مفاوضات بلا موضوع
ميشيل كيلو
أعلم الأمريكيون أهل السلطة الوطنية الفلسطينية أنهم عجزوا عن إقناع “إسرائيل” باتخاذ قرار يوقف أو حتى يجمد الاستيطان، وأخبروهم بكل صفاقة أنهم اقتنعوا بدورهم أن وقف الاستيطان ليس ضرورياً لنجاح المفاوضات بشأن إقامة الدولة الفلسطينية . وبما أن المفاوض الفلسطيني كان قد أعلن مراراً وتكراراً أنه لن يعود إلى طاولة المفاوضات، إذا لم يتوقف الاستيطان تماماً وفي كل مكان من الأرض المحتلة بما في ذلك القدس الشريف، فإن النبأ الأمريكي سبب حرجاً شديداً للسلطة، جعل أبا مازن يتحدث لأول مرة عن عزمه على حل السلطة، لأن كرامته لا تسمح له أن يكون رئيس سلطة لا وجود لها، كما قال، بينما قيل بالمقابل أن صائب عريقات سيزور واشنطن للقاء الوزيرة كلينتون التي تعمل على إيجاد مخرج من الحالة الراهنة، يعلم القاصي والداني، وتخبرنا التجربة العملية، أنه سيكون موجهاً نحو انتزاع تنازل فلسطيني جديد يجعل استئناف التقاط صور “المتفاوضين” أمراً ممكناً .
قبل الإجابة عن السؤال حول ما يمكن أن ينتج عن مفاوضات لم تعد الأرض موضوعها بسبب استمرار الاستيطان وتكثيفه، يجب طرح سؤال مهم هو: ما معنى عجز أمريكا عن إقناع “إسرائيل” بتجميد الاستيطان؟ وهل سيتبدل هذا العجز إن ذهب عريقات إلى واشنطن أو لندن أو عاصمة بلاد واق الواق؟
بداية، أمريكا ضعيفة في الشرق الأوسط عامة وبلاد العرب خاصة، وهي بسبب ضعفها عاجزة عن الضغط على “إسرائيل”، أو بالأصح هي عازفة عنه، لأن حاجتها إلى الصهاينة أكبر اليوم مما كانت في أي وقت مضى . لقد قال كاتب هذه المقالة هذا الكلام وردده طوال عام التفاوض الماضي، وأكد أن المفاوضات لن توقف الاستيطان، لأن أمريكا بحاجة إلى قوة “إسرائيل” في الصراعات الدائرة داخل المنطقة وحولها، ولن تغامر بإغضابها، رغم تعامل نتنياهو معها بعجرفة وازدراء، وتحديه ليس فقط هنا، في منطقتنا، بل هناك، في قلب واشنطن . وإذاً، لا تمتلك أمريكا إرادة الضغط على “إسرائيل”، وليس في أولوياتها إجبارها على الانسحاب من أراض محتلة قد تستخدمها في أية لحظة للهجوم على لبنان أو إيران أو سوريا أو . . أو . هذا هو موقفها اليوم، وسيبقى موقفها إلى فترة غير قصيرة، فلا أمل من التفاوض، لا لأن التفاوض ليس أداة صراع، بل لأنه محكوم بموقع كل طرف من أطرافه، وموقع الفلسطينيين والأمريكيين ضعيف، بينما “إسرائيل” مرتاحة، تتحدى وتتجبّر في ظل الحدود الآمنة والضعف العربي، وتنوع وتشعب الصراعات على المنطقة، وتبدل أولويات تل أبيب وانتقالها إلى الشرق والشمال: إيران وتركيا، حيث تنشط لإقامة محاور وتحالفات جديدة تطوق من خلالها الدولتين، وترسي أسس صراع طويل ضدهما قد لا يخلو من العنف . لو كنت محل الدكتور عريقات، لما زرت واشنطن، لأن حاجتها إلى “إسرائيل” تمنعها من تقديم أي شيء قد يفضي إلى دولة فلسطينية، لا يوجد منها اليوم أي شيء على الأرض، وقد تكون درباً نحو الهاوية، في ظل الانقسام والضعف الفلسطينيين والتهافت العربي والصراعات التي تتخطى العرب، مع توطد نظام إقليمي جديد ركائزه إيران وتركيا و”إسرائيل”، العرب ليسوا طرفاً فيه بل واحدة من ساحات صراعاته، الضارية والمديدة .
أعود الآن إلى السؤال الأول: ماذا يمكن أن ينتج عن التفاوض؟ بداية أود إيراد معلومة لا يعرفها إلا قليلون: في عام 1978 التقى مسؤول فلسطيني حالي كبير جداً مستشار كارتر لشؤون الأمن القومي زبيغنيو بريجينسكي، فقال هذا له ما معناه:” الحقوا حالكم، وإلا أكل الاستيطان الأرض فلا يبقى لكم ما تقيمون عليه الدولة . أوقفوا كفاحكم المسلح وابدأوا التفاوض، وإلا ضاع كل شيء، استغلوا فرصة أن أمريكا تريد إقامة دولة فلسطينية، وأنها تدرك الآن خطورة المشروع الصهيوني على مصالحها الكونية وأمنها القومي” .
بعد ثلاثين عاماً ونيف، تغير خلالها الخط وأوقف الكفاح المسلح واعترف قادته ب “إسرائيل”، وقبلوا أقل من نصف مساحة قرار التقسيم، وقدموا جميع أنواع التنازلات، لم يتوقف الاستيطان ولم تعد الأرض، والدولة التي كانت حلماً ووعداً صارت فخاً، والفلسطينيون الذين كانوا موحدين بالتنوع انقسموا إلى فرق تناقضاتها وخلافاتها مدمرة، بينما تضعضع وضع أمريكا وتعنترت “إسرائيل” بما منحتها وتمنحها واشنطن بالذات من أسباب القوة والقتل . كانت مساحة المستوطنات عام 1978 لا تكاد تذكر، وكان عدد المستوطنين أقل من ثلاثين ألفاً، والمساحة اليوم تقارب 17% من أرض الضفة، بينما يبلغ عدد مستوطني القدس والضفة نحو نصف مليون، معظمهم من أشد أنواع الصهاينة تطرفاً وعدوانية، فعلى أي شيء يتفاوض الفلسطينيون؟ وهل بوسع أحد منهم تجاهل حقيقة أن كلام بريجنسكي كان فخاً أريد منه نزع سلاحهم وتمزيق وحدتهم وزجهم في متاهات السياسات الدولية والصراعات العالمية، وإمساك ورقتهم لاستخدامها ضد مصالحهم العليا قبل كل شيء، وعلى رأسها دولتهم السيدة والحرة والمستقلة .
لم يعد التفاوض مجدياً، ليس لأنه ليس وسيلة غير نضالية كما يقول بعض المتطرفين، بل لأنه يفتقر اليوم، وسيفتقر غداً أكثر، إلى ميزان القوى الذي يجعله مجدياً وقادراً على تحقيق نتائج تتفق مع تطلعات شعب فلسطين ومصالحه الوطنية، فلا بد أن تتجه أنظار الفلسطينيين إلى إقامة ميزان قوى ملائم قبل أي تفاوض، أو أن يستغل التفاوض لهدف رئيس هو إقامة وتمرير ميزان قوى كهذا، أسوة بما فعله الأمريكيون و”الإسرائيليون” من خلال التفاوض الذي استغلوه لتدمير الطرف الفلسطيني وتمزيقه، وإقامة ميزان قوى أتاح للصهاينة مواصلة الاستيطان وتمرير الوقت الضروري للاستيلاء على مزيد من الأرض التي صارت عملياً “إسرائيلية”، ويفترض التفاوض نظرياً وكلامياً أنها أرض دولة فلسطينية لم يعد لها من سند في الواقع، ما دام استمرار الحال الراهن سيجعل منها سلطة في وضع أشد سوءاً من وضع السلطة الحالية، لأنها ستكون بلا أي أرض .
إذا بدأ الدكتور عريقات مفاوضات أخرى، فإنه سيكون كمن يفاوض على تحقيق الواقع الذي يمنع قيام الدولة الفلسطينية، ويساعد العدو على تنفيذ سياساته التوسعية، وذلك لسبب جلي هو أن المفاوضات تكون دون وقف الاستيطان بلا موضوع، إلا إذا كانت الوعود الكلامية الفضفاضة هي هذا الموضوع، وكان الطرف الفلسطيني المفاوض يعتقد أن الشهداء كانوا يقاتلون من أجل وعود كلامية كاذبة قدر ما هي معسولة .
ليت الدكتور عريقات يعلن من واشنطن إعادة “العاصفة” إلى الحياة، ويخبر الأمريكيين و”الإسرائيليين” أن فلسطين ستنبع من فوهة البندقية، وأنها لن تأتي بعد اليوم من طاولة المفاوضات، بل من عمليات ستجعل الصهاينة يذوقون من جديد طعم دمائهم . ليته يقول هذا وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية التي جعلت رئيس وزراء العدو شامير يحتج في مؤتمر مدريد على ارتدائه لها، على أن يركب الطائرة بعد ذلك مباشرة ويعود إلى وطنه، من دون أن يتنازل ويقابل أحداً من المسؤولين في واشنطن .
إنها مفاوضات بلا موضوع، ولن تكون لها جدوى في الشروط الراهنة، حيث يبدو بجلاء أن العدو استأنف مشروعه الصهيوني الكبير والتاريخي لابتلاع فلسطين من البحر إلى النهر اليوم، وما وراءه غداً، وأنه يحققه على حساب وهم اسمه الدولة الفلسطينية، لن يرى النور أبداً لأسباب بينها أن السلطة لا تعرف كيف تقاتل من أجلها، بجميع الوسائل الممكنة بما فيها العمل المسلح، الجدي والحقيقي والمستمر، وليس الدعائي والمزايد والمتقطع .
تغلق المفاوضات من موقع الضعف الطريق أمام الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتغدو بلا موضوع أكثر فأكثر، وتضع فلسطين من جديد حيال سؤال المصير الذي سبق أن أجابت عنه بأنهار من الدماء والتضحيات والآلام، منذ إطلاق رصاصة فتح الأولى . لا بد ألا يكون التفاوض من الآن فصاعداً أولوية النضال الوطني، وأن يستعاد رد حجازي وأبو عمار في الأول من يناير/ كانون الثاني عام ،1965 لتبدأ من جديد وتتواصل معركة “شعب الجبارين”، الذي عجز الصهاينة عن هزيمته خلال قرن ونيف، ولن ينتصروا عليه اليوم أيضاً، بسلاح أمريكا أو بسلاحهم، إن هو توحد وقرر العودة إلى الميدان، لانتزاع حقوقه، على أشلاء الاستيطان والمستوطنين .
يقف صاحب القرار الفلسطيني على مفترق طرق، أما قراره فهو سيكون على قدر هائل من الخطورة، لأنه سيأخذ شعبه ووطنه إما إلى ما بعد فلسطين، وإما إلى ما بعد الصهاينة . ومن يدري، فربما تعود فلسطين، التي كانت رافعة النضال العربي بعد هزيمة عام 1967 إلى موقعها هذا، لتعيد إلى العرب حضورهم ووزنهم، بعد أن لعبت نظمهم دوراً خطيراً في إفقادها دورها ووزنها، وأسهمت أفظع إسهام في إيصالها إلى حيث هي الآن: ضعيفة ومغلوبة على أمرها، تفاوض دون جدوى من موقع من يقامر بمصيره .
الخليج