صفحات العالمما يحدث في لبنان

إلى مواجهة سياسية طويلة

سليمان تقي الدين
هدّد «حزب الله» أم لم يهدّد بتغيير قواعد اللعبة بعد صدور القرار الاتهامي ضده قبل التسوية، فإن قواعد اللعبة ستتغيّر حتماً. لا نستند إلى ما يقوله «الحزب» أو سواه، بل إلى مسار يفرض نفسه، ويجعل من قوة الحزب متجهة إلى الداخل اللبناني بشرعية الدفاع عن «المقاومة»، أو بشرعية الدفاع عن المكوّن الطائفي ودوره في المعادلة اللبنانية والإقليمية.
ما يمكن أن يخسره «الحزب» كحزب أو كجماعة، لا يمكن أن يقاس بما يخسره البلد ويخسره الآخرون. لا نعرف شعباً يعاقب مقاومته ويحاول أن يغرقها في وحول سياسات مصلحية صغيرة. ولا نعرف هذا المستوى من الانتهازية السياسية التي تؤدي إلى كارثة وطنية. هذا اللبنان السياسي سينتهي بشكل أو بآخر إذا بقي الكيد مسيطراً، وبقيت لعبة التنازع السلطوي مسيطرة على حساب المصلحة العامة المشتركة بين جميع الفئات.
فعلاً إذا تخفّف الحزب من ثقل مسؤوليته في «المقاومة»، وهذا ما يريده خصومه، فهو سيتحوّل إلى قوة صراع على السلطة، ولا ندري عندها ما هي مصلحة المتحمّسين لهذا التحوير في الصراع، وماذا يستطيعون عمله تجاه الديموغرافية والجغرافيا والاقتصاد وبصورة خاصة العنف!؟ هم بذلك يؤدّون خدمة مجانية لإسرائيل، ويفتحون ملف النظام السياسي على احتمالات ليست مرضية.
على أي حال ما زالت التسوية السياسية ممكنة تزامناً مع القرار الاتهامي، وما زال الحزب بطلبها بأقل الشروط. فالحزب يريد تضامناً لبنانياً ولا يطمح إلى تغيير الواقع الدولي الذي يتحكّم بقرار المحكمة.
قبل الحزب السقف العربي للتسوية وهو يلحّ على التفاهم السوري السعودي. ويؤكّد، إذا أُسيء فهمه، أنه يراهن على هذا التفاهم ويعطيه كل الفرص. قد تكون اللهجة التي يتحدث بها مسؤولو الحزب والتعابير التي يستخدمونها غير ملائمة لمضمون الفكرة المراد توصيلها، لكنهم يرون في «الطرف الآخر» برودة استثنائية في التعامل مع الأزمة ما يوحي بالاستثمار عليها.
هناك فرقاء لبنانيون يريدون الوصول إلى تلك اللحظة الحرجة التي تُستخدم فيها المحكمة الدولية أداة لمحاصرة الحزب بضغوط تمتد من لبنان إلى حلفائه في الداخل والخارج. يراهن هذا الفريق على استحالة سيطرة أي طرف لبناني على كل السلطة وعلى كل البلد. هذا الأمر هو صحيح، ولكن ينقصه فهم أن طرفاً لبنانياً بما يمثله «حزب الله» يستطيع أن يشلّ البلد، وأن يحدث تمزقاً عميقاً في كل نسيجه الوطني والاجتماعي والأمني. ولا نعرف أية مصلحة لأي طرف لبناني أو حتى عربي بهذه الحال.
لا يعتقد الطرف المستقوي بالمحكمة الدولية أنه يستطيع أن يضحّي بقرارها مقابل «ملف شهود الزور». لكنه مخطئ بهذا لأن جوهر الأزمة وأساسها القرار 1559 وتداعياته في التحقيق والمحكمة وحرب تموز وحرب الاتصالات. ما لا يريد فهمه أنصار المحكمة أن ملف «شهود الزور» يعني كل المواقف والممارسات والسياسات التي حصلت وهي في حقيقتها اغتيال سياسي طاول موقع البلد واستقراره ووحدته وعلاقاته العربية وتضحيات المقاومة والمساهمة والمشاركة في الاعتداء عليها. يقول الحزب ذلك تلميحاً لا تصريحاً لكي يبقي على جسور التواصل واحتمالات التسوية ومن أجل عدم تأجيج النزاع المذهبي. لكنه تدرّج ويتدرّج في قول ذلك خاصة حين يشير إلى «تهريب قرار المحكمة ونظامها» أو حين يعطف على ما كان يدور في الكواليس خلال «حرب تموز». يقوم الطرف الآخر بتسخيف مسألة «شهود الزور» عمداً واختصارها بإفادات أدلى بها بعض المرتزقة، ويتغافل عن الأسماء الكبيرة من ورائها.
لقد أخطأ الحزب و«المعارضة» في إدارة هذا الملف فلم يكوّنا معاً قضية حقيقية تنير الرأي العام، ولا كوّنا مطالعة قانونية في معنى وقائع الانقلاب السياسي الذي حصل، والأخطار التي عرّض البلد فيها للفتنة بحيث تصبح هي القضية وليست إفادات بضعة أفراد. ربما لكي لا يخلق الانطباع بتوازي الإساءة والأضرار خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخ البلد ونكء الجراح. غير أن الكلام السياسي الواضح أفضل بكثير من المواقف والخطب التي تتحوّل إلى وعد ووعيد وينطوي على تخويف يطاول كل اللبنانيين ولا يحدّد خصومه بدقة.
في كل الأحوال ما زلنا نعتقد أن على الحزب أن يجري مراجعة لإدارته السياسية في الأزمة الداخلية، وأن يتشاور مع حلفائه وأصدقائه في مسار المواجهة ويتفق معهم على الخطوات كي لا يظل أسير الصفة الفئوية. كما نعتقد أن المواجهة السياسية الطويلة النفس لاحتواء الأزمة يجب أن تبقى الأساس فلا يستدرج الحزب إلى فخ التدابير الأخرى التي يراهن عليها خصومه. تحديد وحصر الخسائر والحفاظ على القدرات وعلى الصفة الأولى لسلاح المقاومة هي شرط تجاوز هذه المحنة. إنها مهمة صعبة وصعبة جداً أكثر من المواجهة العسكرية، لكن هذا امتحان لقوة تريد التغيير في معادلات المنطقة وليس في معادلات لبنانية كانت وما تزال محكومة بمنطق طوائفي يحاصر الظواهر الوطنية مهما كانت كبيرة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى