تعلموا الديمقراطية من دول إسلامية لكنها ــ مع الأسف ـــ غير عربية….لماذا؟
فلورنس غزلان
الكثير من المثقفين العرب نعوا الديمقراطية في بلاد الإسلام، واعتبروا أن الإسلام هو العائق الأساس والمعضلة الصعبة في إقامة الديمقراطية، كونها تتناقض والتعاليم الإسلامية!!…لكنهم لم يبذلوا جهدا.في التعرف على محيط أقرب إليهم من الدول الغربية المتهمة بتصدير الديمقراطية لنلحق بها استعمارياً!، في الوقت الذي تقبع فيه دول على بعد فراسخ منا وتجاور الكثير من بلداننا العربية ، دول افريقية إسلامية اتخذت من الديمقراطية نهجا سياسيا وحلا لمشكلاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وتتشابه معها ليس في الأسلمة فقط، وإنما في تعددية الانتماء الإثني والطائفي والقبلي، وتعدد اللهجات بل اللغات أيضا، لكنها لا تحمل بهرجة إعلامية ولا سمعة تكنولوجية وتنتمي لعالم الفقر والنمو…وهنا يكمن التشابه ، لكنها على ما يبدو أدركت قبلنا وسبقتنا بمراحل في وعيها للحل الأمثل… لقد وجدت هذه الدول أن الحل الوحيد لمعضلاتها هو تبني الطريق الديمقراطي لتتخلص من نزاعاتها الإثنية وحروبها الطائفية والقبلية والعرقية، فعمد مسئوليها…رغم أن بعضهم خرج من ثياب العسكر وتنحى ليسمح للحياة المدنية والتعددية الحزبية أن تأخذ طريقها لحيز الوجود، دون أن يخشى على نفسه ولا مكانته شيئا، لأنه يوقن أن العدل والمساواة والقانون المدني هو طريق النهوض والخروج من حصار التدهور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.ا
أتعرف ياصديقي وابن بلدي، أن العبرة هذه تأتينا من أكثر الدول الإفريقية فقراً؟
نعم إنها دولتي مـــــا لـــــي والسنغـــــــــال!
كما لا يسعنا أن ننسى أكبر دولة إسلامية في تعداد سكانها ومساحتها ومكانتها بين دول شرق آسية، والتي حكمها ديكتاتور عسكري كقائد وحيد امتلك المال والسلطة…وترك الفساد ينخر حكومته والمقربين منه حين استخدموا السلطة من أجل الثروة…فعمدوا لإفقار البلاد وتخريبها…هل ننسى كيف حكم سوهارتو أندونيسيا لمدة 32 عاماً؟
وكيف قضى على كل الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية خاصة؟…لكن حركة الطلاب والشارع وثورته على الجوع والفساد…أجبرت هذا الحاكم الوحيد صاحب العصا والقمع والتسلط والأكثر دموية بين ديكتاتوريي عصره على التنحي ــ اللهم إلا ديكتاتوريينا الشرق أوسطيين ، فإنهم الأكثر تفوقا وندرة في البطش والفتك بشعوبهم والأشهر عالميا وإسلاميا وعروبيا بقدرتهم على القمع والقتل في السجون، وهل يعقل أن يقبل صدام حسين وشقيقه الألد حافظ الأسد أن ينافسهم في القمع والاضطهاد؟ــ
نعم أجبرته حركة الطلاب وثورة الشعب على الفساد والجوع على التنحي…ومغادرة السلطة وتسليمها…نعم عمت الفوضى البلاد لمدة قصيرة نسبة لما عاشته من إقصاء وقمع وفساد لأكثر من ثلاثة عقود بعد حكم ديكتاتوري طويل، لكن أندونيسيا اليوم خرجت من ثوب الديكتاتورية وودعته للأبد…وهاهي تنعم بالاستقرار السياسي والانتخابات الحرة والنمو الاقتصادي.
أما السنغال، والتي تقع مجاورة لموريتانيا العربية، التي ربما أصابتها العدوى هي الأخرى فعمدت للسير بركب جارتها ونأمل لها الاستقرار والحياة الرغيدة والرفاه الديمقراطي..كما تجاور المغرب العربي…لكن هذه السنغال ، والتي يدين 94% من شعبها يالدين الإسلامي، ويفوق تعدادهم ال 11 مليون نسمة، أثبتت أن مجتمعها من أكثر المجتمعات (علمــــانيـــــة )، لكن الإسلام لم يظهر كمنافس للسلطة في الدولة، وإنما كقوة موازية في المجتمع المدني …تراقب وتحد من بطش الدولة، وتأتي أهمية الإسلام في السنغال من خلال تمتين العلاقات بين الدولة والمجتمع لا في الصراع على السلطة…كيف لنا أن نغفل أن السنغال بعد استقلالها حكمها رئيس مسيحي كاثوليكي لمدة عشرين عاماً هو السيد ” ليوبولد سيدار سنجور”، …ربما أطلق عليه السنغاليون الكثير من الألقاب كنقد لمسيرته، لكن أيا من هذه النعوت لم يتخذ سمة الكفر والإلحاد ولم يتطرق لكونه من دين الأقلية! ـــ وهل ننسى نحن السوريون عندما كان لنا ديمقراطيتنا بعد الاستقلال ، أن رئيس وزرائنا كان المرحوم ” فارس الخوري “؟!!
أي الرجل المناسب يوضع في المكان المناسب حسب كفاءته وانتمائه للوطن لا للطائفة ولا للحزب القائد! ــ فقد أطلق عليه السنغاليون مثلاً لقب ” الداعر السياسي “…أو ” خادم فرنسا”
لكنهم أبدا لم يتناولوا دينه!.
رئيس السنغال الديمقراطي اليوم السيد ” عبدلله واد ” ، متزوج من مسيحية كاثوليكية، كما كان سلفه لدورتين انتخابيتين ، عبدو ضيوف متزوجاً هو الآخر من مسيحية!…هل يمكن أن تنطبق هذه الحال على دولة عربية مسلمة؟ ولماذا؟
إذن العيب ليس في الانتماء للإسلام كدين…لكنه ربما يدخل في الانتماء للعروبة؟! من يدري؟ ربما أن هذه الأنظمة التي جاءتنا باسم القومية وشعاراتها في ” الوحدة والحرية والاشتراكية” ، أو التي قلبت العملة إلى ” حرية وحدة اشتراكية” …كانت سببا في سقوطنا ببراثن الاستبداد وأنظمة احتكار السلطة بيد ديكتاتور واحد أحد، وحزب وحيد في القيادة للدولة والمجتمع؟! …كيف يمكننا أن نتصور أن بلداً كالسنغال فقير في موارده الاقتصادية، التي تعتمد على الصيد والزراعة وينتمي سكانها لمجموعات عرقية متعددة ” الوولوف، الفولانيون، السرر والتركولور …وغيرها من القبائل والإثنيات الأقل عددا، ولكل مجموعة لغتها وعاداتها، لكن لغة البلاد الرسمية هي الفرنسية، كما تتحدث غالبية السكان لغة الوولوف…
الأهم في كل ماسبق ، أن دستور السنغال ينص على أن:ـــ دولة السنغال ” دولة علمانية”
لماذا لا يجد سكانها اعتراضا وتعارضا مع دينهم؟…لماذا لا تحدث الفوضى والاضطرابات بين هذا التعدد السكاني؟ …ومع أن الكثير من عربنا، يعتبر أن السنغال دولة متخلفة وفقيرة!!
لكنها أثبتت أنها أكثر وعيا ونضجا وتطورا فكريا من الدول العربية قاطبة!
هل آخذكم بجولة لدولة أكثر فقرا تحاصرها الصحراء …وتشمل معظم أراضيها…وتساوي الصحراء ما نسبته 65% من أراضيها؟
إنها دولة مـــالـــي الإفريقية الإسلامية…ذات النظام الديمقراطي، والتي مرت بالكثير من الحروب الاثنية والصراعات القبلية، لكنها خرجت منتصرة على كل صعوباتها حين اتخذت من التعددية السياسية ونظام الانتخابات الحر مع نظام أحزاب متطور يعترف بكل الانتماءات السياسية ، حيث يوجد في مالي :ـــ
96 حزبا سياسياً تتنافس معظمها على السلطة، لأن نظام الحكم في مالي نظاماً تعددياً، ينتخب فيه الرئيس مباشرة من الشعب وقد فاز رئيسها الحالي ” ألفا عمر كوناري” ب 71.2% من الأصوات ــ أي لم يفز ب 99.9 % من أصوات لم تقترع ولم تشارك في انتخاب!! ـــ وتنافست هذه الأحزاب على المجلس التشريعي المكون من 147 عضوا وأهم تحالفاتها الحزبية هو” التحالف من أجل الديمقراطية الذي يشتمل على تحالف 14 حزباً”، هو الذي قدم الرئيس ألفا عمر وحصل على الفوز من خلاله…
علماً أن مالي تتكون من إثنيات عرقية متعددة أهمها، الماندي ويشكلون 50% من السكان ثم البول ويشكلون 17% ويليهم الفولتايك 12% ثم السنغاي 6% والطوارق والعرب ويشكلون 10% ومجموعات أخرى صغيرة.
يتحدث سكان مالي الفرنسية لغة البلاد الرسمية إلى جانب لغة محلية ينطق بها معظم السكان وتسمى لغة البمبارا ، ويدين معظم سكان مالي بالإسلام أي 90% منهم مسلمون والباقي بين المسيحية والديانات الإفريقية القديمة…
عاشت مالي الكثير من الاضطرابات والحكم العسكري بعد انقلاب عام 1968 والذي قاد فيه البلاد موسى تراوري، وخلفت الكثير من الجرحى والقتلى والمعاقين …لكن في عام 1991 تزعم السيد” ألفا عمر” انقلابا عسكريا وتنحى فيه عن السلطة وسلمها لحكومة انتقالية، نظمت انتخابات حرة وديمقراطية لأول مرة عرفتها مالي عام 1992 حين وقعت الحكومة على ميثاق ” اتفاق المصالحة الوطنية”، وتنعم مالي منذ ذاك التاريخ بالحرية والديمقراطية، وعاد رئيسها الحالي للحكم بعد انقطاع عشر سنوات .. أي أنه كعسكري لم يحتكر السياسة والحكم والسلطة، فقط عاد في انتخابات عام 2007.
و للإطلاع فقط، أزودكم بموقف من مواقف هذا الرئيس، الذي لا يرى تعارضا بين الإسلام كدين والديمقراطية كنظام حكم ، حين نفصل الدين عن السياسة ونترك لكل ذي شأن شأنه .
يقول في إحدى مقابلاته:ـــ” جمهورية مالي ، دولة ديمقراطية ولا يوجد لدينا تناقض بين الإسلام والديمقراطية، بل العكس هو الصحيح، لأن الإسلام يدعو للتكافل والتضامن والعدل والمباديء التي تقوم عليها الديمقراطية، هي أيضا مباديء إسلامية”.
لا أريد أن أحيلكم على جارتنا التركية ، راعية سلامنا الحالي!، لأن العديد منكم ربما يقول، أن العسكر فيها من يحمي علمانيتها، لكني أتمنى لو حذت معظم الأحزاب السياسية ، التي تتخذ من الدين الإسلامي منهجا سياسيا حذو حزب العدالة والتنمية التركي …أو أن تعمل على الإصلاح الديني وتطور المفاهيم ، التي تتخذ من تكفير الآخر المختلف شعارها وديدنها، أو تسمح لنفسها بتبني سلطة الله على الأرض والمدافع عن دينه ، ولا أعتقد أن الدين يحتاجها…كما لا اعتقد أنه بحاجة لكل هذا الحجم الهائل من الأحزاب الناطقة باسم الرب والمدافعة عنه وكل منها لا يرى غيره في الساحة ، بل ويحتكر الدين لنفسه ولمنهجه…ويعمل تقتيلا وإجراما، وكأن الله ودينه بعبعاً لإخافة البشر ونشر الذعر والهول والخراب في الكون!
لماذا إذن نختلف نحن العرب عن دول إسلامية أخرى؟، هل لكوننا أكثر تمسكا ، وأكثر صوابا في تديننا؟ ..أم لأننا أكثر تعصبا وشوفينية ؟ أم أن مأساتنا تكمن في أنظمتنا الاستبدادية الشمولية؟
ــ باريس في 21/06/2008
خاص – صفحات سورية –