محكمة وحكمة… الحلّ الممكن
روجيه ديب
لفتني كلام الرئيس السوري في قصر الإليزيه، بعد الغداء الخاص مع الرئيس الفرنسي، بأن لا اتفاق سوريّاً سعوديّاً حول المحكمة، وأنّ على اللبنانيين أنفسهم استنباط أفكار الحلول الممكنة فيدعمها الخارج أكان سوريّاً أم سعودياً أم فرنسياً.
وكنت قد جمعت بعض الأفكار حول موضوع المحكمة، محورها الحرص على العدالة والإستقرار، ومصلحة لبنان في المحافظة على المقاومة، ومصلحة “حزب الله” في أن يعود إلى الإجماع اللبناني. ولكني قلت في نفسي بأنّ دخولي على هذا الأمر قد يعتبر تطفلاً على مبادرة الديبلوماسية العليا في سوريا والسعودية، وهي ديبلوماسيّة أيّدها “حزب الله” بقوة، وهو المعنيّ المباشر بالموضوع، والقائل بأن هذه الديبلوماسيّة ستأتي بثمارها قريباً. غير أنّ كلام الرئيس السوري، في باحة قصر الإليزيه في كانون الأول 2010، الذي أكّد أن لا تسوية أو مبادرة سعودية – سورية، ودعا إلى أفكار لبنانية، حدا بي إلى أن أدلي بدلوي… علّنا، بقلم وعقل هادئين وقلب حريص على جميع مكونات الوطن، نوفر علينا، مجموعاتٍ ووطناً، ويلات كثيرة. وقبل عرض هذه الأفكار، أرى أنّه من الضروريّ والمفيد أن أحدّد منطلقات هذا البحث، وهي ثلاثة:
الأوّل: ضرورة المحكمة الدوليّة. فهي تحقّق العدالة. والعدالة أساس الملك، تمنع الاغتيالات في المستقبل، أو تحدّ منها على أقلّ تقدير. وهي تردع استعمال السلاح في الداخل للاغتيال السياسيّ أو للاستيلاء المباشر أو غير المباشر على السلطة. فإن نحن غلّبنا منطق القوّة على الحقّ والعدل عدنا إلى عصر الجاهليّة.
الثاني: إن المقاومة قيمة وطنية لكل لبنان، تقوي سيادته وهي أثبتت قدرتها في التحرير وجديتها في المواجهة مع العدو.
الثالث: هو ضرورة الفصل والربط في آنٍ واحد، ضرورة الفصل بين موضوع القرار الظنّي الذي يعني المحكمة الدولية، وموضوع شهود الزور الذي يعني القضاء اللبناني، وضرورة الربط القانونيّ العلني والصريح بينهما، وبالاتفاق الخطي مع المحكمة الدوليّة، لما قد يكون من وقع لموضوع شهود الزور على القرار الظني.
ومن أجل تحقيق ذلك، علينا أن نُطَمْئن الأفرقاء المعنيين. فـ”حزب الله” يخاف من أن تكون المحكمة مسيّسة، ومن أن تكون ذريعة تستهدف المقاومة، أو تستهدف كيان الحزب فتظهره متورّطاً في اغتيال القادة من أبناء بلده، أو تظهره غير منظّم وغير قادر على ضبط جماعات تتخذه مطيّة لتقوم بأعمال مشينة تترفّع المقاومة عن القيام بها، وبالتأكيد تنزعج من حصولها. وهذا ما يحطّ من قدره في أعين اللبنانيين عموماً والمحازبين خصوصاً ومن قبوله كفريق مسؤول يمكن أن يكون له الدور المهم في حكم لبنان. و”حزب الله” يعتبر أن القرار الظنّيّ مبنيّ على تحقيق مسيّس أيضاً. فهو لم يأخذ الاحتمالات الممكنة جميعها بل يركّز على جهة واحدة. وهو مبنيّ على شهادات كاذبة أدّت إلى إلقاء القبض على الجنرالات الأربعة من دون وجه حقّ، وأساءت إلى العلاقات مع الدولة السوريّة.
أمّا الرئيس سعد الحريري فهو يعترف بوجود شهود الزور، ولكنّه يخاف استعمالهم لضرب المحكمة، وهو يدعو إلى محاكمتهم بشكل لا يلغي المحكمة الدوليّة ولا يؤخّر مسارها أو يؤثّر عليه وهو أيضاً يخاف من أن يكون شرط نسف المحكمة هو الثمن الذي يجب أن يدفعه للإستمرار في الحكم… وهو، حتى الآن، يرفض ذلك لأنه أتى كرئيس للحكومة نتيجة انتخابات، وليس من وراء تسوية… وها هو “حزب الله” يتعامل مع نتائج انتخابات لبنان كما تعاملت إسرائيل والغرب مع نتائج انتخابات “حماس”!
فكيف يمكن، إذن، مقاربة هذه الموضوعات للوصول إلى العدالة المنزّهة؟
أولاً: يجب البناء على إيجابيات متفرقة ظهرت هنا وهنالك:
هناك اتجاه للفصل بين القرار الظنّيّ والمحكمة. وهذا ما أشار إليه الرئيس نبيه برّي ووزير الخارجيّة السوريّ من بعده. خصوصاً أنّ بعض القانونيّين المشهود لهم بجدّيّتهم يشهدون أنّ المحكمة على درجة عالية من الدقّة والاحتراف القانونيّ، وذلك بعد أن تعاطوا معها عملياً.
وهناك اتجاه عام لدى الفرقاء السياسيّين اللبنانيين كلّهم لرفض أيّ قرار ظنّيّ لا يُبنى على وقائع دامغة وقد عبر عن الشيء نفسه الرئيس بشار الأسد في فرنسا أخيراً.
وهناك اتجاه لتحييد قيادة الحزب عن كلّ ما يمكن أن يصدر في القرار الظنّيّ… وهذا ما حاول السعي إليه الرئيس سعد الحريري منذ اليوم الأول.
وهناك اتجاه لفصل المقاومة، وما تمثّل من قيمة وطنيّة، عن القرار الظنّيّ وحتّى عن المحكمة… لأنّ لبنان كلّه معنيّ بالمحافظة على المقاومة.
انطلاقاً ممّا سبق، إنّنا نتقدّم بالمقترحات الآتية:
1. كائناً ما سوف يكون القرار الظني أو حتى حكم المحكمة، يتم الفصل بين مسؤوليّة المحازبين الأفراد وبين مسؤوليّة القيادة الحزبيّة. والمحافظة على المقاومة وعلى استمراريّة الحزب كتنظيم لا يخيف الآخرين ولا يخافهم هو. المسؤوليّة الفرديّة في عهدة المحكمة. والمحافظة على المقاومة في عهدة اللبنانيين جميعاً. واستمراريّة الحزب في عهدة قيادته. وهذا الموقف الإطار يجب أن يصدر بقرار عن الحكومة اللبنانيّة، وبموافقة أطراف لجنة الحوار الوطنيّ جميعهم. وغاية هذا الكلام أنّه إذا تبيّن أنه، لا سمح الله، هناك علاقة ما لأفراد من “حزب الله” بمقتل الرئيس الحريري فالمسؤول هو من يصدر الحكم بحقه وليس المقاومة.
2. الالتزام المطلق بعدم التعليق السياسيّ، والتصعيد الإعلاميّ على القرار الظنّي. ويكون ذلك بتوجيه من مجلس الوزراء وتعهّد خطّيّ يوقّعه المشاركون في طاولة الحوار.
3. وفي انتظار قرار المحكمة الواضح يجب القيام بالخطوات التالية: تعهّد سرّي وغير قابل للرجوع عنه تقدّمه قيادة “حزب الله” لرئيس الجمهوريّة بإقالة كلّ من تثبت إدانته في المحكمة مشاركاً في عمليّة التخطيط أو التنفيذ للجريمة. و، لا سمح الله، في حال إدانة أحد الأفراد بهذه الجريمة يكون على الحزب تفهم موقف الدولة بضرورة تسليمه إلى المحكمة الدولية.
4. أمّا بالنسبة الى موضوع القرار الظنيّ، فمن الضروريّ اتخاذ الخطوات الآتية عند صدوره: يبدي وزير العدل رأيه بنوعيّة هذا القرار، ومدى احترافه وجديّته، ويناقش الأمر في مجلس الوزراء. ويبدي مجلس القضاء الأعلى، وعبر وزير العدل، تقويمه وتعليقه لدى المحكمة الدوليّة، ويتقدّم بملاحظاته حول القرار الظنيّ. وذلك بحسب الاتفاقية الموقّعة بين الدولة اللبنانية والمحكمة الدوليّة. هذا مع المطالبة بعدم المماطلة في إصدار الحكم.
5. في ما يتعلّق بشهود الزور. يُعقَد بروتوكول مع المحكمة الدوليّة للإشراف على هذا الملفّ الذي هو بعهدة القضاء اللبنانيّ، وذلك لمدة سنة لتوضيح مدى تأثير هؤلاء الشهود على القرار الظنّي أو عمل المحكمة. وتُصدِر الحكومة اللبنانيّة، عبر وزير العدل، توجيهاً لاعتماد أسرع الطرق القانونيّة في القضاء العاديّ لبتّ هذا الملفّ في فترة لا تتعدّى السنة من تاريخ إحالته. بعد إجراء تشكيلات عدليّة قبيل أو بعيد إحالة الملفّ على القضاء.
6. تبقى مسألة وحيدة وهي في غاية الأهميّة، بحيث لا تستقيم المقترحات السابقة من دونها، وهي كيف نتأكّد من نزاهة المحكمة وعدم تسييسها؟ يكون ذلك بإنشاء هيئة متابعة لبنانيّة للمجريات القانونيّة في المحكمة، تتألّف من خيرة القضاة اللبنانيّين ومكتب دوليّ مشهور كمدقّق (Audit) إضافيّ على المحكمة ينصح الحكومة اللبنانيّة بما تستطيع القيام به لتصحيح مسار المحكمة أو تسريع أعمالها. تماماً كالمستشار القانونيّ للأمم المتّحدة الذي خاطب المحكمة الدوليّة.
7. ولأن الموضوع هو أصلاً سياسي وشامل، فلا بد من التطرق إلى أمرين في هذه التسوية:
7- 1. سلاح “حزب الله” يخيف في الداخل ويريح في الخارج. لذا يجب إزالة خوف الداخل منه: فيُكلّف الجيش اللبنانيّ، وبقرار من الحكومة اللبنانيّة، بإبعاد السلاح عن كلّ منطقة جغرافيّة لا يعتبرها هو (أي الجيش) مفيدة لأعمال المقاومة، وهي في كلّ حال مقاومة ذات هدف واحد وهو الدفاع عن لبنان في حال تعرّضه لأيّ اعتداء ويمكن إعطاؤها غطاءً سياسياً من الحكومة بهذه المهمة (وقد بدأت فعلاً بآخر بيان وزاري لحكومة سعد الحريري). وهذا معناه فصل المقاومة عن النشاط السياسيّ والحزبيّ، وتشكيل قيادة خاصّة بها، وبإشراف الجيش اللبنانيّ، تضع modus operandi، وتعيّن مفوّضاً للجيش مشرفاً على تطبيق هذا التكليف بالمهمة الدفاعية حصراً.
وفي هذا الاقتراح محافظة على المقاومة. فلقد أثبتت التجربة التي عاشتها “القوات اللبنانيّة” بأنّ تحوّلها إلى حزب جعلها مساوية للأحزاب الأخرى ومتصادمة مع بعضها، في حين كانت فوق الخلافات والمناكفات الحزبيّة يوم كانت لا تزال “مقاومة لبنانيّة”.
7- 2. لا بد أن تفتح هذه التسوية أيضاً حواراً بين “حزب الله” ومعه الأطراف الشيعيّة الأخرى يتناول إراحتهم أكثر في دورهم ومكانتهم في النظام اللبنانيّ، بصفتهم أحد مكوّنات هذا الوطن الأساسيّة.
في الختام، لا بدّ من التأكيد على أمر سياسيّ لا قانونيّ ولا قضائيّ وهو أنّ “حزب الله” سيبقى عرضة للمؤامرات عليه من قبل أعدائه، ولن يلقى من يدافع عنه من الفرقاء الداخليين الخائفين منه طالما ظلّ هو خارج الإجماع الوطنيّ وخارج كنف الشرعيّة اللبنانيّة. الشرعيّة اللبنانيّة غير التابعة لـ”حزب الله” تحمي “حزب الله”. مصلحته هي في الخروج إلى الوطن، كلّ الوطن. الطائفة الشيعيّة وحدها لا تكفيه ولن تحميه بمفردها.
(وزير سابق)