم البشري والطبقي والمعرفي.
تنحدر وجهة نظر اليساري الى الوجود والكون من مسار فلسفي طويل افتتحه ديكارت وآل الى وجهة نظر الحداثة التي ترتكز بشكل عميق على المركزية البشرية. “ان الانسان هو النقطة الوحيدة التي يجب الانطلاق منها، واليها يجب ان نعيد كل شيء”، كتب ديدرو عام 1755، وبعد سنوات عدة حسم ايمانويل كانت هذه المقولة فالفكرة الاساسية لديه تفيد بأننا لا نستطيع الاعتراف الا بما ننتج وان معرفتنا بالعالم هي البرهان على ان خاصة العالم هي في انه ليس بمعطى مطلق، على الأقل في بنيته الاساسية، وانما هو شيء ننتجه نحن، فالانسان في الاصل والمرجع.
رغم التشكيك اللاحق بصوابية هذه المقولة وتحميلها مسؤولية الغطرسة التي لحقت بالذات البشرية والتي حدت بالانسان، المأخوذ بعظمته المستجدة، الى تسخير موارد الطبيعة جملة، لمنافعه واهوائه، سواء بالتلويث او التصحر او القتل والتدمير، الا ان عدوانية الانسان المرافقة لوجوده منذ الازل، لم تكن تنتظر الاعتراف بملكاته وسيادته على الارض، كي تنطلق وتتفجر في كل الاتجاهات، على حساب قوة العقل والمنطق والروح الانسانية العامة، فتدميره لنظيره الانساني ولباقي الكائنات وللطبيعة، سبق اعجابه بذاته ووثوقه المطلق بحريته وبسيادته على العالم.
آلت هذه النظريات، القائمة على مفهوم الوحدة الانسانية الى اعلاء شأن الكرامة الانسانية، كرامة كل انسان، اياً كانت خصائصه وملامحه، والى التأمل في حقوقه الفردية الشخصية، وفي تلك المرتبطة بموقعه في المجتمع، انطلاقا من فكرة المساواة الاصيلة بين البشر في العقل والمنطق والتركيبة الشعورية والحاجات والحرية.
اللامساواة
بين اليمين واليسار
يعتقد اليميني، ان اللامساواة تعود الى اصول غيبية، الى عدالة عليا، عهد اليها بتكريسها، تناقض العدالة الارضية، الى حقائق ابدية وقيم مطلقة وقوانين طبيعية، تبقي الامور على حالها. فالمراتب والمواقع والموارد الفردية والفئوية المحصلة، هي بمنظار اليميني، وليدة القدر والحظ والمصادفة، فيرى الى مكتسباته، او مكتسبات من يدافع عنهم، عندما يكون هذا اليميني منظرا او داعية، كمآل مسار طبيعي بديهي.
وصاحب الامتيازات يقبل بكل “تواضع” بالمكان الذي خصص له في العالم، فقد اختاره له الله والقضاء والقدر وقانون الصدفة. وهذا يكفي لتأسيس حقه. اما بالنسبة الى المحرومين فان الاستسلام وحده سيسمح لهم باستحقاق المكافآت السموية، والتي تعيد توطيد العدالة. ولقد كتب راهب فرنسي منذ الف عام “ان كل قوة تأتي من الله ولقد شاء الله نفسه، ان يكون بعض البشر سادة والآخرون عبيدا، بحيث ان السادة مطالبون باجلال الله والعبيد مطالبون باجلال سادتهم”. وكتب شاتوبريان ذات يوم يقول: “يمكن ان نضيف الى قوة الحاميات العسكرية، القدرة الفائقة للآمال الدينية”، ولن يتعذر علينا العثور في تراثنا العربي على حشد من النظريات والتعاليم توصي ببقاء البشر وثباتهم حيث قدر لهم ان يكونوا، مبررة مواقع الافراد الطبقية والسلطوية بالارادة الالهية الصرفة”.
لقد ناب الدين مدة طويلة وينوب مناب الايديولوجية لدى اصحاب الامتيازات ويتطلب من الآخرين الخضوع للمشيئات الالهية. فالانسان المقموع الذي يعبر عن شعور مبهم بالذنب، والذي يبحث عما يعيد التوازن الى نفسه القلقة والمرتابة، ليس له الا خلاص واحد، ان يخضع للمشيئات الالهية. وعندما يبلغ الطغيان ذروته قد يفتش الانسان المقهور في ثنايا الخطاب الديني عما يعيد اليه توازنه ويروح يمنّي النفس بعدالة الهية قد يرهب الآخرين لاجبارهم على تحقيقها.
واذا طبقنا هذا المفهوم على النظام الطائفي في لبنان، فسوف نجد ان الفرد العادي في هذا النظام، يظن ان قدره، هو ربط وجوده السياسي الكامل بطائفته، وان المشيئة الالهية ارادت ان يناضل ضمن هذه الطائفة وان يربط مصيره بمصيرها. ولكن بعض اليمينيين لا يستثمرون في المقولات الميتافزيقية فحسب، فينظرون الى الارضي والدينوي ويوظفونه، فيرى هؤلاء الى امتيازاتهم كمحصلة معطيات وسمات شخصية، جينية وراثية، تخولهم القدرة على المبادرة والاقتحام والمغامرة والابتكار وتالياً النجاح والارتقاء.
هذا الاعتقاد نراه لدى انصار الليبرالية المتفلتة، حيث تختمر فكرة ان الحياة صراع ينتصر فيه الاقوياء والبقاء للأصلح. وكل شيء يلقى عندئذ على قوانين الطبيعة وعلى طبيعة الانسان الذئبية، ويصبح تفوق الاثرياء والحاكمين منوطاً بالطبيعة، بانتخاب طبيعي، يرفع اصحاب الامتيازات فوق النوع البشري. وما على أولي الامر سوى أن يطلقوا حريته وحرية رأسماله، وان يزيلوا التشريعات التي تعوق جيشانه واندفاعته، كي يروا ما يدهش العالم وفرة ورخاء وتقدماً ونمواً. حينئذ يستحيل على الانسان العادي الملعون من الآلهة والسيئ الحظ والفاقد المواهب الفطرية أن يكتسب هذا التفوق، مثلما يستحيل على بذرة الشعير أن تنتج حبة القمح وعلى شجرة السفرجل أن تنتج ثمرة المانغا.
في البلاغة اللغوية الرفيعة يعبر عن فكرة الانتخاب الطبيعي والتفوق الوراثي بعبارات ومفردات من طينة “نبل المحتد” أو “الاصالة والعراقة” أو “علية القوم” وفي اللغة الشعبية يتحول المتفوق الى “ابن اصل” “ابن عيلة” وتبرر ثروته بـ”الله عطاه”، أو “طلع قد حاله”، و”شاطر”.
على النقيض من ذلك ينطلق اليساري من مبدأ المساواة الاصيلة بين البشر ويرى ان اللامساواة ذات اصل اجتماعي وصنيعة الفكر والارادة البشريتين، وعلاقات قوة لا متوازنة، وصنيعة فرص توافرت للبعض دون آخرين، وقد يرى وراء كل ثروة جريمة اخلاقية وقانونية، أي انه يعني ان الفرد لا يصنع مصيره بمفرده مهما بلغت درجة حريته، بل ان مصيره مرتبط بشبكة من علاقات القوة والموازين، ورزمة من الفرص تبدأ من شروط ولادته.
فالولد الذي ينشأ في أسرة أمية فقيرة انجبت جيشاً من الاولاد، لا يحظى بالعناية التي يحظى بها من ولد في عائلة متعلمة وميسورة أو متوسطة، قليلة العدد، تلبي حاجاته للتفتح العقلي والعاطفي، والمدرسة التي تزود الطالب بمهارات رفيعة، وتطلق مجموع طاقاته، غير تلك التي تزوده بقليل من المهارات، وتميت طاقاته، والامر ذاته يصح على الجامعة وعلى مصادر المعرفة الموازية. أي ان الأسرة والمدرسة تزودان المرء برساميل رمزية، الى مهارات عقلية ومعرفية واجتماعية وعاطفية، تؤهله لإيجاد موقع له في المجتمع، حيث ينهض الصعود الاجتماعي ايضاً على رساميل رمزية الى جانب الرساميل المالية، والعقارية أو الصناعية أو الزراعية والمصرفية. مع العلم ان الصعود الاجتماعي المستند الى رساميل رمزية مكلف، ودونه عقبات وصعاب. والفرق جلي بين وتيرة صعود ذي الرأسمال الرمزي قياساً بذي الرأسمال المادي، وفوق ذلك يوفر الثاني غالباً الفوز بالاول، مما يجعل المشكلة تدور في حلقة مفرغة.
وكذلك على ابواب الحياة العملية تنتظر ذوي المهارات حواجز تختلف من بلد الى آخر ولكنها بأية حال تتجاوز مفهوم الكفاءة لتصب غالباً في جذور الفرد الطبقية. فالعائلات المكونة للطبقة المالكة والحاكمة تتآزر وتتبادل الخدمات والمناصب. هذا التمييز بين فرد وآخر على أبواب الحياة العملية والعامة يشكل طبقة جديدة من اللامساواة المرتبطة بالولادة وبالاصول البيولوجية لا بالكفاءة المحضة.
بكلمات أخرى يربط اليساري الصعود الاجتماعي والطبقي للفرد، بمنسوب سلطة الخصم الطبقي السياسية والتشريعية والتنفيذية والاقتصادية، وهو يعتبر نفسه، بمعنى آخر مشروطاً conditionne، أي ان هناك شروطاً وظروفاً تتحكم بمصيره ومصير نظرائه، تفوق ارادته الشخصية مهما بلغت صلابتها، هي شروط سابقة على ولادته.
وهذه الشروط تتفاوت بين بلد وآخر: ففي البلاد التي تجذرت فيها شرعة حقوق الانسان، كمحصلة للفكر النهضوي الاوروبي، التنويري، خفت مع الزمن سلطة الخصم الطبقي، وحوصرت هذه السلطة بتشريعات تاريخية، حفظت حق العامل والموظف، وأجبرت مالك وسائل الانتاج، المادية والرمزية، على المشاركة في كلفة الحياة المشتركة، عبر الضرائب التصاعدية وإعادة توزيع الموارد العامة.
حوصرت هذه السلطة بتشريعات تاريخية هدفت الى ايجاد توازن اجتماعي وانساني. ففرص المواطن الإسكندنافي أياً كانت منابته الاجتماعية، لا تقارن بالفرص المتوافرة للمواطن في بنغلادش، أو في لبنان ومصر أو حتى في معظم البلدان العربية.
نظرة اليمين الى الجماهير
لما كانت اللامساواة الاجتماعية، في منظار اليميني صنيعة القدر والارادة الإلهية والمصادفة، أو المؤهلات الجينية الوراثية والسمات الشخصية الاستثنائية، فأي اعتراض من قبل الجماهير المستغلة والمعذبة، المحرومة من خيرات ارباب عملها، ومن الخيرات العامة، يعاش كرفض لأمر واقع “سوي”، لحقوق “بديهية”، “طبيعية”، ويُنظر اليه كتعبير عن عقد نقص غريزية، تفجرت حقداً وحسداً، كشر تاريخي، كنتاج للشعور بالعجز والنقص، تجاه من يملك الثروة وإرادة القوة.
هذه الاحكام تساعد الحاكم المتسلط على تبرير لجوئه للقمع وللجم الحراك الشعبي الاعتراضي، ولو تطلب الامر اراقة الدماء والسجن والتعذيب ومماثلة هذا الحراك بأعمال الشغب والفوضى المجانيين. كان العرب القدامى ينعتون الثائر ضد النظام العبودي بالمفسد والمفتن والمخرب. ولا يظهر المهمشون، الثائرون، كضحايا للنظام، بل كدمى في يد المصادفة والقدر، وكمسؤولين عن مصائرهم، دونهم هم.
وقد لا يلجأ الحاكم الى القمع المباشر والعاري، بل يلجأ الى استراتيجية ملتوية، غير مباشرة، وقائية، فيخطط بعقل بارد، استراتيجي، لإفقاد هذه الجماهير حقها في التضامن والتآلف والتنظيم، للدفاع عن مصالحها، إما بمنعها الكلي من الانتظام في نقابات وروابط، كما هي الحال في الانظمة العربية، وغير العربية، الاستبدادية التامة، وإما بتفتيت النقابات والروابط وافراغها من محتواها، والتحكم بقراراتها، وجعلها أداة لتنفيذ غاياته هو، أي مصادرتها وتشويه دورها وقلبه رأساً على عقب. يمثل لبنان نموذجاً مثالياً لهذه الوضعية.
وبالتالي تصبح الجماهير محبوسة في وجودها الاختباري وتتحول الى كتلة صماء بكماء، لينتفي عنها الجوهر الانساني، وهي لا واعية متماثلة، ذات طابع كمي، لا شكل لها، فارغة، ولا قيمة لوجودها سوى كونها موضوع سلطته.
يعتقد اليميني ان القوة والامر الواقع هما اللذان يؤسسان القوة لا الحق، وبسبب ذلك لا يكترث للغة الحقوق، حقوق الآخرين، ويعتبرها خارج ميزان القوة القائم، ومجرد لغو.
وعلى النقيض من ذلك، يعتقد اليساري أن الانظمة والاعراف والمعتقدات والنظريات وأعمال القوة التي آلت الى هذه اللامساواة، هي نتاج تراكم مظالم تاريخية وراهنة، وعلى الفرد أن يعي هذه المفارقات والتناقضات وأن يعمل على تعديل موازين القوة لمصلحة مظلومي النظام ومهمشيه.
تنسحب هذه النظرة المختلفة الى ماهية الانسان الوجودية والى أولويات الحراك الاجتماعي وأصول اللامساواة على مقاربة كل من “اليميني” و”اليساري” للعديد من الأنشطة البشرية والظواهر الاجتماعية والثقافية كموضوعات “العمل” و”المال” و”الرفاه” و”الاستهلاك” و”التنمية” و”البيئة” وأخرى رمزية كموضوعات الدين والعلم والفن والثقافة والنقد والاعلام والعنف والسلام والهوية، أو سياسية بحتة، كموضوع الدولة والقانون والسلطة الخ…
ومن جهة أخرى ورغم وحدة المنطلقات والأسس التي تقوم عليها كل من منظومتي أفكار “أهل اليسار” و”أهل اليمين”، إلا اننا نجد في الاتجاهين تصورات مختلفة لترجمة هذه الافكار وإدارة المجتمعات والوقائع، ومقاربة الاشكاليات التي تطرح على أرباب الاتجاهين فإذا وجدنا مثلاً بين “أهل اليسار” من لا يزال يؤمن بضرورة، بل بحتمية الملكية العامة لوسائل الانتاج، يقابله من أهله من يرى استحالة العودة الى الوراء، لا بل يعتبر المسألة غير مضمونة النتائج، كما جرى في الاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال لا الحصر، ويقترح بدلاً من ذلك حصر الملكية العامة ببعض القطاعات، غير القابلة للمتاجرة كالصحة والتعليم والنقل والكهرباء والمحروقات (هل المحروقات مادة كمالية؟) وغيرها من القطاعات.
ويروح يفتش عن صيغ عملانية لإدارة هذه “المعضلة”، على أن تكون قمينة بتوليد التوازن وبالتأسيس لتكافؤ في الفرص حقيقي بين مواطني الدولة الواحدة، وكفيلة بإعادة توزيع الثروة الوطنية توزيعاً عادلاً.
وفي الضفة الاخرى، نجد بين “أهل اليمين” من يعي لأسباب براغماتية بحتة، لا إنسانوية، محاذير الحرية المطلقة المعطاة للرأسمالي، والتي قد تنعكس سلباً عليه هو، جارفة من يعملون ويستثمرون في مؤسساته، كما حدث خلال الازمة المالية العالمية الاخيرة، حيث تنادى قادة الدول لوضع ضوابط على السوق بدل الرهان الدائم على “يد السوق الخفية”، أو كما حدث ويحدث في لبنان، حيث يحتج الصناعيون وكبار مالكي الاراضي الزراعية وصغارها وبعض النقاد الليبراليين على السياسات الرسمية النيوليبرالية المعتمدة منذ 1992 والتي أدت الى إفلاس العديد من المصانع وكساد المنتجات الزراعية، وتوليد أفواج من العاطلين عن العمل، مطالبين بحماية الصناعة والزراعة المحليتين، وكبح جماح تدفق السلع على السوق الداخلية، والعمل على تسويق المنتجات الوطنية في الخارج، أي بالتدخل في “السوق” وعدم الأخذ بمبدأ “كف يد دولة” وإطلاق الحرية للرأسمال الخارجي، أي ان النيوليبرالية، وقبلها الليبرالية المتمادية، ولدّت درجات مختلفة للخطاب والسلوك اليمينيين، أي ضمن البيت الواحد، وقد نجد في التاريخ الحديث أنظمة يمينية قامت بـ”تنازلات” تمت تحت وطأة النضالات اليسارية بالذات، وأدت الى تطويع الخطاب والسلوك اليمينيين.
هذه بعض الامثلة التطبيقية على تكييف الخطاب اليميني اليومي مع المستجدات، وهذا ينطبق على الخطاب اليساري عندما يكون ديناميكياً، فكرياً، وعملانياً.
(استاذة في الجامعة اللبنانية)
النهار