«سبينوزا العرب» العفيف الأخضر: من الثورة إلى الإصلاح فالتصالح
صقر ابو فخر
وصفه بعض المعجبين بأنه «سبينوزا العرب». وهذا وصف فيه كثير من المبالغة التي تجانب المعرفة والنقد، والتي تندرج في سياق المدائح والتهليل. وكان من الممكن أن يكون العفيف الأخضر سبينوزا العرب حقاً لو سار في مشروعه الجريء لنقد الدين حتى النهاية… وهذا ما لم يفعله قط. لقد نقد سبينوزا اليهودية وأسسها التاريخية والأخلاقية التي نشأت عليها، وأنزلها من موقعها إلى مكانها الموضوعي في سلسلة تاريخ الأفكار. والمعروف أن ثلاثة من اليهود تمكّنوا من خلخلة قوائم اليهودية وهم: كارل ماركس وسيغموند فرويد، وقبلهما باروخ سبينوزا. أما العفيف الأخضر الماركسي الفرويدي فقد انفتل فجأة عن مشروعه النقدي الراديكالي، وراح يخطو بالتدريج نحو الليبرالية النقدية. ومع أن العفيف الأخضر استخدم أسلحته الفكرية في نقد الجماعات الدينية المسلحة وهذيانها القيامي وتعصبها المروّع وكراهيتها للحداثة، إلا أنه توقف عن نقد الدين، كتجربة بشرية خاصة، أو كحركة تاريخية لها ميدانها المخصوص، بل إن المشروع الفكري الذي دشنه في سنة 1972 لمصلحة العلم والتفكير العلمي بات فاتراً في نهاية القرن العشرين «لأن العداء بين الدين والعلم الذي استفحل في القرنين 18 و19 ما عاد مطروحاً اليوم» بحسب العفيف الأخضر.
كان العفيف يأخذ على طه حسين تراجعه عن كتابه «في الشعر الجاهلي» وعن تشكيكه في التراث العربي حينما قبل بحذف الفصل المثير منه، وتغيير العنوان إلى عنوان جديد هو «في الأدب الجاهلي». وكان يأخذ على منصور فهمي تراجعه أمام الأزهر وعدم نشر أطروحته الموسومة بعنوان «أحوال المرأة في الإسلام» التي برهن فيها أن أحوال المرأة قبل الإسلام كانت أفضل بكثير من أحوالها بعد الإسلام. غير أن العفيف الأخضر تراجع بدوره عن فكرة الثورة إلى أفكار الإصلاح، وعدّل نظريته في هزيمة الرأسمالية إلى التصالح معها، وتراجع عن فكرة تحطيم الصهيونية (فلسطين الاشتراكية ضمن شرق أوسط اشتراكي) إلى تبني مقولات حزب العمل الإسرائيلي.
[[[
ولد العفيف الأخضر في سنة 1934 في قرية «مكثر» التونسية لعائلة من الفلاحين الفقراء جداً. ودرس مصادفة في مدرسة قريته، حينما كان يرافق يومياً ابن صاحب الأرض التي يعمل فيها والده إلى المدرسة، وينتظره في الصقيع حتى موعد عودته. وقد أشفق عليه ناظر المدرسة وأدخله إلى الصف، فإذا به يحفظ الدروس بسرعة وبلا كتب… وهكذا انتظم في الدروس الرسمية. وعندما توفي والده في سنة 1947 أصيب بصدمة مروِّعة وبجروح لم يشفَ منها إلا بعد وقت طويل. وتابع دراسته في المدرسة الزيتونية، أنهى فيها دروسه الثانوية سنة 1954، ثم التحق بمدرسة الحقوق العليا في تونس العاصمة بمساعدة من خاله، وتخرج فيها في سنة 1957. وفي هذه الأثناء تأثر بأفكار الشيخ الفاضل بن عاشور، وتأثر بالحبيب بورقيبة كذلك، ولا سيما بقانون الأحوال الشخصية الذي صدر في سنة 1956.
امتلك العفيف قوة دافعة من الرفض والتمرد، ربما بسبب «جرحه النرجسي» المؤلم المتمثل بفقره وبوفاة والده المبكرة. وكان يتآلف مع جميع الكتابات التي تتمرد على المألوف، أو تحض على الثورة. ولكتابات عبد الرحمن الكواكبي وشبلي الشميل وطه حسين وقاسم أمين ولطفي السيد وسلامة موسى وأحمد أمين شأن في تكوين وعيه النظري والسياسي، علاوة على تأثره بالقديس أوغسطين، وبالوجودية كفكر، وبالناصرية كسياسة. وفي ما بعد، عندما راح يتحول نحو الماركسية، وأدار ظهره للفكرة اللينينية واختط نهج ماركس وانغلز وروزا لوكسمبورغ، ثم أُغرم بفرويد وولهلم رايش.
عمل محامياً بعد تخرجه، ثم هجر المحاماة بعد ثلاث سنوات لأنه خسر قضية المعارض التونسي صالح النجار الذي حوكم بتهمة محاولة اغتيال بورقيبة بتكليف من صالح بن يوسف الذي كان يقيم في القاهرة، وقد حكم على صالح النجار بالإعدام. ونتيجة لدفاع العفيف عن النجار فرضت سلطات بورقيبة الاقامة الجبرية عليه في سنة 1958. غير أنه تمكن في سنة 1961 من الفرار إلى باريس بعد ثلاث سنوات من المعاناة، وساعدته مجموعة ثورية جزائرية في عملية الفرار. ومن باريس سافر إلى الجزائر فور استقلالها، وهناك شهد تجربة «التسيير الذاتي» التي استهوته كثيراً وشكل مع محمد حربي وحسين زهوان وآخرين مجموعة ماركسية قريبة من الرئيس أحمد بن بلّة، ومتأثرة جداً بأفكار «بابلو» (اسمه الأصلي: ميشال رابنيس) وهو أحد الخارجين على الأممية الرابعة، والأمين العام للاتجاه الماركسي الثوري في هذه الأممية، وأحد دعاة التسيير الذاتي. وكان حسين زهوان نائباً للرئيس بن بلة في قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
راح العفيف الأخضر يكتب في جريدة «الثورة والعمل»، وعُرف براديكاليته ومشاكساته وسجالاته الحادة التي كان يتجنبها الشيوعيون والإسلاميون معاً. وردد كثيرون آنذاك جملة مشهورة هي: «الثالوث المخيف: طاهران وعفيف». أما الطاهران فهما: الطاهر وطار والطاهر بن عيشة. وفي الجزائر تعرف إلى خليل الوزير (أبو جهاد) في سنة 1963، وعمل معه في أول مكتب لحركة فتح، وكان يترجم له بعض المقالات من الصحف الفرنسية. وفي هذا المكتب التقى ياسر عرفات في سنة 1964. ولاحقاً تمكن من جمع أبو جهاد وتشي غيفارا في فندق «إليت» في مدينة الجزائر سنة 1965، وكان المترجم بينهما.
في 19/6/1965 وقع الانقلاب العسكري الذي قاده هواري بومدين ضد أحمد بن بلّة. وفي الأثر فرّ العفيف الأخضر إلى ألمانيا الشرقية، ثم انتقل إلى تشيكوسلوفاكيا. وهناك اكتشف كابوس الاشتراكية، وأن هذه الاشتراكية التي أسماها «رأسمالية الدولة البيروقراطية» إنما هي سجن حقيقي. ومن تلك النقطة بدأت رحلته مع نقد اللينينية والستالينية، فتعرّض للهجوم العنيف من الشيوعيين، ولاحقاً من القوميين العرب ومن الاسلاميين ومن الموالين للغرب أيضاً. فالليبراليون رأوا فيه ماركسياً متطرفاً. والشيوعيون اتهموه بخدمة الامبريالية. والقوميون لم يحتملوا أطروحاته الفكرية الجريئة، وكان في عيون الإسلاميين شيطاناً رجيماً ونصيراً للإلحاد.
[[[
بعد مغادرته الجزائر في سنة 1965 ظل على اتصال مع أبو جهاد، واستمر في تزويده بما تنشره الصحف الفرنسية عن حركة فتح وعن الثورة الفلسطينية. وفي سنة 1966 جاء إلى بيروت بالتنسيق مع أبو جهاد، وراح يكتب في صحافتها ضد انقلاب هواري بومدين، ودفاعاً عن أحمد بن بلّة، ويطالب بإطلاق سراح الرئيس الشرعي للجزائر. وفي بيروت ترجم كتاب «العسف» لبشير حاج علي، وترجم ونشر أيضاً «مذكرات بن بلّة» التي صاغها «روبير ميرل». وكانت مجلة «الحرية» ومجلة «الآداب» ميدانه الأثير لنشر كتاباته. وبهذا المعنى كان العفيف الأخضر أول من أسس حملة للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي، هذه الحملة التي تحولت بعد فترة إلى «اللجنة العربية للدفاع عن أحمد بن بلّة».
غادر بيروت إلى باريس في أواخر سنة 1966 خوفاً من اغتياله بعدما اغتيل محمد خيضر في اسبانيا. وفي باريس تعرف إلى ممثلين عن جبهة التحرير الفيتنامية (الفيتكونغ)، ورغب في التطوع في فيتنام. لكن الفيتناميين قالوا له، إنه إذا أراد خدمة قضية الفيتكونغ، فما عليه إلا أن يكتب عنهم في صحافة العالم العربي، فهذا خير من الموت في أدغال «الميكونغ».
انتقل إلى ألمانيا في سنة 1967 لأنه رغب في دراسة الألمانية، كي يتمكن من قراءة كارل ماركس بلغته الأصلية. لكن اندلاع معركة الكرامة في 21/3/1968 غيّر خططه، وقرر الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية في الأردن، فاتصل بأبو جهاد الذي أرسل إليه بطاقة سفر إلى بيروت. ومن بيروت إلى دمشق حيث كان أبو جهاد في انتظاره، ليسافر إلى عمان بالسيارة مع فاروق القدومي وناجي علوش. وفي الأردن تعرف إلى بعض قادة المقاومة، واطلع مباشرة على تجربة حركة فتح وفصائل المقاومة الفلسطينية، وكان يقيم، في تلك الأثناء، في الشقة نفسها التي أقام فيها ياسر عرفات عند دوار مكسيم في عمان. واكتشف خلال جولاته على قواعد الفدائيين أن كثيراً منهم لا يمتلكون وعياً سياسياً، بل يتمتعون بوعي وطني عام. لكنه، حينما التقى محسن ابراهيم ومحمد كشلي في بيروت سنة 1968 نصحاه بلقاء نايف حواتمة، وجراء هذا اللقاء جال مع ياسر عبد ربه في قواعد الجبهة الشعبية. وما إن ظهرت الجبهة الديموقراطية كفصيل مستقل عن الجبهة الشعبية سنة 1969 قرّ الرأي فيها على إنشاء مدرسة للكوادر، وقد تولى الإشراف عليها العفيف نفسه. وفي هذه الأثناء راح يكتب في مجلة «الحرية» في بيروت، ويبتدع في عمان شعارات مثل: «كل السلطة للمقاومة»، و«لا سلطة فوق سلطة المقاومة» و«كل السلطة للمجالس» متماثلاً مع شعارات عمال روسيا إبان ثورة اكتوبر 1917 «كل السلطة للسوفياتات».
[[[
في سنة 1969 زار مواقع «الجبهة الشعبية لتحرير ظفار»، وأقام في المناطق المحررة من عُمان حتى سنة 1970، ثم عاد إلى بيروت بعدما نصح قادة الجبهة بالتفاهم مع السلطان الجديد، أي السلطان قابوس بن سعيد الذي كان انقلب على والده في 23/7/1970، ورغب في تحديث بلاده بعد عقود من الانغلاق والعزلة. وفي سنة 1969 حضر اجتماعاً لمجلس الوزراء في اليمن الجنوبي، وكانت المناقشات تدور على الاشتراكية وعلى الماركسية اللينينية، فقال لهم إن تطبيق الاشتراكية في مجتمع بدوي من المحال، والأفضل الانصراف إلى معالجة شؤون التعليم والعمل والمرأة، وإصدار قوانين تقدمية مثل قانون الأحوال الشخصية.
[[[
بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن عقب معارك أيلول 1970، أقام العفيف الأخضر في بيروت التي نشر فيها جميع كتبه، ولا سيما التي أثارت مجادلات وسجالات شتى. وفي مجلة «دراسات عربية» أكبّ على دراسة عوامل الاخفاق الفلسطيني في الأردن، وكتب عدداً من المقالات في نقد تجربة المقاومة الفلسطينية، وفي نقد اللينينية، وفي نقد الفكر الديني، وفي نقد التجربة الناصرية. وكان يوقع باسمه الصريح، لكنه أحياناً يوقع بأسماء أخرى مثل «حمدان القرمطي» أو «أبو مؤنس» (مؤنس هو ابن أخيه) أو «منتصر عليكم».
[[[
غادر العفيف الأخضر بيروت في أواخر سنة 1975، مع اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، وبعدما أنجز ترجمة «البيان الشيوعي» في ترجمة جديدة وغير مزورة كما كتب على غلاف البيان. وفي خضم تلك الحرب التي كانت ما تزال في بداياتها، كان العفيف يعارض الانحياز إلى برنامج الحركة الوطنية اللبنانية، وكان ضد الحرب كموقف مبدئي، ولا سيما تلك الحرب بالذات، وكان يقول ان لبنان يجب أن يبقى كما هو بتوازناته الطائفية، فهذه التوازنات هي التي تتيح للبنان أن يستقبل العفيف الأخضر وأمير الكويت في مكان واحد وفي وقت واحد من غير أن يطلق أحدهما النار على الآخر، وهي التي تتيح للثوريين العرب أن يطبعوا ما يشاؤون من المنشورات في لبنان، ثم يرسلونها إلى الأقطار العربية، وأن يجد الهاربون من العسف ملجأ لهم في هذا البلد.
أقام العفيف في باريس بعد بيروت. وفي باريس أصيب بـ«إكتام المكان»، فلم يكتب إلا القليل، ثم عاود الكتابة، بغزارة، في أوائل تسعينيات القرن العشرين. لكن، في إحدى حلقات برنامج «الاتجاه المعاكس» (قناة «الجزيرة»، 18/10/2002) هاجم نظام العقوبات في المملكة السعودية، فمنع من الكتابة في جريدة «الحياة» التي كان يكتب فيها مقالة في كل أسبوع منذ سنة 1997. وفي تشرين الأول 2003 دهمه مرض نادر عطّل أصابعه ومنعه من الكتابة. وافترى عليه راشد الغنوشي في 6/5/2005 واتهمه كذباً بأنه هو المؤلف الحقيقي لكتاب «المجهول في سيرة الرسول» الذي صدر بتوقيع مستعار هو «الدكتور المقريزي». ومنذ ذلك الوقت والعفيف الأخضر يعاني آلام اليدين والعزلة وتفرق الأصدقاء وافتراءات الكذبة.
السفير