روبرتــو ســافيانو: أحــارب الفــن بالشــرّ
اسكندر حبش
لا يزال يملك الكثير من الأمل ويحاول إنقاذ روحه
لا تزال قضية الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو تتفاعل في إيطاليا، إذ لم يجد أحد بعد حلا لقضيته وهي تهديد المافيا له بقتله، عقب نشره منذ سنوات قليلة (العام 2006)، كتابه «غومورا» (ترجم إلى العربية وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت)، الذي شرح فيه آليات المافيا في العمل وبخاصة المافيا النابوليتانية (من نابولي). وهو منذ ذلك، يعيش متواريا وتحت حراسة الشرطة الدائمة.
في الخريف الماضي، قدم سافيانو برنامجا تلفزيونيا على محطة «الراي» الإيطالية، وقد عرف برنامجه نجاحا كبيرا إذ تابعه أكثر من عشرة ملايين شخص، وقد أصدر مؤخرا كتابا جديدا بعنوان «الجمال والجحيم» الذي يروي فيه تجربته في هذه الحياة الجديدة التي فرضت عليه، أي هذه الحياة المتوارية وتحت الحراسة المشددة، كما يتحدث عن أشياء أخرى يفقدها كمتابعة مباراة كرة قدم، أو مشاهدة مهرجان كان السينمائي.
حول ذلك كله، أجرت مؤخرا مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، حوارا مع سافيانو، تحدث فيه عن جملة من الأمور، هنا ترجمة له.
كيف تسير عليه حياتك بصفتك رجلا مطاردا؟
ما زلت أملك الكثير من الأمل، لنقل إن وضعي ثابت…الذين يعيشون تحت الحماية يحيون في وضع من السجن الغريب، لأنهم لا يعرفون في أي لحظة يتوقف ذلك كلّه. أحاول أن أحتفظ بحرية الروح، حتى وإن بدا ذلك أمرا سخيفا. بيد أني أعتقد أني سأغادر إيطاليا قريبا لأحاول أن أحقق مشروعي الحقيقي: لن يكون كتابا أو فيلما، بل أن أعيد بناء حياتي.
أعلنت في الصيف الماضي أن البلدان الأخرى ليست مستعدة بعد لاستقبالك؟
لا يزال الوضع على حاله. بالطبع، رسميا، يعلن الجميع عن استعدادهم لاستقبالي. لكن حين أصل إلى نقطة معينة، أجدني أتواجه مع بعض… المشاكل. إذا لا أشعر بأني في منزلي. سنرى الأمر لاحقا.
إلى أين تذهب إن تركوا لك الخيار؟
أحب السفر. بيد أني سأذهب بالتأكيد إلى الولايات المتحدة. إنه مكان، ونظرا للوضع الذي أنا عليه، يبدو لي أنه من الممكن أن أحيا فيه بطريقة أكثر إنسانية.
لقد عرف البرنامج التلفزيوني «Vieni via con me « (ارحل معي) الذي قدمته هذا الخريف، نجاحا هائلا في إيطاليا.
أجل نجاحا كبيرا وغير متوقع. أعتقد أنه لا يمكن لذلك أن يتكرر مرة أخرى. تابعه أكثر من 10 ملايين شخص. أي أن عدد المشاهدين كان أكثر من الذين تابعوا المباراة النهائية «لرابطة الأبطال» التي جرت بين انتر ميلانو وبايرن ميونخ. كنا، في الحلقة، نستقبل مختلف الشخصيات (مثل الممثل روبرتو بينيني أو رئيس الجمعية الوطنية جيانفركو فيني) وكنا نقترح عليهم لوائح: لوائح بأسباب موجبة لمغادرة إيطاليا، لائحة بالأسباب الموجبة للبقاء في إيطاليا، لائحة بالطريقة التي يمكننا فيها أن نلتوي بين أكياس النفايات.. كان برنامجا نخبويا لكنه أصاب العديد من المشاهدين. ربما لأن إيطاليا لم تعد تحتمل. لم تعد تحتمل لا التلفزيون الإيطالي ولا السياسة…
هل كان الأمر بالنسبة إليك، تحديدا، طريقة في أن تقوم بدور سياسي؟
أجل لكن على مستوى آخر. لم تكن سياسية حزبية، ولا سياسة خاضعة للآليات البرلمانية. إنها سياسة مثالية، نوعا ما. لكن في الواقع، لو كان هناك إطار سياسي آخر في إيطاليا، لو كان يمكن السياسيين بعد أن يكونوا جديرين بتحقيق الآمال أو أي مشروع، لربما كنا لم نحظ بالنتائج عينها. في الواقع لقد ردمنا فراغا.
قلت لي في شهر تموز الماضي انك تشعر بأنك «الرجل الأكثر كرها في إيطاليا»؟
أنا شخص مكروه، نعم، وبخاصة من قبل جزء كبير من عالم السياسيين. نتساءل كيف أمن لهذا الفلاح، لهذا القروي أن يؤثر على هذا العدد من الناس.. وحين يتعلق الأمر بهذا العدد من البشر يكون البغض عندها كبيرا…
ما نظرتك الى الأزمة السياسية الكبيرة التي يعرفها برلسكوني حاليا؟
آه، لو كنت أملك فكرة… لا أحد يعرف شيئا. إنه العدم المطلق. من الواضح أن الحكومة سقطت. فقط ننتظر معرفة من سينجح في إسقاطها فعلا، وكيف، وأي ثمن مستعد برلسكوني ليدفعه، إذ سيبيع «جلده» بسعر مرتفع جدا. أضف إلى ذلك، أن واحدا من الأسباب التي لا تدفع أي شخص الى إطلاق رصاصة الرحمة، هو الخوف من «الانتقام»: هناك ملفات كثيرة (ستفتح)… الشرعية، هي السلاح الكبير الذي تستعمله الحكومات. إن كنت ضدها، إن عارضتها، فسيمرغ بك في الوحل، ستتسخ.
ترغب الآن في التفكير بحياتك. لكن من دون أن تتخلى عن الكتابة؟
أبدا، أبدا. إنها مهنتي.
كان لديك مشروع لكتابة جزء آخر من «غومورو» لتتحدث فيه عن تصرفات المافيا السيئة على الصعيد الدولي؟
ما زلت أعمل عليه.
بالتعاون المباشر مع الشرطة؟
أجل، لقد أصبحت الشرطة يدي وعيني ونظرتي إلى الأشياء تمر عن طريقهم. التنصتات والأعمال القانونية هي التي تشكل المصدر الرئيسي لكتابي.
ألا تخشى أن يقودوك إلى أمر آخر، أن يتلاعبوا بك؟
بالتأكيد. وقد حدث هذا. لكني أنا أروي القصص. لهذا تشكل كتابتي خطرا. لم أكشف شيئا جديدا حين أصدرت كتبي. لم أكتشف شيئا. بل رويت فقط ما كان يعرفه بعض الصحافيين وبعض القضاة. ما فعلته، هو وضع ذلك كله على الساحة الدولية. هذا هو الثمن الذي أدفعه. ولكن هذا أيضا سحر الأدب. حين يقرأني يقول لقارئ «هذا هو أنا». وهذا ما يعطي نفحة عالمية لما يمكنه أن يكون مشكلة محدودة جدا. بهذه الطريقة يصبح الأدب العدو الأكبر للمافيا لأنه يقول إلى كلّ قارئ: «هذه هي قصتك». بينما يقول المافيات: «كلا، أبدا، إنها ليست قصصك، إنها أشياء تخصنا، إنها قضيتا..».
أي انك «تحارب الشرّ بالفن»، كما تقول في كتابك. لكننا نجد فيه أيضا فصلا عن ازدياد عمليات تهريب الكوكايين. هل تشعر بأنك سجلت نقاطا واضحة لمصلحتك في معركتك هذه؟
أجل، لقد رأيت النتائج، وأساسا لأن انتباه الإعلام لهذه المسألة أحدث ردة فعل لا تصدق، انتباه الشرطة.. لا أقصد أن الشرطة لم تكن منتبهة لذلك الأمر من قبل، إذ كل ما رويته كنت أعرفه عبر الشرطة التي عملت على هذا الموضوع. لكني في إلقاء الضوء هنا وهناك، فإننا نثير الخوف، لأن البلد بأسره اطلع على ما يجري. يكمن هدفي في أن أعرف بكل هذه الأقاصيص، مجبرا الدولة على أن تعمل أكثر وأنا أقول للناس «لا تخشوا شيئا». صحيح أن ذلك أفضى إلى نتائج محدودة ولكنها نتائج عينية.
إذاً، لقد التزمت الدولة الإيطالية أكثر بالموضوع؟
نعم، أجبرها الشعب على ذلك.
نجد في كتابك مكانة واسعة لوجوه أشخاص متمردين مثل ألبير كامو، وبعض الكتاب الذين أجبروا على التواري، مثل آنا بوليتكوفسكايا، بريمو ليفي، شالاموف… بماذا ساعدتك قراءة هؤلاء الكتاب؟
لقد مثلوا بوصلة. من وجهة نظر أدبية كان الأمر بمثابة التوجه نحو اليومي. غالبا، وحين لا أشعر بأني على ما يرام، أفكر بحياتهم، بحياة بوليتكوفسكاي على سبيل المثال، بمقامتهم، وأقتنع بأني سأنجح في التخلص من هذه المشكلة. بأن ثمة أسبابا للأمل. بأنه يجب عدم الغرق في اليأس بسبب بعض البلهاء أو بسبب أن البعض يرغبون في إسقاطك. نعم أستوحي من مثال هؤلاء وأقول لنفسي، في العمق، أنا هاو بالنظر إليهم. هذه الوجوه لا تشكل فقط مرجعا لحياتي ككاتب، بل لحياتي بأسرها، كما لو أنهم كانوا نسيبا وعمة وجدا.. إنهم جزء من عائلتي.
السفير