صبحي حديديصفحات ثقافية

يوسا وأنصاف الحقائق

null
صبحي حديدي
قبل أيام ألقى الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، نوبل الآداب لهذا العام، واحدة من أكثر محاضرات الجائزة انحيازاً إلى فلسفة اليمين، الليبرالي تارة والمحافظ غالباً، على نحو لعلّه بدا مفاجئاً حتى لاولئك الذين خبروا تقلّبات الرجل الفكرية والسياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. وليس الأمر أنّ هذا الخيار معيب في ذاته، حتى إذا اختلف المرء في كثير أو قليل مع جملة الأفكار التي طرحها يوسا في محاضرته، وإنما العيب كلّ العيب في أنه يتعمد الإتيان على نصف الحقيقة عن سابق عمد وتصميم، ورغم أنّ ما يغيّبه جليّ واضح كعين الشمس.
ولا خلاف حول أفكار المحاضرة الأدبية، حتى إذا كانت في غالبيتها مكرورة معادة، كالقول برسالة الأدب والقراءة في تعزيز قِيَم الحرّية وحقوق الإنسان والتعدد الثقافي ونبذ الكراهية والتعصب القومي، وأنّ ‘الادب يخلق أخوية داخل التنوّع الإنساني ويمحق الحدود التي نشأت في صفوف الرجال والنساء بتأثير الجهل، والإيديولوجيات، والأديان، واللغات، والحمق’. المفاجىء أنّ يوسا يلقي اللوم على فريق واحد من أبناء هذه البشرية الشاسعة الواسعة المترامية الأطراف، هم نتاج ‘عصر الغلاة، والإرهابيين الإنتحاريين، المتحدرين من نوع عتيق مقتنع بأنّ القتل يُكسب الجنّة، وأنّ دم الأبرياء يردّ المظالم، ويفرض الحقيقة على العقائد الزائفة’. صحيح أنه لا يعيّن (أو لا يتجاسر، ربما، على تخصيص) ما يُسمّى بـ ‘الإرهاب الإسلامي’؛ وأنّ إدانة الإرهاب الأعمى تظلّ كلمة حقّ قد يُراد بها باطل كثير، وسكوت عن أنساق أخرى من الإرهاب، الذي تتولاه الدول على سبيل المثال. إلا أنّ يوسا يتغافل تماماً عن إدانة ما ارتكبته وترتكبه الولايات المتحدة من جرائم جرّاء غزو واحتلال افغانستان والعراق، وفظائع سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو، خاصة بعد أن قدّم موقع ‘ويكيليكس’ الدليل القاطع على خفايا أخرى لم تكن موثّقة تماماً.
لن تعثر في المحاضرة على مفردة واحدة تخصّ أمريكا جورج بوش والمحافظين الجدد، أو ارتداد الديمقراطيات الغربية الحثيث عن مكتسبات جوهرية تخصّ الحرّيات العامة والمدنية، بدعوى محاربة الإرهاب والدواعي الامنية؛ ولكنك ستعثر على الكثير الذي يشرح توبة يوسا عن أفكاره الإشتراكية السابقة، وانهيار آماله في الإتحاد السوفييتي، والثورة الكوبية، والثورة الثقافية الصينية، وفديل كاسترو الكوبي، وهوغو شافيز الفنزويلي، وإيفو موراليس البوليفي… هذا حقّ للرجل، بالطبع، ولكنه ينقلب إلى ضلال وتضليل حين يلتزم يوسا الصمت التام عن جرائم أمثال جورج بوش الأب، وبيل كلنتون، وجورج بوش الابن، والكولومبي ألفارو أوريبي، وسواهم ممّن تسببوا في سقوط عشرات، ومئات، الآلاف من الضحايا الأبرياء.
وقد يجهل الكثيرون أنّ يوسا، الذي يحمل الجنسية الإسبانية أيضاً، ظلّ حتى عهد قريب عضواً كامل النشاط والحضور في ‘الحزب الشعبي’ الإسباني، الذي كان يقوده رئيس رئيس الوزراء السابق خوسيه ماريا أثنار؛ وأنّ يوسا اعتبر الأخير ‘أحد أعظم رجال الدولة في القرن العشرين’، متناسياً آراء أثنــــار الرجــعية والمحافظة، واصطفافه التامّ مع الولايات المتحدة في غزو أفغانستان والعراق، وأنّ دورية ‘فورين بوليسي’ الأمريكية اليمينية الشهيرة اعتبرته ‘أحد أسوأ خمسة رؤساء وزراء سابقين في العالم’! ما هو أشدّ إثارة للعجب موقف يوسا من اللغة الكاتالينية، ودعوته إلى حظرها تماماً، هو المطالب بالحريات الثقافية والمدافع عن التعددية الإثنية!
لكنّ صمت يوسا على ما يجري في كولومبيا يظلّ ذروة العيب في رياضة ازدواج المواقف هذه. ففي تقرير حديث العهد، أعدّه معهد RAND الأمريكي المختصّ بأبحاث ‘الدفاع الوطني’، ثمة أرقام مذهلة حول تهريب السلاح والإتجار به استيراداً وتصديراً، في بلد تقول أكثر الإحصائيات تفاؤلاً إنّ نسبة الجريمة فيه هي الأعلى في العالم. غير أنّ هذه الحقيقة، أي العلاقة بين تجارة السلاح وارتفاع معدّل الجريمة، ليست مدعاة ذهول أكثر من الحقيقة الأخرى التالية: أنّ معظم هذا السلاح يأتي من مصدر واحد هو ما يُسمّى ‘مستودعات الحرب الباردة’، أي تلك الكميات الهائلة من الأسلحة التي سبق أن خزّنتها الولايات المتحدة في بلدان أمريكية ـ لاتينية مثل الهوندوراس والسلفادور ونيكاراغوا. لا كلمة واحدة من يوسا.
هذا بلد شهد ويشهد حرباً أهلية طاحنة تجاوز عمرها نصف قرن، وذهبت بأرواح أكثر من 53 ألف قتيل، وينخرط فيها عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات يميناً ويساراً. لكنّ البيت الأبيض، وبصرف النظر عن هوية شاغله الأوّل وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً، يختصر هذا كلّه إلى مجرّد حرب أمريكية ضدّ المخدرات. والاختزال ينطوي، بالطبع، على طمس الحقائق السياسية والإجتماعية وراء الحرب الأهلية، وكيف أنّ الجوهريّ فيها هو مصادرة أراضي مئات الآلاف من الفلاحين، وطردهم من مئات القرى، الأمر الذي أطلق شرارة العصيان الشعبي الذي تتزعمه اليوم ‘جبهة القوات المسلحة الثورية الكولومبية’. يوسا، من جانبه، يشاطر واشنطن في اختزال الجبهة إلى ‘عصابة مخدّرات’ تعيث فساداً في بلد يراه يوسا سائراً في الطريق الصحيح نحو الديمقراطية.
فلا عجب أنّ الشرق الأوســــط يحظى من كلّ المحاضرة بتعبير يتيم هو ‘إراقة الدماء’، دون أية إشارة إلى مَن يريق، ومَن يُراق دمه!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى