صفحات العالم

العراق: حكومة وقف التنفيذ

فالح عبدالجبار
أكثر من دزينة من المقالات والتعليقات على تشكيل الحكومة العراقية بدأت باللازمة «بعد مخاض عسير». ولهذه الاستعارة اكثر من معنى مركّب. لعل بالوسع التفكير في معنى اول ان هذه التشكيلة تؤلف نقلة قد تضع الحرب الاهلية في خانة الماضي. فالفضاء الاجتماعي المساند للعملية السياسية، وهي سلمية ومؤسساتية بالتعريف، في اتساع بائن. عدا ذلك، ليس خمود الاحتراب الاهلي غاية بذاته. ان يكون العنف الاهلي وراءنا شرط جوهري للمضي قدماً، حتى وإن يكن بخطى متعثرة، هيابة، وركيكة. ولكن للمضي الى اين؟
تكشف توازنات التشكيلة الوزارية، وأسلوب تحققها، عن مشكلات تتعلق بهذه «الأين».
ابتداء، يلوح «المخاض العسير» للولادة هو التكريم الوحيد للمرأة، في حكومة أسفرت عن مخالبها الذكورية، بعدما قبل السياسيون، على مضض، تخصيص ربع المقاعد البرلمانية للنساء. ومن المفيد مساءلة المحكمة الدستورية إن كان نظام «الكوتا» اساساً قانونياً لتمثيل المرأة وزارياً، إسوة بالتمثيل البرلماني. ولهذا السؤال وزنه الخاص في ضوء النبضات الاصولية، المحافظة التي طفحت أخيراً مثل الجرب، بإشهار العداء للموسيقى والتمثيل والنوادي (في محافظة بابل، بغداد، كما في معهد الفنون الجميلة).
اسلوب توزيع المناصب يبدو هو الآخر اقرب الى مماحكات الباعة في سوق هرج، منه الى توازن تمثيل المصالح. اذكر ان مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا لقرابة عشرين عاماً، تفيد في مذكراتها بأن تشكيل حكومتها اعتمد تمثيل مناطق الوسط (ميدلاند) والشمال، والغرب، والجنوب، نظراً لأن كل رقعة تعتمد ضرباً من الاقتصاد والمجتمع، بحاجة الى تمثيل نبضاته، كما اعتُمد تمثيل الاجيال داخل حزب المحافظين الحاكم، واعتمد ايضاً تمثيل التيارات (بين يمين ووسط)، الى آخر الاعتبارات…، كل ذلك في بلد ليبرالي عريق. لكن تمثيل المصالح في حكومة ائتلافية واسعة مؤلفة من اربع كتل كبرى (دولة القانون، الائتلاف، العراقية، الجبهة الكردستانية) ينطوي ضمناً على كتل فرعية اخرى، فضلاً عن كتل خارج الكبار. هذا التوق الى التمثيل الواسع، الشامل، الذي يبدو نافلاً في الديموقراطيات الحديثة، ضروري ولازم في الديموقراطية العراقية، لأسباب بديهية، ومعروفة. فتقسيم السلطة في بلد الريع النفطي، هو تقسيم للثروة ايضاً، فلا اقتصاد سوق هنا إلا في اضيق صوره.
لو تركنا الريعية جانباً، لتذكرنا ان تشظي المجتمع العراقي، في فضاء الهويات الإثنية والدينية والمذهبية، يلغي أهم أعمدة الديموقراطية الحديثة، قانون الحكم الاغلبي. فقد ولد الحكم الاغلبي من رحم التجانس الثقافي، حيث الاغلبيات والاقليات هي اغلبيات سياسية (برلمانية) قابلة لتبادل المواقع، خلافاً للأغلبيات او الأقليات الإثنية والدينية، الثابتة بحكم قوانين ديموغرافية صارمة. ولو اضفنا الى الريعية والتشظي الاجتماعي-السياسي، الخوف المتبادل، والريبة، ونزعات الاحتكار، او نزعات التسيّد (بحق انتخابي او من دونه) لوصلنا الى حال لا تسرّ احداً.
لعل ابرز معالم هذه الظاهرة شغور الوزارات الامنية. فهذا الفراغ الوزاري هو الورم الاكبر في الجسد السياسي العراقي. المشكلة ليست في هذه الوزارات في ذاتها، بل في ما تثيره من تصورات وهواجس وريب. فالتصور الاكبر نابع من تجارب الماضي: الاعتقاد بإمكان الجيش السيطرة على البلاد. والهواجس والشكوك تدور حول امكان نشوب انقلاب. هذا التصور وهذه الهواجس كانت صائبة في الستينات والسبعينات، بل حتى شطر من الثمانينات، اما اليوم فهي محض كوابيس من الماضي، عادات تفكير بالية. وحال العراق اليوم يشبه حال لبنان بالامس، يوم قام جنرال مسكين يكنّى بـ «الاحدب» بإعلان انقلاب عسكري على شاشة التلفزيون، واضطر الى حزم حقائبه والاختفاء، فما من مجيب للخوذة العسكرية في بلد انقسام الهويات. فالانقلاب كان كاريكاتورياً ماثلاً في خيال حامله ليس إلا. مع ذلك، فالعادات القديمة لا تموت بسهولة، كما يقول الانكليز. بعبع الانقلاب اكبر هادم للثقة. والعلاج المعتمد اسوأ من المشكلة: شخصنة الجيش، اي تحويل قياداته الى أتباع شخصيين، لضمان الولاء، وبالولاء ضمان الاستقرار. لا ريب في ان المؤسسة العسكرية حافلة بالضباط المهنيين، او المسلكيين، كما هو دارج في العراق، ويمكن الخروج من نفق الارتياب سريعاً. ثمة علائم على تضاؤل الشكوك. لعل تعيين صالح المطلك يندرج في هذا الباب. فأمس الاول كان نائباً، ثم بالامس مشمولاً بالاجتثاث (قبل الانتخابات) واليوم نائباً لرئيس الوزراء. موجات التقلب هي انعكاس لـ «ترمومتر» الريبة. سيحتاج رجال الدولة في العراق فترة نقاهة طويلة حتى يعيدوا ترتيب طرق التفكير وأولوياته.
اخيراً يبقى مآل مجلس السياسات الاستراتيجية، الذي ينبغي ان يرى النور قريباً كجزء من استراتيجية الاتفاق المتوازن. هذا ايضاً لغم آخر. التجاذب في هذا الشأن يدور حول طبيعة المجلس: استشاري، ام تنفيذي. فإن كان استشارياً، فما قيمة «المشاركة»؟ وإن كان تنفيذياً فكيف تدار الدول بمركزين اثنين للقرار؟ أكاد اجزم بأن هذين الجانبين مصاغان صياغة صحيحة وخاطئة في آن. ففي الدولة، اية دولة، ثمة مظهران لحركتها، الاول هو صنع السياسة، والثاني هو صنع القرار. القرار لا يمكن ان يصدر عن اربع جهات او مراكز، ولا عن ثلاثة ولا عن اثنين. القرار يصدر عن مركز واحد، دوماً وأبداً. اما صوغ السياسة policy-making فهو عمل طواقم موسعة، ولا يمكن ان يكون نتاج فرد او هيئة واحدة. في حكومات الأغلبية المعتادة، هناك مجلس وزاري مصغر يتولى العملية. اما في الحكومات الائتلافية، فإن المجلس الوزاري المصغر ينبغي ان يضم ممثلي الكتل الكبرى المؤتلفة. ولما كان هذا التقليد غائباً عندنا، ففي الوسع التفكير بأن المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية يمكن ان يتولى بلورة التوجهات السياسية العامة. وفي وسعه ان يحقق ذلك اذا ضم (كما هو مقترح) رؤساء الاحزاب الكبرى. عندئذ يمكن هذا المجلس ان يقوم مقام مطبخ سياسي، معتمداً على نوع من تقسيم العمل بين صوغ السياسة عنده، وصوغ القرار في مجلس الوزراء. وتمثيل كل الكتل الكبرى في المجلس من شأنه ان يضمن التوازن، ويفتح الباب للمشاركة، من دون الإخلال بآلية صنع القرار، المحصور بداهة في مجلس الوزراء.
هل يتقبل رجال الدولة مثل هذا الترتيب؟ في المنطق العقلي: نعم. في منطق الريبة، او الاستئثار: لا. لعل المآل هو الوصول الى المنطقة الرمادية بين هذه النعم وتلك اللا. في غضون ذلك تبقى التشكيلة الحكومية عالقة في حالة وقف تنفيذ، شأن التطور السياسي المقبل للعراق برمته.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى