إعادة توزيع عالمية… للأمل
“الأمل” هو من أكثر الكلمات المبتذلة في الحياة العامة، إلى جانب “التغيير”. لكنه مهم للغاية. يعير السياسيون اهتماماً عن كثب لمؤشرات المسار الصحيح والمسار الخطأ. وتحدّد الثقة إذا كان المستهلكون ينفقون، وتالياً إذا كانت الشركات تستثمر. “قوة التفكير الإيجابي”، كما لفت نورمان فنسنت بيل، هائلة.
في الأعوام الأربعمئة الماضية، تمتّع الغرب بأفضلية نسبية مقارنة بباقي العالم في ما يختص بالتفاؤل. حلم المفكّرون الغربيون بأفكار التنوير والتقدّم، وسخّر رجال الأعمال الغربيون التكنولوجيا لفرض إرادتهم على باقي العالم. والآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة الذين كانوا يؤمنون بقوة أن البلاد التي صنعوها ستكون أفضل من كل ما كان موجوداً قبلها، لم يقدّموا للمواطنين الحياة والحرية وحسب إنما أيضاً السعي لتحقيق السعادة.
لا يعني هذا أن الغرب كان خالياً من الهمجية المروِّعة. في الواقع، يمكن أن يقود البحث عن الطوبى إلى إظهار الأسوأ كما الأفضل لدى البشرية. بيد أن مفهوم أن الحالة البشرية قابلة للتحسين المستمر وجد أرضية أكثر مؤاتاة له في المادّية العلمية الغربية منه في النظام الطبقي في الهند أو الاسترقاق في روسيا.
والآن يتعزّز الأمل. فوفقاً لـ”مركز بيو للأبحاث”، يعتبر حوالى 87 في المئة من الصينيين و50 في المئة من البرازيليين و45 في المئة من الهنود أن بلادهم تسير في الاتجاه الصحيح، في حين أن النسبة لدى البريطانيين هي 31 في المئة، والأميركيين 30 في المئة، والفرنسيين 26 في المئة. وفي هذه الأثناء، تستثمر الشركات في “الأسواق الناشئة” وتضع العالم المتقدّم على الهامش. يبدو أن نداء القرن الحادي والعشرين سيكون “هيا إلى الشرق، أيها الشاب”.
يُعيد التشاؤم المتزايد في الغرب صوغ الحياة السياسية. بعد عامين من تنصيب باراك أوباما الذي رافقه الكثير من الأمل، المزاج في واشنطن كئيب إلى درجة لم يسبق لها مثيل منذ قال جيمي كارتر إن أميركا تعاني من “الضيق”. فحُلم الديموقراطيين بأن البلاد مقبلة على نهضة ليبرالية على طريقة الستينات، انهار في انتخابات منتصف الولاية. بيد أن الجمهوريين ليسوا أكثر أملاً: فعقيدتهم تميل نحو الغضب والاستياء أكثر منها نحو التفائل الريغاني.
أما أوروبا من جهتها فقد شهدت احتجاجات حاشدة، بعضها عنيف، في شوارع أثينا ودبلن ولندن ومدريد وباريس وروما. ليس مفاجئاً أن تكون البلدان الواقعة عند أطراف الاتحاد الأوروبي في حالة اكتئاب شديد، لكن التشاؤم يسود أيضاً في قلب الاتحاد الأكثر نجاحاً. الكتاب الذي يحقّق أفضل المبيعات في ألمانيا هو “ألمانيا تدمّر نفسها” لثيلو سارازين، وفيه نواح متواصل بسبب “واقع” أن النساء ذوات المؤهلات الأقل (ولا سيما المسلمات) ينجبن أولاداً أكثر من النساء الأشد ذكاء. وقريباً سينضم كتاب جان-بيار شوفينمان “هل انتهت فرنسا؟” إلى رفوف مكتبات المثقّفين الفرنسيين إلى جانب كتاب إريك زيمور “الكآبة الفرنسية”.
التفسير الفوري لعدم التناظر هذا هو الأزمة الاقتصادية التي لم تزعزع ثقة الغربيين بالمنظومة التي بنوها وحسب، بل وسّعت أيضاً ثغرة النمو بين الاقتصادات الناضجة والناشئة. يبلغ النمو في الصين والهند عشرة في المئة وتسعة في المئة على التوالي، مقارنة بثلاثة في المئة في أميركا واثنين في المئة في أوروبا. ومعدّلات البطالة في عدد كبير من البلدان الأوروبية معيبة حتى بحسب المعايير الأوروبية المنخفضة، فعلى سبيل المثال، 41 في المئة من الشبّان الإسبان عاطلون عن العمل. وآلة الوظائف الأميركية الكبرى تعطّلت: فواحد من أصل كل عشرة أشخاص عاطل عن العمل، وأكثر من مليون شخص استسلموا على الأرجح ولم يعودوا يبحثون عن عمل. لكن التغيير يذهب أعمق من ذلك، وصولاً إلى الأحلام التي مدّت الغرب بالزخم في الماضي.
لقد وفت أميركا في الجزء الأكبر من تاريخها بوعدها بتوفير فرصة جيّدة لمواطنيها كي يعيشوا حياة أفضل من تلك التي عاشها أهلهم. لكن أقل من نصف الأميركيين يعتقدون حالياً أن معايير عيش أولادهم سوف تكون أفضل من معايير عيشهم. لقد جعلتهم التجربة متشائمين وكئيبين: فدخل العامل المتوسّط لم يتغيّر تقريباً منذ منتصف السبعينات، والحرَكية الاجتماعية في أميركا هي الآن من الأكثر تدنّياً في العالم الثري، وذلك بسبب مزيج من المدارس الفاشلة واختفاء الوظائف المتوسّطة المستوى.
الأحلام الأوروبية مختلفة عن الأحلام الأميركية، إلا أنها مهمة بالقدر نفسه للآمال بمستقبل سلمي ومزدهر. وهي تتّخذ شكلَين: اتحاد أوروبي يترسّخ أكثر فأكثر (مما يتيح التخلّص من القومية) ودول رعاية تزداد سخاء (مما يوفّر الأمن). لكن هذين المفهومين السعيدين يتبخّران في وقت أصبح فيه انهيار الأورو احتمالاً قائماً وفيما ترزح الحكومات تحت عبء الاستحقاقات الاجتماعية مع تقدّم سكانها في السن وتقلّص عدد العمّال.
لا يناقش العالم النامي من جهته المعاشات التقاعدية بل بناء الكليات. تضاعف عدد الطلاب في الجامعات الصينية أربع مرات في العقدَين الماضيين. وتلفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (الأونيسكو) إلى أن نسبة الباحثين العلميين المقيمين في العالم النامي ارتفعت من 30 في المئة عام 2002 إلى 38 في المئة عام 2007. تتفوّق شركات عالمية الطراز مثل شركة “إنفوسيز” الهندية وشركة “هواوي” الصينية على منافساتها في البلدان المتقدّمة.
صعود التفكير الإيجابي في العالم الناشئ أمر مرحَّب به، لا سيما وأنّه يتحدّى الاستاتيكو. يقول ناندان نيليكاني من “إنفوسيز” إن إنجاز شركته الأكبر لا يكمن في إنتاج التكنولوجيا بل في إعادة تعريف حدود الممكن. إذا أخذ الناس في البلدان الأخرى تلك الأفكار على محمل الجد، فسوف يُكدِّرون عيش المسنّين الذين يسيطرون على الحكم في الصين وجزيرة العرب.
لكن هناك مخاطر أيضاً. يمكن أن يتحوّل التفاؤل بسهولة وفرة غير منطقية: فقد سجّلت أسعار الأصول في بعض الأسواق الناشئة ارتفاعاً كبيراً. وهناك خطر بأن يحصل رد فعل غربي عنيف. إذا لم تبدأ البلدان النامية بأخذ مسؤوليتها في الأمن العالمي على محمل الجد، فقد يبدأ الأميركيون والأوروبيون بالتساؤل عن الجدوى من قيامهم بضبط الأمن في العالم كي يُبقوا الأسواق مفتوحة أمام الآخرين ليجمعوا ثروات.
أما في ما يتعلق بالكآبة الغربية، فلديها فوائدها. ثمة إدراك متزايد بأنه ليس بإمكان العالم الثري القديم أن يعتبر ازدهاره أمراً مفروغاً منه – وبأن قوى أكثر نهماً ستتغلّب عليه إذا لم يعالج مشكلاته البنيوية. بدأ الأميركيون يتقبّلون أنه يجب أن يصبح بلدهم أقل تبذيراً. ويدرك الأوروبيون أن عليهم أن يجعلوا اقتصادهم أكثر رشاقة وابتكاراً. بدأ الأميركيون والأوروبيون يتعاملون مع هذه الأزمة انطلاقاً من الفرصة التي تقدّمها.
وينبغي على الغربيين ألا يبالغوا في يأسهم، فصعود قوى عظمى جديدة سوف يفيدهم أيضاً. صحيح أن حكوماتهم ستجد صعوبة أكبر في توجيه باقي العالم؛ وأن الأجانب سيمتلكون حصّة متزايدة من خيرة أملاكهم؛ وأن أولادهم سيُضطرون إلى بذل مجهود أكبر للحصول على وظائف جيّدة في اقتصاد يزداد عولمة. بيد أن العدد المتزايد من الهنود والصينيين والبرازيليين الذين يملكون المال لشراء منتجاتهم وخدماتهم سوف يساهم في ازدهار اقتصاداتهم. فالبلدان التي أمّنت لهم العمّال ستوفّر لهم الزبائن أيضاً وبصورة متزايدة.
ربما لا يشعرون بذلك في الغرب، لكنّنا نعيش أفضل الأزمنة من جوانب عدّة. يخرج مئات الملايين من الفقر. يمنح الإنترنت الناس العاديين ولوجاً إلى المعلومات لم يكن الباحث الأكثر تمتّعاً بالامتيازات ليحلم به قبل بضع سنوات. يقهر التقدّم الطبي الأمراض ويطيل عمر الإنسان. في الجزء الأكبر من التاريخ البشري، استطاعت قلّة محظيّة فقط أن تأمل بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر. أما الآن فيمكن أن يحرّك هذا الأمل الجماهير في كل مكان. ولا شك في أنه سبب كافٍ لنكون متفائلين.
( “الإيكونوميست” ترجمة نسرين ناضر)
النهار