أفريقيا المتوسطية: اعتدال ناصر وتشدد القذافي
صبحي حديدي
انتهت القمّة المصغّرة التي دعا إليها الزعيم الليبي معمر القذافي في طرابلس مؤخراً، وضمّت دول اتحاد المغرب العربي وسورية، دون أن يصدر عنها موقف واضح من موضوع انعقادها الإستثنائي، أي مناقشة مشروع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حول الإتحاد المتوسطي.
ورغم أنّ القمّة دامت ثلاث ساعات فقط، وسجّلت بذلك زمناً قياسياً بالنسبة إلي أية قمة عربية، فإنّ المشاركين غادروا الجلسة كما دخلوا إليها: لا تنظيرات القذافي النارية ضدّ الإتحاد المتوسطي بدّلت إيمانهم به أو تشكيكهم في جدواه، ولا أسعفتهم إتحاداتهم الناجزة، بدءاً من الجامعة العربية والإتحاد الأفريقي، وصولاً إلي الإتحاد المغاربي شبه الميّت، دون نسيان مثله الإتحاد الثلاثي المصري ـ السوري الليبي الذي قضي منذ عقود دون أن يُشيّع أو يُدفن، في الاتعاظ.
القذافي، من جانبه، كان واضحاً، بل يمكن القول إنه كان معارضاً غاضباً ساخطاً، إزاء مشروع ساركوزي. وبعد اعتبار المشروع إهانة، واتهام الأوروبيين بأنهم إنما يقترحون عروضاً إقتصادية لأنهم يعتبرون دول الجنوب شعوبا جائعة أو مصادر استثمار فقط، و يحسبون العرب والأفارقة سذجاً ، ذكّر القذافي هؤلاء الأوروبيين أن الجامعة العربية مقرّها القاهرة والإتحاد الأفريقي مقرّه أديس أبابا وعلي الأوروبيين المرور بهاتين العاصمتين إذا أرادوا التعاون ! ولم يكن واضحاً، ساعة انفضاض القمّة، أنّ أحد هواجسها كان احتمال انقلاب مشروع الإتحاد المتوسطي إلي منبر مفتوح للتطبيع التدريجي مع إسرائيل، ليس سياسياً فحسب، بل إقتصادياً وثقافياً وسياحياً كذلك.
لكنّ القذافي كان يخبّئ المزيد من النيران لخطبته في افتتاح أعمال القمة العاشرة لمجموعة دول الساحل والصحراء، أو سين صاد كما يحلو له القول، في كوتونو عاصمة بينين، حين اعتبر مشروع ساركوزي خريطة جديدة للإمبراطورية الرومانية ، إلي جانب كونه خريطة إستعمارية . ولقد كشف النقاب عن حقيقة استحسانه للمشروع أثناء مناقشاته مع ساركوزي، في طرابلس ثمّ في باريس، شريطة أن يكون مقتصراً علي التعاون بين دول المتوسط الأفريقية ودول المتوسط الأوروبية، معترضاً بالتالي علي إشراك دول المتوسط الآسيوية (لا ندري، والحال هذه، سبب دعوة بشار الأسد إلي قمّة طرابلس).
وفي خطبة كوتونو قال القذافي ما لم يأتِ علي ذكره في خطبة طرابلس: آسيا هذه قارة أخري مطلة علي البحر المتوسط من ناحية الغرب، لكن فيها صراعات ومشاكل بين الأكراد والأتراك، وبين الفلسطينيين وإسرائيل، واللبنانيين والسوريين والأردنيين، وهذه المنطقة شائكة، ولا تتفاهم إلا بالصواريخ وبالقصف وبالقتل، وهذه منطقة غير مؤهلة أن نجلس معها في البحر المتوسط . وأضاف، وكأنّه صديق صدوق ناصح للأوروبيين: هذه آسيا، وإذا أنتم الأوروبيين تحبون أن تتعاملوا مع هذا الجانب، أنتم أحرار تعاملوا معهم وحدكم، لكننا لا ندخل معكم بهذه الطبيخة في آسيا !
ورغم تغنّي القذافي بخرائط أخري لإمبراطورية الأغالبة والإمبراطورية القرطاجية والعثمانية والفاطمية حسب ترتيبه، رأي أنها أفريقية (!) نظيرة للخرائط الإستعمارية الغربية، وجعلت صقلية ورودس ومالطا ومرسيليا وكورسيكا وسردينا ولامبيدوزا وفنتالاريا وإسبانيا تابعيات عربية (أو تبعنا كما عبّر العقيد)، فإنّ الطبيخة الأفضل في نظره هي صيغة سين صاد ، أي إتحاد الساحل والصحراء بوصفه الوحيد الذي يتيح للدول الأفريقية أن تكون جزءًا من فضاء كبير، يضم سوقاً إستهلاكية كبيرة، وسوقاً إنتاجية كبيرة، وعملة واحدة، وتأشيرة واحدة، ونظماً أمنية واحدة، وأخري دفاعية واحدة، فضلاً عن موقف تفاوضي واحد . ولأنّه خاطب شباب أفريقيا من ملعب لكرة القدم، في كوتونو، فقد اختار العقيد هذه الإستعارة في هجاء ساسة أفريقيا: حوّلوا مطلب تشكيل حكومة إتحادية إلي ما يشبه كرة القدم. كرة القدم كلما تصل إليها، تضربها إلي الأمام. كرة القدم كلما تصل إليها، تبتعد عنك. هكذا صار مطلب حكومة إتحادية، والفريق الذي يلعب هذه الكرة هو خمسون رئيساً وخمسون وزير خارجية !
وهذه المرحلة، وهي ليست الأولي الدراماتيكية في تفكير القذافي بخصوص القارّة الأفريقية، تدفع المرء إلي استحضار أفكار أحد أبكر ملهمي الزعيم الليبي، أي الراحل الكبير جمال عبد الناصر، الذي كان مصرياً أوّلاً، ثمّ عربياً ومسلماً وأفريقياً. ففي كتابه فلسفة الثورة اعتبر أنّ مصر هي المركز في ثلاث حلقات: العالم العربي، والعالم المسلم، والقارّة الأفريقية، وقال ما معناه: لا نستطيع، بأية طريقة وحتي لو رغبنا، أن نقف جانباً وبعيداً عن الصراع الدامي والرهيب الذي يندلع الآن في قلب القارّة، بين خمسة ملايين أبيض ومائتي مليون أسود. ولا نستطيع القيام بذلك استناداً إلي مبدأ واحد ولسبب واضح: إننا، نحن أنفسنا، في قلب أفريقيا. ذلك الإعراب عن الإنتماء إلي أفريقيا كان نقلة جديدة بعيداً عن قول الخديوي إسماعيل، في عام 1870، إن مصر لا تقع في أفريقيا، بل في أوروبا . واليوم، في غمرة تنظيرات القذافي وما تشهده القارّة من مخاضات وتحوّلات وحروب ومجاعات، من الإنصاف البسيط أن يسجّل المرء لعبد الناصر أنه أدخل مصر، والشطر العربي الشمالي من أفريقيا (وهذا تفصيل ليس أقلّ أهمية)، إلي القارّة، و اكتشف الطاقة السياسية الكامنة في هذا الإنتماء.
ذلك لأنّ مسألة الانتماء هذه ليست بالبساطة التي تبدو عليها، وثمة نقاش عميق حول طبيعة الهوية الأفريقية لمصر بالذات ولبلدان شمال أفريقيا إجمالاً. وليس خافياً أنّ هذا النقاش اتخذ أحياناً صيغة متوترة حين شارك فيه منظّرون أفارقة من أمثال النيجيري أوبافيمي أوولو الذي طوّر نقداً شديداً لمفاهيم عبد الناصر حول الشطر الأفريقي من الهوية المصرية، وكتب يقول: إن الجمهورية العربية المتحدة، المخلوق الأثير عند عبد الناصر، والتي تضع قدماً في أفريقيا وأخري في الشرق الأوسط الآسيوي، هي النقيض الصريح لفكرة الوحدة الأفريقية . كذلك كان الزعيم الغاني الراحل كوامي نكروما قد شدّد علي النقطة ذاتها من موقع مختلف، حين قال: لا يمكن لأية حادثة تاريخية أن تنجح في تحويل بوصة واحدة من تراب أفريقيا إلي امتداد لأية قارة أخري . وفي كتابه الممتاز نحو سلام أفريقي ، الذي يبحث آفاق تحالف أفريقي حضاري واستراتيجي علي طراز السلام الروماني والسلام البريطاني، ناقش الباحث الكيني المعروف علي مزروعي إشكالات هذا الإنتماء، وكيف يبدو عميقاً وملموساً في غرب وجنوب الصحراء الكبري أكثر منه في شمالها، حيث الميول العربية ترجّح الإنتماء إلي آسيا والمشرق العربي والإسلامي.
خلاصات النقاش كانت تنبثق من اعتراف ضمني بأنّ مصر هي الأقلّ أفريقيةً بين بلدان شمال أفريقيا، لأنها: 1) تمثّل امتداد الحضارة الفرعونية ذات الأبعاد المشرقية أكثر من الأفريقية؛ و2) كانت رافعة أساسية في انتقال الفتح الإسلامي إلي الشمال الأفريقي بدل التوغّل نحو عمق القارة؛ و3) تحمل وراءها تاريخاً طويلاً من الخضوع للتأثيرات الغربية (ومن هنا أساس كلام الخديوي إسماعيل)، وتكاد تأتي بعد جنوب أفريقيا من حيث توفّر عناصر الغَربَنة في أوساط نُخَبها علي الأقل؛ و4) كانت تاريخياً منخرطة في مشكلات وسياسات العالم العربي، في جزيرة العرب واليمن والشام والمشرق إجمالاً، أكثر بكثير من انخراطها في مشكلات القارّة الأفريقية.
ولكنّ مصر في عهد عبد الناصر تحوّلت، في الآن ذاته، إلي أكثر دول شمال أفريقيا دفاعاً عن مفهوم الجامعة الأفريقية Pan-Africanism، ومن هنا جانب البراعة والعمق في تحليل عبد الناصر للمعطيات الجيو ـ سياسية والثقافية والتاريخية لموقع مصر علي حدود التقاء آسيا بأفريقيا. وكان الراحل الكبير، وهو الذي كان أوّل زعيم مصري يحكم مصر منذ عهود الفراعنة، قد ألزم بلاده بمبدأ نحن في أفريقيا ، تماماً كما التزم به زعيم بارز مثل نكروما، رغم ملابسات هذه المقارنة. ذلك لأنه لم يكن متاحاً لعبد الناصر أن يكون أفريقياً مثل نكروما، رغم وجود الزعيمين في قارّة واحدة خضعت للإستعمار علي هذا النحو المتشابه أو ذاك، ورغم حسّ التضامن العميق الذي يمكن أن ينشأ (ونشأ بالفعل) بينهما كمناضلَيْن من أجل التحرر. ولكنّ الهوية المصرية قديمة، بالمقارنة مع الهوية الغانية الجديدة الوليدة؛ وكان ناصر مصرياً بمعني تاريخي أعمق بكثير من كون نكروما غانياً، الأمر الذي لا يلغي أنّ الأخير كان أفريقياً بمعني تاريخي أشد عمقاً من انتماء ناصر إلي هوية أفريقية عامة.
وانحياز عبد الناصر إلي الهوية الأفريقية كان قد اتخذ أشكالاً إجرائية مباشرة وملموسة، مثل إعطاء المُنَح الدراسية للطلاب الأفارقة، وجعل العاصمة المصرية ملاذاً دائماً لنشاطاتهم، وتحويل إذاعة القاهرة إلي منبر مناهض للإستعمار والقوي الرجعية في القارّة والعالم العربي، والمشاركة النشطة في المداولات والمؤتمرات والمفاوضات حول مستقبل الدول الأفريقية، وفي تعميق الصلة مع المراكز والتجمعات المسلمة في مختلف أرجاء أفريقيا. ومن المفارقة أنه لا العرب ولا الأفارقة كانوا أوّل مَنْ أدرك طبيعة الترابط الجدلي والوثيق بين الشرق الأوسط وأفريقيا، بل كانت القوي الإمبريالية الأوروبية هي السبّاقة إلي ذلك الإدراك الحاسم. ولم تقم سياسات عبد الناصر الراديكالية والإشتراكية المبكّرة بأقلّ من تأكيد هذه المخاوف، حيثما تواجد مستوطنون أو مستعمرون في القارة، وتعمّق ذلك أكثر حين جمع الزعيم الراحل بين التقرّب من الوطنيين الأفارقة والتقرّب من الإتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا، ولم يكن العدوان الثلاثي عام 1956 سوي الذروة في ترجمة هذا القلق.
وكان من الطبيعي أن يكون دعم عبد الناصر لدول شمال أفريقيا (العربية) ملموساً أكثر، ومنطوياً علي أشكال تختلف عن تلك الخاصة ببقية أجزاء القارة. ومثال الموقف المصري من حرب التحرير الجزائرية كلاسيكي في هذا المجال، ولكنّ عبد الناصر دعم أيضاً نضال تونس من أجل إحراز الإستقلال، رغم الخلافات شبه الإيديولوجية حول موقف بورقيبة من الحداثة الغربية، واشتراكيته الخاصة، وتفسيره لاستقلال الجامعة العربية. والتأثير الناصري في الثورة الليبية عام 1969 لا يحتاج إلي تشديد، ولكن وفاة عبد الناصر بعد عام واحد لم تتح الفرصة لخلاف (كان سيكون محتماً) بين آراء القذافي في النظرية الثالثة والدولة شبه الثيوقراطية، وبين تجربة ناصر الإجمالية في السياسة والمجتمع والعقيدة.
وهكذا فإن علاقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأفريقيا انطوت منذ البداية علي مفارقة الموقع والإنتماء، وظلت تتأرجح بين القطب الآسيوي (ثم العربي والإسلامي) الذي انخرطت فيه مصر والناصرية، والقطب الأفريقي الذي اكتشفه ابن النيل وربيب الفلاحين والغيطان. وإذْ تبدو معارضة القذافي لمشروع الإتحاد المتوسطي مشروعة في المنطلقات الأبسط، سيّما التشكيك في النوايا الأوروبية وإحالة المشروع إلي مرجعياته الإستعمارية، فإنّ منطلقات العقيد الأبعد ترمي إلي ما يشبه الشراكة المتوسطية الأورو ـ أفريقية، علي حساب الشطر المتوسطي الآسيوي (أي فلسطين ولبنان وسورية وتركيا!)، ومن أجل ضخّ المزيد من جرعات الفانتازيا علي فكرة إتحاد السين صاد . ولعلّ هذا هو السبب في أنه، في كوتونو قبل أيام، تناسي معلّمه عبد الناصر ولهج بذكري نكروما: بطل إفريقيا الأوّل! الثوري! بطل الوحدة الأفريقية!
وفي ما يخصّ إدراك علاقة أفريقيا بجوارها، المتوسطي أو المسلم أو الأوروبي، شتّان بين المعلّم الملهِم جمال عبد الناصر والتلميذ المستلهِم معمر القذافي!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي