صفحات ثقافية

أوقِفوا هذا التبسيط

null
عقل العويط
مرةً جديدة، يهمّني أن أتحدث عن المأزق المجتمعي والسياسي الذي تعانيه حياتنا الراهنة، وينعكس بشكل فادح على المأزق الثقافي، وعلى المثقف اللبناني (والعربي) تخصيصاً، أكان باحثاً في شؤون العقل أم أديباً أم فناناً أم مواطناً عادياً.
لماذا؟ لأنه كلما دقّ الكوز بالجرّة، يقول بعضهم من باب المقارنة المتحسرة، بالغمز واللمز أحياناً، وبالتصريح والتجريح والتأنيب والانتقاص وإصدار أحكام قيمة أحياناً أخرى، إن الثقافة كانت بألف خير في الستينات وأوائل السبعينات، أما اليوم فهي ليست على ما يرام.
جواباً، أوضح ما يأتي، تعبيراً عن تفكّر محض شخصي:
أنا متأكد من أن الزمن الستّيني الآفل كان زمناً متألقاً من النواحي كافة، بحيث أن تألقه كان يشيع في المتن وفي الهامش، في الحيّز المجتمعي والسياسي العام، وفي الحيّز الثقافي والأدبي والفني الخاص على السواء: بالقوة نفسها تقريباً، بالبريق نفسه تقريباً. بالشغف نفسه تقريباً. وبالطليعية نفسها تقريباً. وإن يكن التعميم يتلازم، ولا بد، مع عدد لا بأس به من التحفظات والفخاخ والمطبّات.
لكني إذا كنت متأكداً من أن الزمن الآفل كان زمناً متألقاً، فأنا متأكد تماماً من أن الزمن الراهن، بما هو زمن مجتمعي وسياسي وكياني وثقافي، هو زمن مريض، وأن مرضه شديد وخطر.
اشتداد الخطر في جسم الزمن المريض، يجعل المأزق وجودياً بالكامل. ذلك ان العلاقة بين المجتمعي والسياسي والثقافي، هي كعلاقة الرئتين بالهواء.
هواء هذا الزمن معطوب بالكامل تقريباً، مجتمعياً وسياسياً وكيانياً، فلا بدّ تالياً، من أن يكون زمن الثقافة معطوباً هو الآخر.
شيء يشبه التواصل – أكاد أقول شبه الحتمي – بين الأواني المستطرقة.
لذا من البديهيات القول إن الزمن الثقافي المتألق في الستينات وأوائل السبعينات، يدين بأسباب تألقه الى عاملين إثنين، يجب عدم التقليل من شأنهما معاً: العامل المجتمعي والسياسي المتألق، والعامل الذاتي المتألق (حال المثقف، أو الأديب أو الفنان أو المواطن العادي).
هذا التألق التواصلي المشترك بين العام والخاص، لم يعد قائماً، بسبب انهيار العامل المجتمعي والسياسي انهياراً مأسوياً.
بدون أحكام قيمة، أقول بقوة إن العامل المجتمعي والسياسي الراهن قد بلغ مبلغه الأقصى من التأزم والتخلف والانهيار، وإن هذا العامل رتّب، ولا يزال يرتّب، نتائج سلبية هائلة على العامل الثقافي والعمّال الثقافيين.
كلّ تغاضٍ عن هذه البداهة، يشكل مساهمة في التزوير الفكري.
يستطيع المتحسرون على الزمن الآفل أن يواصلوا التحسّر. لكن من مسؤوليتهم الجوهرية عدم ممارسة التبسيط عندما يقارنون بين الزمنين.
ليست الثقافة المتألقة (الستينات) معزولة عن الزمن المجتمعي والسياسي المتألق (الستينات). وليست الثقافة المريضة (الحاضر)، معزولة عن الزمن المجتمعي والسياسي المريض (الحاضر).
هذه حقيقة جامحة، يستطيع كل مثقف أو باحث أو كاتب، بل حتى المواطن العادي، أن يعرفها، علماً أن ذلك الزمن المجتمعي والسياسي الآفل لم يكن زمناً “مثالياً”، لا في الاجتماع ولا في السياسة.
كل من يتجاهل هذه الحقيقة المركّبة، يكون مشاركاً في عملية التزوير المجتمعي والثقافي والتاريخي والأدبي والفني.
قارِنوا بين الزمنين والمنتَجَين الثقافيين، وفتِّشوا عن الخصائص والمكوّنات والمعطيات لكلٍّ منهما، تعثروا على الخلاصات والاستنتاجات المجتمعية والثقافية غير المبسّطة.
يقولون لي إن المفكر أو الأديب أو الفنان الفلاني (من زمن الستينات)، كان رأسه في السماء. هذا صحيح.
أقول لهم إن المفكر أو الأديب أو الفنان الفلاني (من الزمن الراهن) رأسه في السماء أيضاً.
الفارق المفجع، أن ذلك الزمن المجتمعي والسياسي العام كان أفضل حالاً مما هو عليه اليوم، وأنه لم يكن منفصلاً عن الزمن الخاص، بل كانا يترافدان نوعياً، بحيث أن مكوّناً أساسياً من صورة المفكر والأديب والفنان آنذاك كان مكوّناً مجتمعياً.
اليوم، المكوّن المجتمعي هو مكوّن كارثي.
بدل حماية المفكر أو الكاتب أو الفنان المتألق من الطبيعة الكارثية لهذا المكوّن، نرى “المؤرخين” المتحسرين وسواهم، يُسقطون هذا المكوّن السلبي على المنطق الذي تتشكّل منه صورة المفكر والأديب والفنان المتألق، فتبدو هذه الصورة اليوم، نافلة ودونية، قياساً بالصورة ومكانتها يومذاك.
لا يعنيني أن أدافع بصورة غريزية ساذجة عن مثقف اليوم، ولا عن الأديب أو عن الفنان. لكن يعنيني أن أفكّك العلاقة بين المجتمعي والسياسي والثقافي، مبيّناً حجم “الجرم” اللاحق ببعض مثقفي الزمن الراهن، وأدبائه وفنّانيه. علماً ان هذا الزمن يحفل بأعداد غفيرة من الطفيليات الفكرية والثقافية والأدبية والفنية على السواء.
المجتمع اللبناني مريض دائماً. في الستينات والسبعينات، كان أيضاً مريضاً، لكن مرضه كان مغلّفاً بألف زهو وزهو. وقد انعكس ذاك “الغلاف” الزاهي إيجاباً على صورة الكاتب. إلاّ أن المرض استفحل منذ منتصف السبعينات، حروباً واقتتالات وظلاميات ورجعيات وغرائزيات وأمّيات، في العقل والنقد والدين والعلم والأدب والفن والحياة. وقد زحف هذا الاستفحال على الثقافة، فأصيبت هي أيضاً في الصميم، وتراجع حضورها المهيب في الحيّز العام تراجعاً بنيوياً، مما جعلها أكثر هامشية ودونية مما كانت عليه في أي زمن مضى.
ما أقوله عن تراجع حضور الثقافة في الحيّز العام، أقوله أيضاً عن تراجع حضور الأدب والفن تحديداً، ليس فقط بسبب التراجع المجتمعي والسياسي والكياني المرعب، وإنما أيضاً بسبب الأمية والجهل والخفة والادعاء، وأيضاً بسبب استدخال عوامل “ثقافية” مستجدة، يُصطلَح على إدراجها تحت عمامة الثقافة الاستهلاكية.
الخطأ العظيم يكمن في التعميم والتبسيط.
هذا المقال ليس هجوماً على أحد، وفي الآن نفسه ليس دفاعاً عن أحد. إنه دعوة الى الكفّ عن التحسر الساذج على زمن، كان في بعض أحواله زمناً متألقاً، لكنه كان في بعض أحواله الأخرى “مغلّفاً” بالزهو الفارغ. باطنه يحتاج – كما هي شؤون الأزمنة كلها – الى إعادات نظر نقدية، متأنية وحكيمة وعادلة، وذلك من أجل حسن التأريخ للماضي وللحاضر. معاً وفي آن واحد.
فبعض الهدوء والمقارنة والنقد والتبصّر أيها السادة! لكنْ بتبسيط أقلّ.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى