تصنيف المفكرين
عمار على حسن
ما دمت تعمل فى حقل إنتاج الأفكار والمعارف فى بلادنا، وحتى لو كنت مجرد ناقل لها، فأنت معرض، لا محالة، لأن تخضع لتصنيف ما، يزيحك إلى أى من الأيديولوجيات السائدة، فإما أنت يسارى أو إسلامى أو ليبرالى، وداخل هذه التقسيمات الثلاثة الكبرى يتم توزيعك على أحد ألوانها، المتدرجة من الاعتدال إلى التعصب الأعمى مرورا بأشكال عدة من الانحياز النفسى والعقلى.
وهذا التصور النمطى لميول وتوجهات وتصورات المفكرين والمبدعين العرب يتجاهل عدة أمور أساسية هى:
١- حق الإنسان فى التفكير الحر، الذى يتجاوز الأيديولوجيات الجامدة، إلى آفاق رحبة من العمل الذهنى الخلاق، الباحث دوما عن أطر فكرية وسياسية متجددة قادرة على النهوض بواقع يتغير، لا سيما إذا كان هذا التغير متلاحقا بسرعة شديدة، ويمتد هذا الحق إلى رفض جميع الأفكار الرائجة فى مجتمع ما فى لحظة معينة، من منطلق اقتناع بأن أياً منها غير جدير بالانحياز إليه أو تبنيه.
٢- حق من يفكر فى ممارسة درجات من النقد الذاتى، الذى تصل ذروته إلى حد «القطيعة المعرفية» مع ما كان الفرد يعتنقه من أفكار فى الماضى، دون أن تكون هذه النقلة النوعية خاضعة لاعتبارات ذات طابع انتهازى، من قبيل تبديل الأفكار والمواقف إرضاء للسلطة أو بحثاً عن منافع مادية أو مناصب بيروقراطية أو مواقع فى السلم الاجتماعى، أو خوفا من تيار سياسى معارض بعينه أو إرضاء له لتحصيل مكاسب معينة، وهذه النقلة أو تلك القطيعة تتطلب اعترافا من الآخرين بها، بحيث لا تظل الأفكار القديمة التى كان الفرد يعتنقها تطارده أينما حل، وكأنها ثوب ارتداه، ولن يكون بمقدوره أن يخلعه مهما اتسخ أو بلى، وبات ملفوظا ممن يرتديه.
٣- ضرورة التفاعل مع المحيط الأكبر، الذى يتعدى الحدود الجغرافية للوطن سواء كان دولة أو أمة بأكملها، بحيث يستفاد على الوجه الأكمل من تجارب الآخرين مع الأفكار، خاصة إذا كان جزءا كبيرا من تلك الأفكار المتداولة والأيديولوجيات المنحاز إليها داخل حدود الوطن وافدة من الخارج، فالاشتراكية والليبرالية بأطيافهما ليستا صناعة مصرية، وإن كانت التجربة المصرية قد اجتهدت فى إطارهما من خلال المزاوجة أو التوفيق بين «الأصالة» و«المعاصرة» أو «التراث» و«التجديد»، وحتى التصور السياسى الإسلامى، الذى فارق الدين إلى الأيديولوجيا، يعود فى جزء رئيسى منه إلى أفكار وردت من خارج بلادنا، وتحديدا من شرق آسيا، حيث أبوالأعلى المودودى وأبوالحسن الندوى وغيرهما.
لقد عانى ويعانى بعض من منتجى الأفكار لدينا من آفة تصنيفهم ليس فكريا فحسب، بل سياسيا أيضا، ولم يستوعب الآخرون أن هؤلاء يفكرون بعقول حرة ونفوس تنزع إلى الاستقلال، وظل كثيرون من أولئك تطاردهم الصورة الذهنية التى التقطت لهم فى مستهل طريقهم إلى المعرفة، ومن ثم طالما عبر كثيرون عن حيرة انتابتهم فى تحديد توجه مفكر عظيم مثل جمال الدين الأفغانى، أو فيلسوف عبقرى مثل حسن حنفى. فالأول تراوح تصنيفه بين الاتهام بالماسونية والتجديد الدينى، والثانى تباين توزيعه بين الماركسية والتطرف الإسلامى. وعلى مستوى آخر لم نبحث بجد واجتهاد لنحاول أن نفهم التحولات الفكرية فى حياة مفكرين كبار مثل طه حسين وزكى نجيب محمود وطارق البشرى، ولم ننتج بعد ما يكفى فى علم اجتماع المعرفة ما يؤهلنا للحكم على السياق الفكرى الاجتماعى والسياسى بل النفسى الذى أنتج فيه مفكرون كبار أفكارهم العميقة.
بل كل ما أعيا أذهان المتابعين للأفكار فى بلادنا هو تصنيف هؤلاء فكريا، بوضعهم فى قوالب جامدة، أشبه بالخزائن الحديدية، لا يستطيعون منها فكاكا، مع أن الإنتاج المعرفى الذى راكموه بعد تصنيفهم القديم أو الأولى يبرهن جيدا على أنهم تطوروا فكرياً، وربما فارقوا تماما، أو قاطعوا، تلك الأفكار التى كانوا يتبنونها فى مستهل حياتهم، ومع أن بعض السير الذاتية التى خلفها مفكرون، أو الحوارات التى أجريت معهم حول مسيرتهم الفكرية، تدل على أن هؤلاء فى حالة جدل مستمر مع الذات والآخر، سواء من خلال علاقات الوجه للوجه مع أندادهم فى العالم العربى وخارجه، أو بالاطلاع المستمر على ما يستجد من أفكار فى مختلف أرجاء العالم من خلال المصادر المكتوبة، أو بالتفاعل مع السياق الثقافى الاجتماعى المحيط بهم.
وآفة قولبة المفكرين هذه مردها الرئيسى هو الرغبة فى الإمساك بمعيار، حتى لو كان زائفاً أو معيباً، يسهل على الناس التعامل مع المفكر، حيث الكسل فى متابعة ما ينتج من أفكار، وهى مسألة تدل عليها مؤشرات عديدة منها تدنى مستوى توزيع الكتب وطباعتها وبالتالى انحسار عدد القراء، والضعف الشديد الذى أصاب الحركة النقدية، علاوة على تراجع حجم النخبة الفكرية ذات الاهتمام الموسوعى، وانتشار ظاهرة «الثقافة السماعية»، التى تهيئ المناخ الفكرى لتقبل الآراء الجاهزة أو «المقولبة» والمحرفة والأحكام السريعة على المفكرين، وطغيان السياسى على الفكرى فى حياتنا، ثم طغيان الأمنى على السياسى والفكرى معا، وهو ما ينتج على الفور ميلا إلى تصنيف أصحاب الرأى، حتى يسهل التعامل معهم أمنيا. كل هذا ران على العقل المصرى بحيث صار غير قادر على استيعاب، أو لا يريد أن يستوعب، أن هناك من يفكر بطريقة حرة، بعيدا عن القوالب الجامدة.
المصري اليوم