افتراءات لا مذكرات
خيري منصور
الفرصة الآن مواتية لأي باحث سياسي كي يجري مقارنات بين ما كتبه ساسة أمريكا وأوروبا وجنرالاتها من مذكرات خلال القرن العشرين وما يكتب وينشر الآن بدءاً من مذكرات ديك تشيني وشوارتسكوف حتى مذكرات الثنائي الأنغلوساكسوني بوش الابن وبلير، وقد يترتب على مثل هذه المقارنات معرفة حيثيات الحكم وديناميات صنع القرار في الغرب المعاصر، فما كتبه الثنائي بوش وبلير عن حربهما في العراق تحديداً يجزم بأن الرجلين يتحدثان كما لو أنهما من أباطرة الرومان أو بطارقة العصور الوسطى، حيث الطريق مفتوح وبلا أية مصدات أو عوائق بين ما يحلمون به وما يستطيعون تحقيقه من هذا الحلم، وحين يسيطر الإسقاط النفسي أو ما يسمى التفكير الرغائبي على كاتبي المذكرات، فإن كل ما يصدر عنهم يفقد مساحات من مصداقيته، لأنهم لا يتحدثون عما جرى فقط، بل عن كل ما تمنوا حدوثه تلبية لرغباتهم، وحين يخلط بوش الابن بين السماء والأرض في لحظات استلهام قرارات شيطانية ينسى أن مثل هذه القرارات هي بشرية خالصة وأن الزّج بالسماء والروحانيات فيها معناه الاعتداء المزدوج على الإنسان وخالقه .
إن مذكرات من طراز ما كتبه ونستون تشرتشل تبدو عقلانية في سردها للوقائع الموثقة، فهو مثلاً عندما يتحدث عما سماه (بتلرة) الأسطول البريطاني في مطلع القرن العشرين وبالتحديد عام 1908 تفوح رائحة رغباته وأحلامه لكنها تبقى مغطاة بأحداث تاريخية وقعت بالفعل، لكن ما كتبه الثنائي الأنغلوساكسوني ظل ملغوماً بتلك الشهوات الامبريالية التي شُكِمت زمناً وبالتحديد خلال عقود الحرب الباردة، لكن المثل القائل إن الزمار يموت وأصابعه تتحرك حول ثقوب المزمار، يصدق أيضاً على الساسة وأحفاد الأباطرة لكن في خريف امبراطوريات سوّس فيها الصولجان وغربت عنها الشمس وتساقط عن الطاووس ريشه .
لهذا تتطلب هذه المذكرات استقراء أكثر من مجرد القراءة الأفقية، وهي تتضمن مواقف تصلح لأن يأخذ علماء النفس عينات منها لفحص حالات العصاب وجنون العظمة، وتفتضح هذه المذكرات آلية اتخاذ القرار حتى لو كان خطيراً وزلزالياً له ترددات كونية كقرار الحرب، فالساسة الذين يزهون على العالم بما فاض من الديمقراطية بحيث أصبحت قابلة للتصدير يمارسون مواقف تشبه تلك التي يتخذها قادة العالم الثالث أو من يسمون قادة الدول الباترياركية والاتوقراطية .
حتى المكالمات الهاتفية بين هؤلاء تتم وفق المزاج النفسي والسياسي في لحظة ما، بحيث يبدو مصطلح الشخصنة الذي أطلق على ساسة العالم الثالث أكثر تعبيراً عن هؤلاء الذين رأوا أنفسهم في لحظة من عمى القوة وبطشها كما لو أنهم يقودون هذا الكوكب بحبل يتدلى من عنقه .
وقد يرى بعض العرب أن ما ورد في هذه المذكرات يعدّ استخفافاً بالآخر، وبالعربي على وجه التحديد، لأن السكين التي يمسك بها كاتب المذكرات وبمعنى أدق “مؤلفها” يتحرك بحرية كاملة داخل خرائط مصنوعة من الزبدة وليس لها أية تضاريس وعرة، أو حتى سيادة من أي نوع .
هذا الاستخفاف يطال الأمريكي والإنجليزي معاً ولا ندري لماذا لا يتعرض من يكتبون مثل هذه المذكرات ذات النبرة الامبراطورية إلى مساءلات ثقافية وأخلاقية، إضافة إلى المساءلة السياسية في بلدانهم .
لقد سبق لمثقفين من أمريكا وبريطانيا مثل نعوم تشومسكي وهارولد نيتر وآخرين أن وصفوا واشنطن ولندن بأنهما تعيدان إنتاج الشمولية أو التوتالية في النظام الشيوعي، وأن الديمقراطية كما الليبرالية الجديدة أصبحتا بحاجة إلى إعادة تعريف بعد أن لحق بهما كل ذلك التشويه .