صفحات العالم

العولمة إذ تنبذ عنصرية اللون والعرق وتقبل عنصرية «الثقافة»

حسن شامي
في معرض دفاعه عن التنوع الثقافي وتعقيدات العلاقات بين الثقافات وعدم اختزالها في معادلات سهلة، سلباً أو إيجاباً، اقترح ذات مرة عالم الإناسة الفرنسي المعروف، والراحل قبل بضعة أشهر عن نيف ومئة عام، كلود ليفي ـ ستروس، القيام بتمرين دلالي لا يخلو من الإثارة والطرافة ربما، فهو طلب من محاوره الشاب، في كتاب حواري صدر عام 1988 في باريس، أن يأخذ كتاب غوبينو الذائع (بالأحرى السيئ) الصيت حول «اللاتكافؤ بيــن الأعراق البشرية» وأن يضع كلمة «ثقـــافة» محل كلمة «عرق» وعـــندئذٍ ستتبدل صــورة الرجل الذي يعتبره كثيرون، بالاستــناد إلى محاولته المــذكورة وليــس إلى كتب رحلاته ومشاهداته الآسيوية، صاحبَ نظرية التمييز العنــصري والعرقي وأحــد أبــرز منــظِّري العنــصرية في أوروبا.
سيظهر غوبينو، بعد التبديل المقترح، في صورة مفكر نبيه وعميق، ناهيك عن جاذبية أسلوبه وبراعة كتابته، بحسب ليفي – ستروس. بعبارة أخرى، لم يفعل غوبيــنو سوى تلقــف مصطلح علمي صادر عن علم الأحياء، الآخذ في الازدهار آنذاك، ووضعه في منظــار إناسي (أنتروبولوجي) عريض، ليس بهدف إقامة تميــيزات مطلقة بين الأعراق البشرية ومساهماتها في بناء الحضارة الإنســانــية، بل للتـــحذير من مخاطر اختلاط زاحف يفضــي إلى ضياع الحدود بين المجموعات البــشرية وتنوعها.
وهكذا، تتطابق خطيئة غوبينو مع خطيئة علم الأنثروبولوجيا المتشكل في كنف ومناخ التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر، وهي الخلط بين مفهوم «العرق» ذي الادعاء العلمي القاطع، علماً بأن الدراسات العلمية الحديثة تثبت قلة علميته، وبين الإنتاجات السوسيولوجية والنفسية للثقافات البشرية. وقد يكون صحيحاً أن غوبينو لم يكن لاسامياً، وأن مقصده لم يكن بالضبط تأسيس نظرية علمية للتمييز العنصري، لكنه لم يتفطن إلى أن فكرته عن اللاتكافؤ بين الأعراق قابلة – في شروط تاريخية معينة، مثل السيطرة الاستعمارية والتنافس المحموم بين الدول القومية التوسعية – لأن تُستخدم بطريقة برنامجية في الفصل والنبذ والاضطهاد، ومن ثم في القتل المنظم وتطبيع الطرد والاعتقال خصوصاً في الحقبة النازية.
لقد حصل شيء من هذا القبيل مع داروين، صاحب نظرية «أصل الأنواع» و»الاصطفاء الطبيعي»، فالمعلوم أن نظرية التطورية الاجتماعية (القائمة على فرضية وجود أطوار لحياة المجتمع تجعله ينتقل من الطفولة إلى الحلم ثم الرشد والكهولة) سبقت بكثير مقولة داروين الذي لم يكن يتوقع ربما أن تسحب نظريته من مدارها الخاص والمقيّد وتتحول إلى قوة دفع ودعم لدى تطبيقها المتهور في حقل أكثر تعقيداً بكثير، وهو حقل الاجتماع البشري وثقافاته، في ما صار يُعرف باسم الداروينية الاجتماعية وحمولتها العنصرية الصريحة أو المضمرة.
لا حاجة للاستفاضة في هذه المسألة، فالمقصود منها التمهيد لتناول الموقع الذي باتت تحتلّه اليوم صورة الإسلام وتمثيلاته في الإطار المستجد للعولمة ذات الطابع الإمبراطوري. وقد سبق لباحثين في الفلسفة السياسية أن اعتبروا امبراطورية العولمة، أو «الشوملة» المستجدة بمثابة قوة موجودة في كل مكان من دون أن يكون لها مكان معين. وفي ظلها تبدلت العلاقة بين الداخل والخارج تبدلاً نوعياً، فلم تعد تتشكل وفق الترسيمة المعهودة في الإطار الكولونيالي المستند إلى توسّع دول قومية تحرص على التمييز بين مركزها وأطرافها، وبين داخلها وخارجها، كما تحرص على تثبيت الجماعات الموزعة عليها داخل تراتبية صارمة. في الزمن الامبراطوري المعولم، اقتصادياً ومالياً بالدرجة الأولى، تتلاشى الحدود ويتزايد التداخل بين المجتمعات والجنسيات والثقافات، كما تزداد سرعة الحركة والتنقل وسهولتهما، بحيث يتولد الانطباع بأنه لم يعد هناك حدود فعلية بين فضاء داخلي وآخر خارجي، بل هناك داخل جاهز لاستقبال واستيعاب كل الأجناس والجماعات، بغض النظر عن اللون والعرق والدين.
وهذا الداخل هو بكل بساطة فضاء العالم كله كما لو أنه مجال متصل تبدو فيه الحدود بين الدول والهويات الثقافية عرضية وثانوية، بل حتى قابلة للزوال. هذه الدرجة غير المسبوقة من انفتاح البلدان على بعضها وتداخل شبكات الاتصال والمصالح وانتقال الخبرات والبضائع، والواعدة بقدر كبير من الاندماج العالمي، لا تحتمل بطبيعة الحال الأشكال التقليدية للتمييز العنصري والموروثة عن العهد الكولونيالي.
ولا يعني هذا أن العنصرية اختفت، بل تبدلت أشكالها. لقد أصبح التمييز الفعلي يدور على الثقافة، لا العرق واللون، بحسب محللين فلسفيين للإمبراطورية (كأنطونيو نيغري ومايكل هارت في كتابهما عن الامبراطورية).
هذا التحليل لا يعدم الوجاهة. على أنه يفترض التطابق بين العولمة المالية والاقتصادية والعولمة الاجتماعية والثقافية، كما يغيب عنه واقعة أن العولمة، مثلها مثل المدنية والحضارة قبل قرن ونصف، تتكثف في بيئة اجتماعيةـ ثقافية ومهنية معينة، فيما يكون حضورها ضعيفاً في بيئات أخرى. لا يمنع هذا من أن يكون ازدهار الهويات الثقافية والنفخ في اختلافاتها من عوارض العولمة الامبراطورية. لقد تراجع بالفعل التمييز العنصري على اللون والعرق (كان من الصعب جداً قبل ثلاثة عقود أن يصل رجل كباراك أوباما إلى الرئاسة الأميركية). في المقابل، يشهد مصطلح الثقافة المشدودة إلى جوهر ثابت ازدهاراً ملحوظاً للتعبير عن سلوكات ومواقف عنصرية. ينطبق هذا على ما يعرف في الغرب برهاب، أو خواف الإسلام (إسلاموفوبيا). وبقدر ما تحيل فكرة الثقافة إلى منظومة قيم مشتركة وإلى نمط حياة معين، بقدر ما تتسع الهوة بين الجماعات المختلفة ثقافياً ويزداد الطلب على الخصوصية.
هناك اليوم أدبيات ثقافوية تسمح بتمرين معاكس لاقتراح ليفي ـ ستروس. يمكننا أن نضع كلمة عرق أو لون محل كلمة «ثقافة» الأكثر لباقة، وسيتكشف الوجه العنصري لهذا النوع من الخطاب.
العنصرية التي يمكن أن يمارسها مسلمون هي أيضاً تعرف تبدلاً بالنظر إلى تقاليد وثقافة الإسلام التاريخي. فعندما نقرأ خبراً يقول إن مسيحيي العراق لن يحتفلوا كعادتهم بعيد المــيلاد بسبب تهديدات تلقوها من «القاعدة»، يفـــترض، بأي مسلم أن يشعر بأن التهديد يطاول بالقدر ذاته جملة النتاج التاريخي والثقافي للإنسانوية الإسلامية. وعندما يهدد الرئيس السوداني بتطبيق الشريعة للرد على انفصال الجنوب، كما لو أنها أداة لإلغاء التنوع، فإنه بكل بساطة كمن يهدد بقطع الغصن الذي يجلس عليه.
تجري الأمور كما لو أن العولمة تعيد موقعة الثقافات وتصنيفها، وتجد ما يقابلها إسلامياً، في الاحتماء منها بالهوية الدينية. أما أن يكون الإسلام اسم علم واسماً مشتركاً في آن لمستويات مختلفة، كالحضارة والتاريخ والمعتقد الديني، فهذا مما تزداد صعوبة الاستدلال إليه، للأسف.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى