صفحات مختارة

الاستبداد من منظور المطلق والنسبي

منير الخطيب
«المطلق والنسبي ليسا شيئين، إنهما مفهومان وحدّان. ليس النسبي شيئاً والمطلق عفريتاً. المطلق حدٌ يحدُّ النسبي، ومن ليس عنده في فكره وفي روحه المطلق يحول نسبيَّهُ إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد». المقطع هذا للمفكر الراحل الياس مرقص.
الاستبداد ليس احتكاراً للسلطة والثروة والقوة من قبل فئة أو طغمة أوليغارشية فحسب، على رغم أهمية هذا التحديد للاستبداد، بل هو في أحد مضامينه الأكثر عمقاً وجذرية، تعبير عن «ثقافة» مجتمعية ضمرت فيها الروح العامة والروح الإنسانية، وانحدرت إلى مجرد فلكلور شعبي، وتعبير عن حالة «تخثر ثقافي»، انغلقت فيها «الثقافة» على نسبياتها وأوثانها الخاصة، وعلى ثوابتها الأيديولوجية، سواء كانت دينية أم دنيوية.
لقد اقترنت ظاهرة «التخثر الثقافي» في مجتمعاتنا، مع الإجهاز على مفاعيل «صدمة الحداثة» من جهة، ومع انتعاش الجماعات الأيديولوجية ما قبل السياسية من جهة ثانية، ومع إعادة إنتاج التشظي في الحقل الاجتماعي من جهة ثالثة. فحولت هذه الجماعات التي تعيش حالة ما قبل الدولة وما قبل القانون، نسبياتها وأوثانها الخاصة إلى مطلقات، تريد فرضها على المجال العام للمجتمع كأنها حقائق كلية، فصار الحزب الأيديولوجي مطلقاً، و «القائد الضرورة» مطلقاً، وكذلك الطائفة والعشيرة و «القومية» و «الطبقة» و «القضية»، جميعها مطلقات تتخابط في سيرورة تقهقر ثقافي واجتماعي وسياسي وأخلاقي، مولدة حالة «حرب الجميع على الجميع»، وهي عينها حالة «الفوضى الخلاقة»، التي لم تكن ابتكاراً «بوشياً» بقدر ما هي سمة ورمز لواقع ما قبل الدولة، الذي ينيخ بوطأته على مجتمعاتنا.
إن غياب فكرة المجال العام المشترك بين البشر في الذهنية الجزئية والحصرية، وتحويل نسبي هذه الذهنية الواهمة والمستكلبة في آن الى مطلق تحاول فرضه على المجال العام بالعنف العاري، هو الذي يقبع في خلفية عجز مجتمعاتنا عن إنتاج دول وتعاقدات اجتماعية وقوانين عامة فوق الأعراف، وعجزها عن الانتقال من مفهوم الملة/ الديني إلى مفهوم الأمة/العلماني.
كذلك الأمر في الأنساق الأيديولوجية المغلقة، سواء كانت «علموية» أم «دينية»، هي أنساق طاردة لمفهوم المطلق، وفي شكل خاص المطلق الأخلاقي، بقدر ما هو مفهوم مولد لنمو فضاء ثقافي وسياسي موحد بين البشر، وبقدر ما هو مفهوم مولد لفكرة «الإرادة العامة» و «النفع العام» التي هي أساس العقد الاجتماعي، وبقدر ما هو طارد «لمطلقها» النسبي والذاتوي.
بعكس الاعتقاد السائد عند بعض الاتجاهات «العلموية» في بلادنا، وهو أن الغرب تقدم لأنه أمسك بالنسبي وترك المطلق، فإن الغرب وظّف المطلق كأحد مفاهيم صعوده النهضوي، والذي ساهم في تحطيم الديكتاتورية الروحية للكنيسة، وكان ركيزة الإصلاحين الديني والأخلاقي، وأحد أسس تجاوز الأوروبيين لواقع التفتت الإقطاعي والانغلاق «المحلوي»، وكذلك كان أحد المفاهيم المؤسسة لمبادئ، عمومية الدولة وسمو القانون وحرية الأفراد.
إن حضور الله في حياة الأوروبيين، من خلال قيام الدولة والقانون والحرية، هو الذي جعل الشيخ الإصلاحي محمد عبده مطلع القرن الماضي، يقول عند أول لقاء له مع الغرب: «وجدت هنا إسلاماً بلا مسلمين». في المقابل إن غياب الدولة والقانون والحرية في مجتمعاتنا، يكمن في خلفية الشق الثاني من مقولته: «ويوجد عندنا مسلمون بلا إسلام».
لقد قال الأديب الروسي الكبير ديستوفسكي على لسان أحد أبطال رواياته: «إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح». في بلاد التأخر والاستبداد كل شيء مباح، من خرق قانون السير في الشارع، مروراً باعتقال الآخر وتخوينه بسبب رأيه ومعتقده، وصولاً إلى الحرب الأهلية.
عندما يغيب المطلق الأخلاقي، وبخاصة في أحد تعبيراته الأكثر عمقاً أي دولة القانون، يصبح كل شيء مباحاً، وهذا يفسر صعود الدين في مجتمعاتنا كعصبيات ووثنيات ومذاهب، وتراجع مضمونه الروحي والوجداني والأخلاقي، وكيف يتزامن تطويل «اللحى» مع تقصير الضمير(!)، وكيف تستعر حروب السيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة، في زمن «الصحوة الإسلامية»(!)، ويفسر أيضاً كيف يتزامن فوران دور العبادة وتزاحم أعداد الوافدين إليها، مع تقليص المجال الثقافي والسياسي ليتطابق مع حدود الطائفة والمذهب، فيحتمي البشر بعصبياتهم ما قبل الوطنية، ويرفعون رموزها النسبية إلى مصاف المطلق، ويعجزون بالتالي عن إنتاج عصبية وطنية جامعة.
إن هذا الذي يجري في لبنان والعراق واليمن والصومال وبين شمال السودان وجنوبه وبين الضفة وغزة وبين أقباط مصر ومسلميها والحبل على الجرار، يجعلنا نقول بضمير بارد: إن «الشعوب» التي لا تعرف الدولة والقانون والحرية، هي بالضرورة شعوب لا تعرف معنى الله، بصرف النظر عن ثرثرتها وهذيانها على الطالع والنازل بكلمة الله الله الله …، من يخّون الآخر بسبب رأيه ومعتقده لا يعرف معنى الله، من يشهر سلاحاً في وجه أبناء وطنه لا يعرف ما هو الله، من لا يدعو إلى عصبية وطنية فوق جميع العصبيات ليس في روحه وفكره المطلق، بل أحّل أوهامه وأصنامه مكان المطلق.
لا شك في أن المجتمعات العربية تحتاج إلى إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية ودينية، ولكن بموازاة ذلك هي بحاجة إلى عملية ترميم تاريخية للضمائر، وإلى إصلاح أخلاقي تكون مقدمته «انتشال الله» من مستنقعات الطوائف والجماعات الدينية المغلقة، وجعله مبدأًً مؤسساً لعمومية الدولة وسمو القانون وضرورة الحرية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى