والدليل كشفته ويكيليكس…
حسام عيتاني
مقلق هذا الاستسهال في الاستشهاد بوثائق «ويكيليكس» والاستناد إليها كحجة لا تصمد أمامها حجة.
ويندر أن يخلو مقال تنشره صحيفة عربية من لجوء صاحبه إلى «ويكيليكس» وإنزال مضمون ما يرد فيها في مقام الأحكام المبرمة. وتصل هذه الممارسة إلى حدود المهزلة واللامعقول عند بعض الكتّاب.
فمحمد حسنين هيكل يعتبر في مقابلة حديثة له على قناة «الجزيرة» أن أهمية الوثائق تنبع من رسمها صورة بانورامية للسياسة الأميركية حول العالم. وإذا أُخذت في الاعتبار الحقيقة البسيطة القائلة أن المسؤولين عن «ويكيليكس» لم ينشروا على موقعهم حتى يوم أمس سوى 1818 وثيقة من أصل ما يزيد على 251 ألفاً، أي أقل من عشرة في المئة من مجمل الوثائق التي في حوزتهم، لصح التساؤل عن معنى «البانورامية» التي يقصدها هيكل.
معلوم أن الصدمة التي نجمت عن نشر الدفعات الأولى من مراسلات البعثات الديبلوماسية الأميركية قد لفّت العالم وأذهلته، لكن يصعب اليوم وقبل نشر المزيد منها الجزم بماهية الرؤية الأميركية «الداخلية» للعالم.
وتبدو مدهشة قدرة الوثائق على اختراق مجالات السياسة والإعلام العربية لتصل إلى الثقافة، حيث يستشهد عبد الوهاب عزاوي بوثائق «ويكيليكس» للرد على الشاعر سليم بركات (في مقال نشره ملحق «النهار» الثقافي في 19 كانون الأول (ديسمبر) بعنوان «إعادة إنتاج ثقافة الإقصاء والتشويه»). وموضوع النقاش، أي العلاقات العربية –الكردية، هو موضوع سياسي، إلا أن استخدام وثائق وزارة الخارجية الأميركية المسربة لتعزيز الموقف العربي من الأكراد وغيرهم من الأقليات، مسألة فيها نظر.
ما تعلنه الأساليب هذه، في البحث عن ذرائع وحجج في شذرات المراسلات الديبلوماسية الأميركية، يشي بمكنونات عدة. وبغض النظر عن الانتقائية والاستنسابية في الاتكاء على الوثائق (إهمال المراسلات المتعلقة بالفساد في إحدى الدول العربية «الممانعة» والتركيز على مواقف بعض «المعتدلين» العرب، على سبيل المثال لا الحصر)، فإن كثافة اعتماد أوساط الكتاب والسياسيين العرب على معلومات «ويكيليكس»، اعتماداً انتقائياً وناقصاً، تشير في العمق الى رفض الرؤية البانورامية التي تحدث هيكل عنها. بل يبرز السؤال هنا عن الأسانيد التي كان سيلجأ الكتاب العرب إليها، لدعم مقولاتهم وطروحاتهم، في حال لم تنشر «ويكيليكس» ما نشرت.
من جهة ثانية، يقول هذا التسرع في اعتماد الوثائق الأميركية أن مجال تداول المعلومات السياسية ذات المصداقية والحساسية ضيق جداً في العالم العربي. وإذا كانت شبكة الإنترنت قد أتاحت بعض التحسن في مستوى الانتشار، إلا أن المستخدمين العرب للشبكة أغرقوا أنفسهم في طوفان من نظريات المؤامرة وما يعادلها من ترهات. وبدلاً من أن تكون الإنترنت أداة لتعزيز المعرفة والتفكير العلمي، إلى جانب الجوانب الترفيهية التي تنطوي عليها، تحولت الشبكة إلى مرآة تعكس الواقع العربي بكل مثالبه.
ولم يكن غريباً، والحال على ما تقدم، أن تندرج وثائق «ويكيليكس» في سوق الاتهامات الجاهزة والمسبقة الصنع، وأن يضيف ما يتسرب من وزارة الخارجية الأميركية الإرباك والضبابية على عقل عربي مرتبك أصلاً، بعجزه عن الارتقاء إلى الاعتراف بحقائق العالم الواقعي والتعايش معها وإنتاج حقائقه ووقائعه. وكانت الطامة أن جاءت الحقائق تلك إلى العرب من موئل خرافاتهم الرقمية.
الحياة