حرية التعبير بين الاشتراط والإطلاق
فرج بيرقدار
بوصفي كاتباً من الشرق، مهد الحضارات قديماً، ومعقل الطغيان والاستبداد والتخلف راهناً، يتوجب علي الاعتراف أن الذي يحكم في بلادنا إنما هو قانون القوة، لا قوة القانون. وأنا هنا لا أريد أن أقدم مديحاً خالصاً ونهائياً لقوة القانون عندكم في الغرب، ذلك لأن قوة القانون، على الرغم من أهميتها الكبيرة في عصرنا الراهن، ما زالت عرضة لبعض الانتهاكات والتحايلات سراً في الغالب، وأحياناً علناً، وهي على ما أرى في المحصلة تبقى أدنى من قوة الأدب والفن على سبيل المثال، وأدنى من قوة الحب أو الأخلاق أو الحس الإنساني النبيل.
في بلادنا محرَّمات كثيرة تتفرع عن ثلاثة عناوين عريضة تتلخص بالسياسة والدين والجنس.
أي كلمة في هذه الميادين غير محسوبة جيداً، يمكن أن تودي بصاحبها إلى السجن أو العار أو الموت.
حرية التعبير؟!
إن لفظة الحرية في شرقنا العربي والإسلامي على وجه العموم، تثير ريبة السلطة أولاً، لأن الحرية هي النقيض المباشر للديكتاتورية.
وتثير ريبة العديد من المجموعات أو المؤسسات أو السلطات الدينية المنغلقة، لأن الإنسان من وجهة نظرها مسيَّر من الله وليس حراً أو مخيَّراً، وبالتالي فإن الحرية سبيل من سُبل الجحود والنكران وفساد الرأي، وبالتالي فساد الإيمان المفضي إلى تزيين الكفر.
كما انها (حرية التعبير) تثير ريبة الجزء الأكبر من مجتمعاتنا التي تتوجَّس من ترابطها مع الحريات الأخرى، شخصيةً كانت أم اجتماعية، وهي مجتمعات بغالبيتها مبالِغة في محافظتها على جميع الصعد، ولا سيما على صعيد الحرية الجنسية.
بالطبع هذا لم يمنع سابقاً، ولا يمنع الآن، خاصة مع تيسّر سبل النشر العابر للرقابات، من وجود أعداد متزايدة من الكتاب والمثقفين والعلمانيين الذين لا يساومون على حقهم في حرية أن يعلنوا رأيهم ويطرحوا أفكارهم، وأنا لسوء الحظ أو حُسْنِهِ واحد من هؤلاء.
ولكن هل هذا هو قدرٌ أو طبيعة لدى شعوب دون غيرها؟
أعتقد أننا لكي نطل على المشهد من مسافة أعلى وأبعد، ينبغي أن نوسِّع دائرة طرح الأسئلة في هذا الميدان وما حوله:
ـ مَنِ الذي خلقَ التنظيم الأكثر عداءً اليوم لحرية التعبير، أعني تنظيم القاعدة؟
من الذي دعمه أو ساعده في الوصول إلى هذا الزخم التدميري المرعب؟!
تذكَّروا.. قبل سنوات لم يكن الأمر على هذا النحو لا عندنا في الشرق و لا عندكم في الغرب.
ـ من الذي أوصل قطاعات واسعة من شعوب البلدان الفقيرة إلى الكفر بكل ما هو على الأرض، فشقوا طريقهم إلى السماء بكل ما لديهم من قوة هذا اليأس الانتحاري الرهيب؟
ـ ما الذي قدَّمه العالم المتمدن للعالم المتخلف غير الحروب الساخنة والباردة وحماية الطغاة المحليين أو مباركتهم أو على الأقل السكوت عما يفعلونه بشعوبهم؟
أسئلة مطروحة علينا جميعاً إذا كنا مقتنعين أن هذا الكوكب لا يمكن إلا أن يكون مشتركاً بين جميع بني البشر في خرابه وعمرانه.
ـ كم هي ميزانيات الدفاع في العالم وكم هي ميزانيات الثقافة أو الدعم الإنساني مثلاً؟
ربما تكون ميزانية الثقافة في السويد أحد الاستثناءات، ولكنه يبقى استثناءً بسيطاً إذا عرفنا أن الناتج القومي الإجمالي للسويد ” حسب عام 2005 ” هو 267 مليار دولار أمريكي، أي أقل من ميزانية البنتاغون.
عالمنا العربي والإسلامي، أعني عوالمنا، وإن شئتم شعوبنا على تنافرها أو تضافرها، تكره حكامها أكثر من كرهها للشيطان. ولكنها إذا تخلصت من حكامها فستواصل كرهها لأميركا وإسرائيل أولاً، ثم للدول الأوروبية تبعاً لدرجة عدائها أو نصرتها لحياتهم وحقوقهم وكرامتهم. العراق أحد الأمثلة الراهنة على ذلك.
إذن على العالم المتمدِّن أن يختار بين أن يبقى حكامُنا كدرع يحميه ويحمي مصالحة على المدى القريب، وبين أن يسكت، أو يساعد في التخلص منهم بطريقة تعزز العلاقات ما بين الشعوب والحضارات المختلفة على المدى الأبعد.
بالنسبة إلي كشخص غير متديِّن، لا أرى حتى الآن ما يمكن الرهان عليه في حكومات البلدان المتقدمة، غير أني شديد التفاؤل بما يمكن أن تقدِّمه مؤسسات المجتمع المدني في تلك البلدان، فهي وحدها القادرة الآن على إقناع شعوبنا بأن لهم في الغرب إخوةً منصفين.
قد يفاجئكم حديثي لو قلت لكم أني أمشي الآن في السويد بأمان، من غير أن أتلفَّت ورائي لأعرف من يتعقَّبني، كما أني لا أفكر أيضاً كيف سأتدبَّر حاجاتي المعيشية اليومية.
في سوريا أموري تختلف، إذ اني كنت، وربما لا أزال، محروماً من حقوقي المدنية والسياسية، ولم يكن لي من عمل، وليس هناك من ضمان اجتماعي ولا صحي ولا غيره.
ورغم ارتياحي لحس الأمان ولشروط الحياة هنا، إلا أنه ينبغي عليَّ الاعتراف أن شروط السجن في بلادي وشروط المنفى في الغرب عموماً، ولا سيما منذ مطالع الألفية الثالثة، إنما هي من حيث الجوهر تتقارب حتى لكأنها على وشك أن تصبح وجهين لعملة واحدة، الأمر الذي يقتضي تدارك مخاطره وتداعياته عبر رؤى واستراتيجيات عالمية أكثر ذكاءً إن لم أقل أكثر إلماماً ورحابة وإنسانية.
آمل أني لم أبتعد كثيراً في هذا الاستطراد.
أعود إلى موضوع الندوة لأقول إني رغم كل ما تقدم، سأسمح لنفسي بشيء من الترف، لكي أدلي برأيي حول ما هو مطروح في هذه الندوة.
تاريخ الأديان (كما أراه في الممارسة وخارج النصوص غالباً) مليء بالمتناقضات من حب وكراهية، ورحمة وقسوة، وحرب وسلام، وذلك ببساطة لأن الحامل الاجتماعي للأديان هم البشر بكل ما لديهم من مصالح ورغبات وقناعات وظروف متباينة، وأيضاً غرائزَ لم تتهذَّب إنسانياً على النحو الذي تطمح إليه أحلامُنا وآمالنا.
يبدو لي أن المجتمع البشري بوجه عام، لم يتجاوز طور المراهقة، أو بدقة أعلى ومع افتراض توفُّر الرغبة والنية الطيبة، لم يتجاوز بعض الأعراض السلبية لهذا الطور.
ولهذا لم تستطع المجتمعات حتى الآن أن تؤسس حياتها وتعيد تنظيمها بوصفها كلاً واحداً على سطح هذا الكوكب الذي يتعرض لانتهاكات شتى فظيعة ومدمِّرة ومن شأنها أن تهدِّد مستقبل البشرية.
ومع ذلك فإننا نجد أنفسنا، بين حين وآخر أو حدث وآخر، مضطرين لمناقشة مسائل بسيطة إلى حد لا يقبل مزيداً من التبسيط.
ولكن لا بدَّ مما ليس منه بدّ، كما لا بدَّ من المحاولة أبداً وباستمرار.
أبدأ من السؤال الذي يطرحه عنوان الندوة، أعني: هل نستطيع أن نقول ما نريد سياسياً ودينياً وحريةَ تعبيرٍ في الوقت الراهن؟
أعتقد أن السؤال مطروح على خلفية الإشكاليات التي نجمت في السنوات الأخيرة عن بعض الكتب والمقالات والأفلام وغير ذلك من مثل رسوم الكاريكاتير التي تناولت الإسلامَ وشخصَ نبيِّه، في الدانمرك بداية ولاحقاً في أماكن أخرى؟
ولكي يكون السؤالُ، وبالتالي الجوابُ، أكثرَ تحديداً ووضوحاً، فإنه ينبغي علينا إضافة أو إبراز الشق المضمر من السؤال، ليصبح كالتالي:
هل نستطيع أن نقول ما نريد، وبالكيفية التي نريد؟
إذن ينبغي أن تتركز إجابتنا حول إمكانية القول من جهة، وكيفيته من جهة ثانية، وهما في الحقيقة على قدر من الترابط الذي يصعب فصله في كثير من الأحيان والمواضيع.
أحياناً أستطيع بطريقة ما، أن أقول ما لا يمكن قوله بطريقة أخرى، فهل أكتفي بذلك أم تصبح حريتي في اختيار الطريقة هي جوهر المسألة؟
يميل اعتقادي إلى أن الشروط المادية والمعنوية والحضارية لعالمنا بوجه عام، لم تنضج بعدُ بما يكفي للحديث عن حرية كاملة أو متخفِّفة من أية قيود أو اعتبارات شكلاً ومضموناً.
هوَّة سحيقة، تفصل اليوم ما بين تقدّم العالم على الصعيد التكنولوجي وتخلّفه على الصعيد الأخلاقي. يضاف إلى ذلك التفاوت الهائل في مستويات التطور والنمو بين الشمال والجنوب، ناهيكم عن النقص المعرفي الكبير في ما يقتضيه فهم الآخر والتواصل أو الحوار معه.
ولهذا يمكن ببساطة لأي حدث في أي مكان من العالم (من مثل فيلم “الخضوع” لمخرجه الهولندي “ثيو فان خوخ” الذي اغتيل بسبب الفيلم، أو من مثل كاريكاتيرات صحيفة جيلاندز بوستن الدانمركية) أن يقيم العالم ويقعده على نحو لا يمكن التكهن به أو بتداعياته.
أتوقف عند ردة الفعل على رسوم الكاريكاتير، لأقول إني لا أشك أبداً في أن مشاعر عشرات، بل مئات الملايين من العرب والمسلمين قد تأذَّت من الرسوم، وهذا أمر يستدعي التوقف والتساؤل عما إذا كان في إمكان أو من حق أحد إيذاء مشاعر شعب أو شعوب، حتى لو تعلق الأمر بقناعاتهم الخاصة أو عاداتهم وتقاليدهم، ناهيكم عن قناعاتهم المقدّسة.
لو أن الرسوم قدّمت لنا أسامة بن لادن على سبيل المثال وهو يلبس عمامة على شكل قنبلة، لكان بالإمكان اعتبارها وجهة نظر، ولربما وجدنا فئات كثيرة من العرب والمسلمين مع الرسوم، لأن ابن لادن لا يتنكر لممارساته أو عملياته الإرهابية كأسلوب، وإن كان هو يسميها جهادية كمضمون، وهو من جهة أخرى ليس الممثِّل المعتمّد أو الأوحد أو الأساسي للإسلام، كما إنه لا يشكل إجماعاً لدى أي تيار أو مذهب أو فرقة بين المسلمين. ولكن الرسوم تناولت نبيَّ المسلمين جميعاً بشكل مسيء إلى حد الاستفزاز، وبصورة غير واقعية، بل تفتقر إلى الكثير من الوعي التاريخي والثقافي، يضاف إليه الفقر الفني أو الإبداعي، بخلاف كتابات سلمان رشدي وإن كان أثار ضجة مشابهة.
من السهل علي الدفاع عن سلمان رشدي لأنه مارس حرية إبداعية ومعرفية، في حين أن بعض رسوم أو رسّامي الكاريكاتير مارسوا حرية ضحلة إبداعياً ومعرفياً.
بالطبع هذا لا يعني بالمعنى الشخصي أني ضد حريتهم وبالطريقة التي اختاروها، ولكني أرى أنها أسوأ الطرق أو أقلها قيمة وجدوى إن لم أقل أكثرها بؤساً وعقابيل لا طائل منها، إلا إذا كان الطائل سلبياً وغير جمالي في الوقت نفسه، ولكنها حريتهم على أية حال، ومن وجهة نظري ينبغي الدفاع عن حقهم فيها ولو أساءوا استخدام هذا الحق.
لحسن الحظ أن هناك شخصيات إسلامية من بين الأكثر شهرة وتأثيراً في العالمين العربي والإسلامي، قد تنبَّهوا ولو متأخراً إلى مخاطر ما يحدث، فأصدروا بيانات أدانوا فيها أعمال العنف عموماً، بما فيها تلك التي حصلت ضد السفارات الدانمركية والنرويجية في سوريا ولبنان وإيران وغيرها.
في الحقيقة هناك دعاة إسلاميون كثر، بل إنهم يشكلون أغلبية بين الدعاة، يحاربون العنف، وهم على إيمان تام أن دينهم ونبيهم يدعوان إلى التسامح، فماذا يمكن لتلك الرسوم أو غيرها أن تساعدهم في قناعاتهم ودعواتهم إلى التسامح وحرية الرأي والعقيدة؟
من المهم هنا لفت الانتباه إلى أن ردود الفعل الغاضبة تجاه السفارات، وإن كانت تمثِّل إلى درجة كبيرة حقيقةَ مشاعر أصحابها، إلا أن ذلك ما كان له أن يحدث بتلك الصورة أو الشِّدَّة أو الاستعراضية لولا التوجيه والتشجيع والتضليل الذي مارسته بعض الأنظمة صاحبة المصلحة في حينه، كالنظام السوري على سبيل المثال، وبعض مجموعات المتظاهرين في دمشق على سبيل الامتثال.
ولكن كل ذلك لا يلغي أهمية أن نمضي أبعد قليلاً وكثيراً، كأن نسأل ونجيب، أو نتساءل على الأقل:
ـ ما هي الحدود الفاصلة بين حرية الرأي وحرية الإساءة، بين الحرية والاحترام، بين حقي وواجبي على الصعيد المحلي وعلى الصعيد الكوني، بين حريتي في أن أقول ما أريد، وحريتي في اعتماد أي كيفية أريد؟!
أزعم أنها مهمة كبيرة ومعقدة ولا يستطيع أي مجتمع النهوض بها منفرداً، ولهذا يتوجب على المجتمع الدولي أن يتدارس مثل هذه المسائل باستمرار، وأن يتحاور بقدر ما يتجاور، لعله يتوافق على تعريفات وتحديدات ومواثيق وآليات إضافية تدفعه خطوات أخرى في اتجاه وحدة ثقافية عالمية تزيدها خصوصيات الشعوب غنى وجمالاً وإنسانية.
ينبغي أن يكون العالم واحداً لتغدو الحرية واحدة. تلك هي فلسفة الحرية على ما أرى وأحلم، وإن كان واقعها الآن على هذا النحو المسموم والمتشظّي كما ترون.
( مداخلة لي في ندوة عن حرية التعبير دعا إليها نادي القلم السويدي تحت عنوان ” هل نستطيع أن نقول ما نريد سياسياً ودينياً وحريةَ تعبيرٍ في الوقت الراهن؟”، ثم قدمتُها لاحقاً في سلسلة من الندوات المشابهة في البلدان الاسكندنافية).