لا علاقة للنفط ولا للديموقراطية
فواز طرابلسي
في أخبار أسبوع واحد ثلاثة حوادث ليست قليلة الأهمية تتعلّق بالأقليات وبالوحدة والانفصال في العالم العربي.
السودان مقبل على استفتاء يرجّح أن تقرّر فيه أكثرية سكان المحافظات الجنوبية الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. وفي كردستان العراق، يطالب مسعود البرزاني، رئيس الإقليم، بحق تقرير المصير لأكراد العراق وبضم كركوك، بعد أن نال الأكراد منصب رئيس جمهورية العراق للمرة الثانية، وبعد أن نالوا ما هو أكثر من تقرير المصير بواسطة الفيدرالية داخل الكيان العراقي. فُهمت عودة البرزاني للمطالبة بحق تقرير المصير على أنها دعوة إلى الانفصال. وفي اليمن، يدور حديث لأول مرة عن وساطة سعودية ـ مصرية لمنح المحافظات الجنوبية الحكم الفيدرالي.
بين عويل مَن يندب حظ الأمة وإعلام متذاكٍ لا يملّ من كشف مؤامرات مقتفياً آثار «الأصابع» الأجنبية، تكاد تمر تلك الأحداث كأنها قدر محتوم. كأنه ليس من إرث يرزح ثقيلاً على كل هذه المسائل ولا من تصرفات وسياسات وأحداث تزيدها تأزماً. أو كأنه لم تكن هناك إمكانية لاستباق المشاكل وحلها وتسويتها، إلا بعد فوات الأوان، على اعتبار أن المؤامرات «مؤامرات». وكأن لا أحد مسؤول عن سوء تصرّف أو أخطاء أو جرائم. والشطارة في التحاليل هي الإيحاء بأن اكتشاف التزامن بين حدثين متشابهين يعطي مصداقية لإيديولوجيا مسماة «ليس صدفة». هنا المكتوب يُقرأ من عنوانه والمكتوب «مكتوب» منذ «سايكس بيكو». والمسألة مسألة «أقليات حاقدة»، كما كان يسمّيها ميشال عفلق. والأصابع إسرائيلية ـ أميركية، بل أميركية في خدمة الأصابع الإسرائيلية، وألعاب تفكيك وتفتيت مكشوفة لا ترمي غير بذر بذور «الفتنة».
ما دامت اللعبة مكشوفة إلى هذا الحد، وبذور الفتنة مرئية، لماذا لم نعكس اللعبة ونحل محل بذور الفتنة بذور الشراكة والحقوق والتفاهم؟ وما دمنا عالمين بوجود ألغام مزروعة في قلب الأمة العربية ـ منذ قرن من الزمن على الأقل ـ لتنفجر في الوقت المناسب، ألم يكن لدينا الوقت الكافي لنزعها أو تعطيلها قبل حلول ذاك الوقت المناسب؟
مسألة أقليات؟ وماذا عن يمن العرب الأقحاح؟ وهو الآن نموذج فذ على الكيفية التي يؤدي بها التأجيل والاستهتار والعناد وادعاء الشطارة والتحايل والإهمال والكبرياء إلى أوخم العواقب.
سوف ترتفع عقيرة الحريصين على الوحدة بالصراخ: الفيدرالية مقدمة للانفصال. علماً أن الطرفين اللذين يقترحان الحل الفيدرالي هما أقرب حلفاء نظام علي عبد الله صالح. بدأ الحراك الجنوبي منذ أربع سنوات. وقتها كان محدود الجمهور يطالب بدفع التعويضات لـ80 ألف موظف وعسكري صُرفوا من الخدمة بعد حرب 1994، وإلى وقف التمييز ضد مواطني المحافظات الجنوبية. يومها كان البحث يدور حول توسيع صلاحيات المجالس المحلية. رفضت السلطة في صنعاء الحوار. وامتنعت عن تطبيق ما وعدت به من إصلاحات. كان هذا كله قبل أن يأخذ مطلب «فك الارتباط» مأخذه من جماهير واسعة من الجنوبيين وترتفع الأعلام. يومها لم يكن أي طرف خارجي مهتماً بوضع الجنوب، والتأييد الأميركي والأوروبي على أشده للرئيس علي عبد الله صالح. ولا يزال، على كل حال. والآن، تجري التغطية على الحراك السلمي، الجنوبي باسم الحرب على الإرهاب في الوقت الذي أعلن فيه تنظيم «القاعدة» نقل الحرب ـ المذهبية ضد المدنيين ـ ضد الحركة الحوثية في محافظتي صعدة والجوف.
لم يُعطَ اهتمام كاف لحقيقة أن ما يجمع بين هذه الحالات الثلاث هو النفط. في الجنوب اليمني نفط ـ ليس كثيراً ـ لكنه يكفي لإيهام البعض بإمكان بناء دولة مستقلة عليه. في كردستان العراق، لا يكتفي مسعود البرزاني بمكتشفات النفط في الإقليم الفيدرالي، ولا بالحصة الرسمية من عائدات النفط العراقية المخصصة للإقليم، ناهيك عن موارد تهريب النفط ورسوم نقله إلى تركيا. يريد كركوك بنفطها. وهي منطقة تحق للأكراد قدر ما تحق للعرب والتركمان.
وأخيراً ليس آخراً، المحافظات الجنوبية تنتج 80% من نفط السودان.
هل كنا وصلنا إلى هذه المواصيل…
لو أن المشاركة في السلطة أوسع في تلك البلدان، حيث ينتخب المواطنون حكّامهم ويحاسبونهم ويجري تداول السلطة سلمياً؟
ولو لم يتأخر الاعتراف بحقوق أهل الجنوب السوداني إلى العام 2005 بعد أطول حرب أهلية في تاريخ القارة الأفريقية. ولو لم تحاول الخرطوم فرض الشريعة دستوراً على الجنوب المسيحي، حتى لا ننسى فشل المساكنة بين الإقليمين خلال السنوات الخمس الأخيرة؟
هل كنا وصلنا إلى هذه المواصيل…
لو أن توحيد شطري اليمن تمّ على التكامل والتكافؤ وبناء مقوّمات الوحدة بين شعبين عاشا قروناً في كيانات وأنظمة مختلفة، بدلاً من النظر إلى الوحدة على أنها عودة الابن الجنوبي الضال إلى بيت الطاعة ليلقى العقاب على ضلاله؟ وأي ضلال؟ أنه حرّر الشطر الجنوبي من الاستعمار البريطاني؟ أم حاول تجربة في الحداثة والعدالة الاجتماعية التي اغتالها الفقر والقبلية والمناطقية؟
هل كنا وصلنا إلى هذه المواصيل…
لو أن موارد اليمن الشحيحة أصلاً استُخدمت بتقشف متساوٍ بدلاً من تنمية القلة المتخمة على حساب الأكثرية «الضبحانة» حسب التعبير العامي اليمني؟
هل كنا وصلنا إلى هذه المواصيل…
ولو أن صدام حسين رد على مطلب تقرير المصير الكردي بغير الاتفاق مع شاه إيران وتسليمه شط العرب ليعود إلى محاولة استعادته بحرب ضد الجمهورية الإسلامية من ثماني سنوات؟ لو أنه تعاطى مع الأكراد بغير مجزرة حلبجة و«حملة الأنفال» و«الحزام العربي»؟ مسألة أقليات؟ هل كنا وصلنا إلى كل هذه المواصيل لو قبلت كل «أطياف» السياسة العراقية بعد الاحتلال بالتعريف الأميركي لشعب العراق أي: أكراد ـ شيعة ـ سنة.
هل كنا وصلنا إلى هذه المواصيل…
لو أن الواردات النفطية العربية استُخدمت لتأمين العلم والعمل والعناية الصحية والسكن اللائق ومياه الشفة للجميع، وخصوصاً للأطراف والمناطق والبلدان الأضعف نمواً، بدلاً من أن تكون ملكاً شخصياً لدكتاتور أو عائلة مالكة أو شيخ أو أمير أو سلطان أو حزب حاكم يجري تبذيرها على موائد القمار والحفلات الماجنة، التي تتندّر بها تقارير السفراء الأميركيين، وعلى الهدر الاستهلاكي في منطقة هي أكبر مستهلك في العالم للأسلحة واليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة والعطور ناهيك عن النوق! حتى لا نتحدث عن الرقيق الأبيض وخدم البيوت!
ولو تمّ الاستدراك باكراً، أو لاحقاً، بتحقيق الشراكة الأوسع في السلطة أو الثروة هل كان ثمة من متسع تلعب فيه «أصابع إسرائيل» أو تتدخل فيه الأيدي الأميركية الخفية؟
ولكن خلّ عنك الـ«لو».
نحن في عصر «عروبة النفط» حيث يجري الفصل بين النفط وكل ما يتعلق بحياة العرب.
ولا تصدّق أن علاقة ما تجمع النفط والديموقراطية. هذا جامعي بريطاني ـ أميركي مخضرم، من جماعة «دراسات بعد الكولونيالية»، اكتشف نيابة عنك أن النفط شأن يختص بالخبراء وأنه كان طامة كبرى على الطبقات العاملة الأوروبية لأنه منحها «الديموقراطية» لقطع الطريق عن تحقيقها الاشتراكية. أما في بلادك فلا علاقة للنفط بـ«البعد كولونيالي» بالنفط. النفط «مفهوم» فكري معرفي ـ كُونسبت ـ مفهوم؟ وكفى ترجيعاً لتلك الأفكار البالية من عصر «نظرية المؤامرات» عن النفط والديموقراطية ـ عندنا أولاد ونريد أن نسترزق! ـ بل لا علاقة للنفط بالرأسمالية ـ حتى أن «المفهوم» ذاته لم يعد ينطبق على عالمنا «بعد الكولونيالي»، مفهوم؟
وعليك أن تقطع حبل السرّة بين النفط والتنمية. إلا أذا كنت من أولئك المتخلّفين يتحدثون عن «نفط العرب للعرب». لقد حرّرتك وكالات التنمية الدولية من التنمية السلطوية الفاشلة الموجهة شطر «التقدم». عُد «إلى وراء» إلى رحاب جنات «التنمية البشرية» تجري تحتها أنهار «مجتمع المعرفة» وتعلّم الريادة ـ في الأعمال ـ وتمكين المرأة ـ لا تمكّنها ـ و«الحكم الرشيد» تصوغه لك برامج تعليم أميركية «معدّلة جينياً» لتعلّمك «الإسلام المعتدل» إلى أن تستكمل ردم «الهوة الحضارية» بينك وبين الغرب عن طريق… الترجمة. و«ترجم» إن كان أحد يستطيع أن يسبقك على الترجمة.
وصدّق أن لا صلة تُذكر بين النفط والوحدة العربية. ما حاجتك بوجع الرأس. مكانتك في العالم تستطيع أن تكسبها لك وللأمة العربية باستضافة المونديال أو المتاحف والجامعات الأورو ـ أميركية في بلدك.
الوحدة العربية حلم في أغنية وثقافة.
وإياك والظن بأن ثمة ولو شعرة معاوية بين النفط والصراع العربي ـ الإسرائيلي. لقد ترحّمنا على الملك فيصل بن عبد العزيز وأهلْنا التراب على دور النفط ـ والغاز ـ في «المعركة». فصار بإمكان الغاز أن يتدفق إلى إسرائيل وأن تمارس أنظمة النفط سفاح القربى مع «الدولة اليهودية الديموقراطية».
لا تُتعب نفسك. لا علاقة.
السفير