مابعد لشبونة: بداية احتواء روسيا في المنظومة الغربية
محمد سيد رصاص
عندما وقع الرئيس الروسي ميدفيديف في براغ مع الرئيس أوباما على اتفاقية (نيوستارت) لخفض وتحديد الأسلحة الاستراتيجية الهجومية،في 8نيسانأبريل2010،كان هناك ثلاثة انجازات روسية في البناء السوفياتي القديم خلال الفترة القريبة المنصرمة : واحدة في اليوم السابق للاتفاقية في قيرغيزيا بإسقاط الرئيس باكاييف،وأخرى في انتخابات شباط السابق للرئاسة الأوكرانية بفوز مرشح موالٍ لموسكو،وثالثة في آب2008بالحرب الروسية ضد جيورجيا التي أدت إلى انفصال اقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن تبليسي وتحولهما للتبعية لموسكو. أيضاً،كان هناك تمهيدات للاتفاقية كانت بمثابة تنازلات من واشنطن لموسكو:تخلي أوباما في 17آبأوغسطس2009عن مشروع نشر (نظام الدرع الصاروخي)في بولندا وتشيكيا،ثم نبذه لخطط الإدارة الأميركية السابقة نحو توسيع حلف الأطلسي(الناتو)بإتجاه الشرق عند أوكرانيا وجيورجيا.
اعتقد الكثيرون أن تلك الإنجازات الروسية هي ترجمة لضعف عند واشنطن،وأن هذا سيكون طريقاً لتفكك نظام(القطب الواحد للعالم)،الذي تبوأته الولايات المتحدة منذ عام1989إثر انتصارها على السوفيات في الحرب الباردة،بإتجاه تعدد الأقطاب:خلال أربعين يوماً من اتفاقية براغ،أعطت موسكو وواشنطن إشارة إلى بداية تعاون في ملف كان مجالاً للتباين والإحتكاك بينهما خلال السنوات الأربع السابقة،لما سارعتا في اليوم التالي ل(اتفاق طهران)17أيار- مايو،الذي عقده الرئيس البرازيلي ورئيس الوزراء التركي مع الرئيس أحمدي نجاد بخصوص الملف النووي الايراني،إلى الإتفاق على مسودة ، وافقت عليها الدول الثلاث الأخرى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن،لتكون هي (القرار1929)9حزيران-يونيوالذي شدَد العقوبات الدولية على طهران،وهو ماأتبعته موسكو خلال الصيف اللاحق بإلغاء الصفقة المقررة مع ايران لتوريد صواريخ مضادة للطيران(أس-300)كانت مخصصة لحماية المنشآت النووية الايرانية.
كان عام2010شاهداً على دفء غير معهود في علاقات موسكو وواشنطن،لم يستطع عهدا يلتسين وبوتين(2000- 2008) أن يشكِلاه مع البيت الأبيض خلال فترة مابعد المرحلة السوفياتية(منذ اعلان تفكك الاتحاد السوفياتي رسمياً في26كانون اولديسمبر1991)،حيث أوحى الكرملين في تلك الفترة المنصرمة بأن روسيا،التي تقلص مداها الجغرافي منذ عام1992إلى حدود غير مسبوقة منذ تأسيس بطرس الأكبر للإمبراطورية الروسية في 1721،هي في وضعية الدولة الكبرى الجريحة التي تقف معترضة على حروب واشنطن(كوسوفو1999وعراق2003)،وتحاول نسج علاقات مع دول كبرى(الصين)ومتوسطة(ايران)تثير قلق الأميركان،وعندما تجد مجالاً للتحرك المنفرد في نقاط ضعف أميركية تقوم بالعمل العسكري المفاجىء كمافي جيورجيا،أوتستخدم الإقتصاد لتقويض امتدادات واشنطن في حديقتها السوفياتية السابقة كمافعلت في الشهر الأول من عام2009 عبر وقف امدادات الغاز لأوكرانيا التي كانت تحكمها حكومة موالية للغرب منذ”التحول البرتقالي”في 2004،وهو ماأوحى بإمكانية عودة الروس إلى دور الدولة الكبرى المشاغبة ، كماكان القياصرة، تجاه لندن القلقة من وصول الروس ل”المياه الدافئة”،في حرب القرم(1854-1856)وحرب1877أيضاً ضد العثمانيين،واللتان ساهمتا في تعكير سلام مابعد مؤتمر فيينا(1815)،الذي أراد البريطانيون من خلاله تكريس زعامتهم العالمية إثر انتصارهم على نابليون بونابرت.
لم يكن الدفء الجديد الروسي- الأميركي مقتصراً على الموضوع الايراني،بل شمل أيضاً أفغانستان ،التي من الواضح أنها هي موضع قلق كبير للرئيس أوباما منذ دخوله البيت الأبيض:قبيل أسابيع قليلة من قمة (الناتو)في العاصمة البرتغالية لشبونة بيومي 19-20تشرين ثانينوفمبر2010،أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن”انسحاب متعجل لقوات الناتو(=إيساف)من أفغانستان سيقوض استقرار المنطقة”،وهي التي كانت قبل عقدين “فيتنام سوفياتية”استخدمتها واشنطن للتعجيل في هزيمة السوفيات بالحرب الباردة.
في قمة لشبونة،التي حضرها ميدفيديف،وافقت موسكو على وضع الأجواء والسكك الحديد والطرق الروسية من أجل ايصال الإمدادات إلى (إيساف)بدلاً من المعبر الباكستاني الذي أصبح مضطرباً ومكلفاً للناتو بسبب عمليات (طالبان باكستان)ضد قوافل الإمدادات،كماوافق الروس على امداد حكومة حامد كرزاي بطائرات هليوكوبتر،وبتدريب القوات الحكومية الخاصة الأفغانية في مجالي مكافحة(الإرهاب)و(المخدرات).وهذا بالتأكيد ماشكَل عامل اطمئنان لأوباما دفعه للموافقة في لشبونة على وضع جدول زمني لإنسحاب(إيساف)من أفغانستان ينتهي في أواخر عام2014بدلاً مماأعلنه في كانون أولديسمبر2009لخطط انسحاب متعجلة،أمام الإضطراب الأفغاني،تنتهي في تموز2011.
لم يكن الموضوع الأفغاني أكثر من تفصيل(يضاف لموضوع ايران) في ذلك الدفء الجديد،فيماكان الجوهر والمنعطف هو موافقة موسكو على التعاون والإشتراك مع(الناتو)في نظام دفاعي صاروخي ثلاثي الأبعاد،يشمل أميركا الشمالية،وأوروبة،والغرب الروسي، حيث أعلنت (وثيقة لشبونة)أن ” الأمن في نطاق عبر الأطلسي وأوروبة(حتى الأورال) هو جزء لايتجزأ”،وهو مايعد انقلاباً دراماتيكياً تدخل من خلاله موسكو في المنظومة الأمنية- الدفاعية ل(الناتو)الذي تم االتوقيع على ميثاق انشائه في4نيسانأبريل1949من أجل الوقوف في وجه الكرملين السوفياتي،فيماظلت العلاقات متوترة وجافة بين موسكو و(الناتو)طوال مرحلة مابعد السوفيات،وربما كان هذا التحول الإستراتيجي الروسي ناتجاً عن مصالح الفئة الجديدة بتركيبتها الإقتصادية- الأمنية- السياسية ،الحاكمة في موسكو منذ تحولات مابعد السوفيات والتي تبلورت وبانت ملامحها في عهد بوتين،التي يبدو أنها أصبحت تميل لأن تختار مقعداً في”القطار الغربي”،بدلاً من سياسة المجابهة،أوالتحالف “المفترض”مع بكين ونيودلهي،اللتان اختارتا واشنطن بدلاً من موسكو منذ زمن طويل في عقدي مابعد الحرب الباردة.
في بروكسيل،اعتبر مسؤولوا(الناتو)أن قمة لشبونة هي”أهم قمة لحلف الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة”،وحتى أهم من قمة نيسان1990التي وسعت نطاق(الناتو) لأبعد من المدى الجغرافي الأوروبي- الأطلسي غداة انتهاء الحرب الباردة،إلاأن ماجرى في العاصمة البرتغالية هو أبعد من ذلك بكثير ليعطي مؤشراً على حصول تحول مفصلي هو جديد من نوعه في تاريخ العلاقات الدولية،حيث أن هذا الفصل الجديد بين الكرملين والبيت الأبيض يعني أن لاتحدي منذ الآن أمام واشنطن من قبل الدول الكبرى،مادامت الصين محتواة اقتصادياً ويتم ارضائها سياسياً في تايوان وبورما(ميانمار)،والهند في حالة توافق سياسي مع الأميركان في عصر مابعد الحرب الباردة،واليابان في استمرارية لوضعية مابعد1945،فيماالدول الكبرى الأخرى في(الناتو)،وهذا يعني أن هناك توافقاً ل”الكبار”،ستكون هناك ترجمات عديدة له، ضد الدول المتوسطة القوة،و”الدول المارقة”(وفق تعبير بوش في “خطاب حالة الإتحاد”عام2002 لماوضع تحت تلك الخانة كلاً من العراق وايران وكوريا الشمالية)،وفي الكثير من مجالات العلاقات الدولية.