تحديات «ويكيليكس».. وكي نبارح وضعنا المشين!
ميشيل كيلو
لا أعرف النتائج التي ستترتب على نشر وثائق موقع ويكيليكس الفاضحة، التي تغطي لأول مرة في التاريخ العالم كله: دولاً وقادة وساسة ومؤسسات وهيئات عالمية ومحلية ومثقفين واقتصاديين وفنانين ورجال دين وأفراداً عاديين.
لا أعرف أيضاً من يقف وراء الوثائق، وإن كان معظم من أعرفهم وأحترم رأيهم يعتقدون أن الإدارة الأميركية ليست، ولا يمكن أن تكون بعيدة عنها، لسببين:
– أن معظمها كان معروفاً ومتاحاً لبضعة ملايين من البشر دون أن يكون معلناً، فجاء الموقع وكشف الستر وجعل مضمون الوثائق معروفاً لعدد غير محدود من الناس بل ومعروفاً للإنسانية كلها، في أربعة أقطار الأرض.
– من غير المعقول أن تكون دولة لديها إمكانات أميركا المعلوماتية عاجزة عن حماية ما تريد حمايته. ومن المحال أن يكون لدى أي ضابط، مهما علت رتبته، إمكانية الوصول بمفرده إلى هذا الكم الهائل من الوثائق دون أن يكشف أمره، فكيف إذا كان من سرّبها جندياً عادياً! وهل يعقل أن يوضع في عهدة جندي عادي هذا الكم مما صار يسمى «أسراراً خطيرة «؟
لا أعرف، أخيرا، الهدف من نشر الوثائق، وهل هو هدف واحد أم مجموعة أهداف متشعبة من الصعب معرفتها اليوم، وإن كان ممكناً رغم كل شيء تلمس بعض جوانبها القريبة، المباشرة، التي تحمل طابعا محيراً بدورها لكثرة ما فيها من تناقضات وتشابكات وتقاطعات، فضلاً عن أن قادة عالميين كباراً اعتبروا الوثائق إما تعبيراً عن «خبث الديبلوماسية الأميركية» (رئيس روسيا ميدفيديف) أو قرروا إهمالها ومقاضاة سفراء أميركا في بلدهم، الذين ذكر الموقع أسماءهم (تركيا)، أو وصفوها بالكذب وتنصلوا منها (معظم البلدان في جميع القارات وخاصة منها بلداننا العربية)، بينما أصدر عدد كبير من القادة والساسة ورجال الرأي توضيحات وتكذيبات رسمية وغاضبة تردّ على ما نُسب إليهم في الوثائق، التي أعلن ناشرها، كي يزيدنا حيرة على حيرة، أنه تلقى تهديداً بالقتل، بينما أصدر البوليس الدولي أمراً دولياً بإلقاء القبض عليه نفذته الشرطة البريطانية ظهر اليوم (7/12). أخيراً، قالت وزيرة خارجية أميركا كلاماً حانقاً حول نشر الوثائق وأعلن أنها ستقوم بجولة عالمية كي تخفف من وقع الفضائح التي تضمنتها، ومن انعكاسها على مكانة وعلاقات واشنطن الدولية، التي تعرّضت لأذى شديد، حسب ناطقين مختلفين باسم البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية، في حين أعلن الكونغرس أن النشر هو أكبر عملية تجسس في تاريخ أميركا الحديث، وطالب بمعاقبة من مارسه، وأشيع بصمت أن تحقيقاً واسعاً يتم في صفوف الجيش الأميركي، وإجراءات جديدة ستتخذ بشأن عمل وزارات أميركا، وخاصة الخارجية والدفاع، لمنع تكرار الحادث.
بالمقابل، أعرف كغيري أن الوثائق أثارت بلبلة دولية لن يكون من السهل التخلص منها أو امتصاص نتائجها، وأن فيها الكثير جداً مما هو صحيح، إلى جانب كم غير قليل من أنصاف الحقائق والأكاذيب، وأن الصحيح وغير الصحيح يرسمان صورة لعلاقات دولية مسمومة، تتسم بقدر هائل من الهشاشة والنفاق واللؤم والتوتر والخداع والكذب والعنف والنهب، تدار من قبل أشخاص نسمّيهم مسؤولين وقادة ليس لديهم أي حس بالمسؤولية وأي مؤهل من مؤهلات القيادة، عدا الخسة والكذب والغدر، ويكشفان كم هي برانية «صداقة» أميركا مع حلفائها، ومفعمة بالحقد والكره والتآمر علاقاتها مع خصومها وأعدائها، وكم يكن الأميركيون من الاستخفاف والازدراء حيال البلدان الأخرى وقادتها، الذين يطلقون عليهم جميعهم ألقاباً تحقيرية لا علاقة لها بأسمائهم، مع أن بعضهم «صديق صدوق»، أو مداهن متملق.
أخيراً أعرف أن نشر الوثائق سيسمّم العلاقات الدولية، أكثر مما هي مسمّمة أصلاً، إلى فترة غير قصيرة، لذلك أود قصر الحديث عنها على أمرين: انعكاسها على القيادة الأميركية من جهة وعلى عالمنا العربي من جهة أخرى.
– أعتقد أن لنشر الوثائق علاقة بالوضع الداخلي الأميركي، وأنها يمكن أن تقرأ من زوايا كثيرة متناقضة، ألمح الإعلام إلى بعضها، كالقول إن نشرها يعني نهاية السيدة كلينتون كوزيرة خارجية لواشنطن، وبأن الرئيس نفسه عبر لدائرة ضيقة من معاونيه عن رغبتها في إنهاء خدماتها. في هذه الحالة، يحتمل أن تكون جهة ما في الإدارة وراء النشر، خاصة أن مضمون الوثائق يبدو كرد على نجاح الجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية، وكتذكير بما فعلوه خلال حقبتهم الرئاسية، التي يبين ويكيليكس ما غشيها من تهافت في إدارة مصالح أميركا وعلاقاتها الدولية، وكم كانت مشحونة بالتوتر والتسرع والارتجال والجهل.
بالمقابل، يمكن قراءة الوثائق كضربة للرئيس أوباما، الذي قدم وعوداً كثيرة بالتغيير، فجاءت الوثائق تبين أنه لم يغير شيئاً، بل واصل نهج أسلافه الذي أضعف أميركا، فلا بد من شد مفاصلها من جديد عبر نشر قصص وحكايات فشلها، لإخراجها من علاقات وعقليات مليئة بالالتباس والبلبلة، وأخذها إلى حال تستعيد فيه المبادرة، بعد أن كادت تفقدها بسبب العراق وأفغانستان وأزمتها الاقتصادية المتمادية، وسياساتها الرخوة تجاه روسيا والصين وباكستان. هنا، في هذه الحالة، يكون نشر الوثائق من فعل فاعل ينتسب إلى اليمين الجديد وربما الأكثر جدة، الذي بدأ يتبلور مع «حزب الشاي»، وشرع ينمو داخل الحزب الجمهوري وأوساط مذهبية / عنصرية / صهيونية تريد شن موجة جديدة من العنف ضد خصوم أميركا في العالم، كإيران وكوريا الشمالية، وتصفية بعض القوى المحلية كحزب الله وطالبان والقاعدة.
– أما علاقة الوثائق بعالمنا العربي، فهي أكثر ما يعنيني، ليس فقط بسبب عددها الكبير المتعلق بنا كعرب، وإنما كذلك بسبب نوع المعلومات التي تنقلها لنا، والموجهة على وجه التقريب نحو إظهار كم هي عميقة خلافاتنا وشديدة تناقضاتنا وكم تختزن نفوسنا من حقد واستعداد للتآمر بعضنا ضد بعض، وكم هي هشة وبرانية الروابط الرسمية القائمة بين قادتنا وبلداننا، وبين هؤلاء وشعوبهم، بينما هي بالمقابل عميقة وقوية علاقاتنا السرية مع إسرائيل، وما هي أفضليات الواقع السياسي العربي الحقيقية، المتناقضة أشد التناقض مع التصريحات والوعود الإصلاحية والتحسينية التي نسمعها من هنا وهناك وهنالك، كما مع إرادة الشعوب وغالبية المواطنين.
تبدو الوثائق وكأنها تريد توسيع خلافات وتناقضات العرب، وتقوية مشكلاتهم مع جيرانهم، وتبيان قوة ووثوق علاقاتهم «الطبيعية « مع «عدوهم المزعوم» إسرائيل وأعدائهم الكبار في الغرب. في هذه النقاط بالذات بيت القصيد ومكمن الضرر، فالعالم عامة، وأميركا خاصة، يراهنان على خلافاتنا، التي تبقي عالمنا العربي عموماً، وكل بلد من بلداننا خصوصاً، مشلولاً وعاجزاً، وتفتح أبوابه أمام اللاعبين الدوليين والإقليميين، وتضع قدراته وثرواته وجزءا كبيرا من طاقاته تحت تصرف أجانب يستخدمون إمكاناته لمزيد من إضعافه وكشفه واختراقه. فلا بد من وعي هذه النقطة والرد على ما نشره الموقع ببذل جهود صادقة، علنية وملزمة، تنقي حياتنا الوطنية والقومية من عوامل الشقاق والعداء، فلا يكون بوسع سفير أجنبي تقويلنا ما لم نقله، ولا نقول شيئا لا نعنيه ولا يعبر عن مصالحنا، ولا ندخل في علاقات كواليس مع أي كان، بل نقيم سياساتنا على مصالح معلنة وجيدة التعريف، تحققها أدوات ووسائل تتفق معها في النزاهة والجدوى، يستخدمها مواطنون شركاء في صنع مصيرهم وواقعهم، تلبي أهدافاً تخدمنا من دون أن تلحق الضرر بغيرنا، إن كان صديقا حقيقيا أو محتملا، وتقوينا ضد أي اختراق من أية جهة معادية. بمثل هذا الوضع، لن يكون لدى ناشري أسرار الدول ما يسيء إلينا، ولن نُضطر للاعتذار أو للإنكار أو لفلفة الأمور، في حال نشر ما لديهم، كما فعلت معظم دولنا بعد نشر الوثائق وستفعل من جديد بعد نشر ما هو متوفر بعد منها.
أعتقد أن بعض ما في علاقات العرب من أزمات وتوتر وعداء يجعل نشر الوثائق يبدو وكأنه موجّه ضدهم، أو يستهدف فضحهم، خاصة أن في تجربتهم مع الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، ما يؤكد صحة استنتاج كهذا، وأن أهميتهم وحيوية منطقتهم الجغرافية الهائلة والحاكمة، وقدرتهم على ممارسة نفوذ جدي على مليار مسلم ونيف، والحاجة ما لديهم من أموال وثروات وطاقات بشرية هائلة وقوة كامنة، ما يجعلهم هدفاً لخصومهم في كل مكان، ويشجع هؤلاء على ضبطهم وتقييد تطورهم من خلال توريطهم في مشكلات لا نهاية لها فيما بينهم، على أن تحل، إن حلت، على حسابهم جميعاً، بوسيلة مجربة هي تمزيقهم وتعميق خلافاتهم ووضعهم في مواجهة بعضهم البعض. كي لا يكون هذا الحديث مجرد اتهام للآخرين ورد مآسينا إليه، لا بد من التذكير بأن حكامنا لم يقصروا إطلاقاً، وأن علاقاتهم عدائية ومتضاربة منذ زمن بعيد، وأنها السبب الرئيس لما نزل بنا من ضرر وحاق بوجودنا من خطر، فلا بد من تدابير وردود بعيدة المدى تصلح أحوالنا من جذورها، وإلا سقطنا للمرة الألف ضحية رؤية خاطئة، منتشرة أوسع انتشار، تحمل الآخرين المسؤولية عن كل كبيرة وصغيرة في مآزقنا، ترى طريقة واحدة للتصدي لنشر هذه الوثائق اليوم، وغيرها غدا، هي تقييد حرية النشر والتعبير والشفافية وملاحقة الداعين إليها وجزهم في السجون، كي لا ينشروا غسيلنا الوسخ، والأصح أن تكون علاقاتنا مع بعضنا والعالم، خالية أصلا من مثل هذا الغسيل، فلا ننشره نحن ولا يستطيع غيرنا نشره، لأنه غير موجود أساسا. وللعلم، فإن تقييد الحرية والشفافية لم يكن يوما ردا يحفظ الكرامة ويصون العلاقات الطيبة مع الذات والآخر، والدليل واقع عالمنا العربي خلال نصف القرن الماضي .
هل نفيد من نشر الوثائق كي نبارح وضعنا المشين الراهن، الذي يزداد تدهوراً وفضائحية؟ إذا فعلنا هذا نكون قد أفدنا من خطوة، هي أعظم تعبير عن الشفافية في تاريخ العالم، تؤكد أن يد الحكومات تزداد ضعفاً باضطراد تجاه مجتمعاتها، وأنها هشة وتحتاج إلى إصلاح كوني وشامل، وأن الحكومات لم تعد بالضرورة الفاعل الوحيد في مسائل الشأن العام، بينما يظهر نمط مختلف من البشر، يستطيعون متى أرادوا وضع أنفسهم في مواجهة أية حكومة، بفضل ثورة المعلومات والمجال الكوني/ المجتمعي المفتوح سياسياً وثقافياً. وإذا لم نفعل، وواصلنا إنتاج الغسيل الوسخ ومنع مواطنينا من التحدث عنه أو التخلص منه، فإننا نكون كذلك الحمار الذي لطالما وقع المرة تلو الأخرى في الحفر، لكنه لم ينجح ولو مرة واحدة في تفادي أي منها!
السفير