هل غير «ويكيليكس» واقع الصحافة إلى الأبد؟
أصبح يحظى بأهمية استراتيجية أكبر.. وتمت مكافأته بتغطية أكثر اتساعا عن الوثائق التي كشف عنها
نيويورك: ديفيد كار*
هل غير موقع «ويكيليكس» الصحافة إلى الأبد؟.. يجوز، أو ربما يكون قد حقق نتائج عكسية. ولنعد بذاكرتنا إلى عام 2008 عندما كشف موقع «ويكيليكس» ببساطة عن وثائق أشارت إلى أن الحكومة الكينية قد نهبت دولتها. وكانت متابعة هذه الوثائق في وسائل الإعلام السائدة خافتة تماما. وبعد ذلك، تبنى موقع «ويكيليكس» خلال فصل الربيع الماضي توجها صحافيا إضافيا عبر التحرير والتعليق على شريط فيديو تم تصويره خلال عام 2007 في بغداد تظهر خلاله طائرة مروحية من طراز «أباتشي» وهي تطلق النار على رجال اتضح أنهم غير مسلحين، من بينهم موظفان اثنان من وكالة «رويترز». وكانت التعليقات التي صدرت على هذا الشريط متفاوتة؛ حيث أشار البعض إلى أن شريط الفيديو كان قد تم تحريره لأغراض سياسية، ولكن عملية الكشف عن هذا الشريط تلقت قدرا أكبر من الاهتمام في الصحف. وخلال شهر يوليو (تموز) الماضي، بدأ موقع «ويكيليكس» في الدخول فيما يشبه شراكة مع مؤسسات إعلامية عامة من بينها صحيفة «نيويورك تايمز» عبر تزويدهم بنظرة مبكرة عما كان يعرف باسم «يوميات الحرب الأفغانية»، وهي استراتيجية أدت إلى ظهور تقارير موسعة عن الآثار الضمنية للوثائق السرية. وبعد ذلك، وخلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تبادل موقع «ويكيليكس» كمية كبيرة من البرقيات الدبلوماسية الأميركية السرية وصل عددها إلى 250 ألف برقية تصف التوترات التي تحدث حول العالم مع صحف «لوموند» الفرنسية و«إل بايس» الإسبانية و«الغارديان» البريطانية ومجلة «دير شبيغل» الألمانية. (وتبادلت صحيفة «الغارديان» الوثائق مع صحيفة «نيويورك تايمز»). وكانت النتيجة هائلة، حيث ظهر الكثير من المقالات منذ ذلك الحين، يغوص عدد كبير منها بعمق في المعاني الضمنية لهذه الكمية الكبيرة من الوثائق الثمينة. ولاحظ أنه مع كل نشر متعاقب، أصبح موقع «ويكيليكس» يحظى بأهمية استراتيجية أكبر، وتمت مكافأته بتغطية أعمق وأكثر اتساعا عن الوثائق التي كشف الموقع عنها. إنها مسيرة طويلة للتحرر من أصول «ويكيليكس» كموقع يحرره المستخدم ويعتبر ملكية شائعة إلى شيء أكثر قربا من نماذج النشر التقليدية، ولكن يبدو أن هذا الأمر قد حدث مع الحفاظ على خطط الموقع التي تقوم على تقديم وثائق توفر «أقصى قدر ممكن من التأثير». وبدأ جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس» وروحه الملهمة في فهم أن الندرة وليس الانتشار هي ما تحرك تغطية الأحداث. وبدلا من مجرد كشف الستار أمام الجميع لكي يطلعوا على المعلومات، بدأ أسانج في تقييد عمليات الكشف عن المعلومات على الأشخاص الذين يضيفون قيمة إليها عبر تقديم خدمات العروض والتحرير والتقارير الإضافية. وبطريقة معينة، رفع أسانج، وهو مبرمج سابق من طاقة المعالجة لوسائل الإعلام الإخبارية إلى بناء قصة وتقديمها بطرق مفهومة. ومن خلال نشر جزء فقط من الوثائق بدلا من الكشف عن المعلومات بطريقة عشوائية ومتهورة تهدد حياة الناس، يمكن لموقع «ويكيليكس» أيضا أن يحقق مكانة مسؤولة، وهي طريقة يبدو أنها تسير في اتجاه معاكس لفوضوية أسانج الشخصية الأساسية. وعلى الرغم من أن أسانج يجادل الآن بأن الموقع ينشغل بما وصفه بأنه نوع جديد من «الصحافة العلمية»، تشير كتاباته السابقة إلى أنه يؤمن بأن مهمة موقع «ويكيليكس» هي أن يهيل التراب على ما يعتقد أنها دول فاسدة وسرية وشريرة بشكل متأصل. وبدأ أسانج مؤامرة من أجل الحد من قيمة مؤامرة كبرى حسب رؤيته. وقال جورج باكر، الكاتب المتخصص في الشؤون الدولية بمجلة «ذا نيويوركر»: «موقع (ويكيليكس) ليس مؤسسة إخبارية، ولكنه خلية من النشطاء الذين ينشرون معلومات تحرج أشخاصا موجودين في السلطة. وهم يعتقدون ببساطة أن وزارة الخارجية الأميركية مؤسسة غير شرعية تحتاج إلى أن يتم الكشف عن أنشطتها، وهذا لا يعد عملا صحافيا بالفعل». ومن خلال إظهار تطرفه بشكل غير واضح والتعاون مع المؤسسات الإعلامية العامة، خلق أسانج منطقة مريحة لشركائه في الصحافة. وأصبح من الممكن أن يقوم هؤلاء الأشخاص بأعمالهم، بينما يباشر أسانج عمله أيضا. وقال بيل كيلر، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «نيويورك تايمز»، التي استخدمت معلومات من التسريبات لتقرير سلسلة من المقالات الكبيرة: «فكرة أن تجربته قد غيرت بشكل عميق نوعا ما من الصحافة وطريقة نشر المعلومات أو أنها غيرت من طريقة العمل الدبلوماسي تبدو مبالغة نوعا ما». وأضاف كيلر: «لقد كانت صفقة كبيرة، ولكن غير شائعة. وقد أصبح مستهلكو المعلومات مطلعين على كثير من الأشياء التي كانت سرية من قبل. وكان مستوى هذه الصفقة غير عادي، ولكن هل كانت مختلفة نوعيا عن وثائق البنتاغون أو عمليات الكشف عن فضائح سجن أبو غريب أو عمليات التنصت الحكومية؟ أعتقد أنها ربما لم تكن كذلك». وفي هذه الحالة، يمكن أن تجد الشركات الإعلامية أيضا بعض الراحة في معرفة أن العدد الكبير من الوثائق الحالية لم يحتو، مع استثناءات قليلة ملحوظة، على أي عمليات كشف بارزة عن معلومات سرية. ولم يشعر أي مواطن حصيف بالمفاجأة عندما علم بأن الدبلوماسيين لا يثقون في بعضهم البعض ويقولون ذلك خلف أبواب مغلقة. ولكن مع اتضاح أن موقع «ويكيليكس» كان يغير طريقة نشر واستهلاك المعلومات بشكل متزايد، ثارت أسئلة حول قيمة التوجهات الصحافية التقليدية. وقال نيكولاس ليمان، عميد كلية الصحافة في جامعة كولومبيا: «يقول الناس من العالم الرقمي دائما إننا لا نحتاج إلى صحافيين على الإطلاق لأن المعلومات أصبحت متوافرة في كل مكان، ولم يعد هناك أي عائق يحول دون الوصول إليها. ولكن هذه الوثائق قدمت إجابة جيدة لهذا السؤال. وعلى الرغم من أن الصحافيين لم يكتشفوا أشياء جديدة في هذه الوثائق، فهناك قدر كبير من القيمة لجهودهم الرامية إلى توضيحها ومعالجتها. فمن هو الشخص الآخر الذي كان سيمتلك الطاقة أو الموارد اللازمة لفعل ما قد فعلته هذه المؤسسات الإخبارية؟» ولم يتم منح موقع «ويكيليكس» بالتأكيد نفس مظاهر الحماية التي نمنحها لمؤسسات إعلامية أخرى في الدول الحرة. وتعرض الموقع لهجوم واضح مع محاولة مواقع الدفع الآلي، مثل «باي بالج» و«أمازون» و«فيزا»، حرمان «ويكيليكس» من التمتع بخدماتها، وهي خطوة كانت ستبدو غير واردة على الإطلاق إذا كانت قد تمت ضد الصحف العامة. (فهل يمكن أن تتخيل حجم الغضب إذا قررت شركة بطاقات ائتمانية وقف التعامل مع صحيفة «واشنطن بوست» لأنها لم تحب ما كان منشورا على صفحتها الأولى؟). وكان السيناتور جوزيف ليبرمان قد ذكر أن أسانج يجب أن توجه إليه تهمة الخيانة، بينما وصفته سارة بالين بأنه «عميل مناهض للولايات المتحدة يداه ملطختان بالدماء». (وفي الحقيقة، اقترح السيناتور ليبرمان أن وزارة العدل يجب أن تدرس دور صحيفة «نيويورك تايمز» في التسريبات). ويعارض باكر بشدة مقاضاة موقع «ويكيليكس» بتهمة الخيانة لأن «تمييز الفارق بين ما فعله موقع (ويكيليكس) والمؤسسات الإخبارية أمر صعب، ولأن مقاضاة الموقع سوف تمثل سابقة مروعة»، حسب قوله. ولكن أسانج، الذي يقبع حاليا في أحد السجون البريطانية، على خلفية مطالبة السويد للسلطات البريطانية بتسليمه إليها، يعتبر شريكا معقدا. وحتى الآن، شارك موقع «ويكيليكس» في تعاون مثمر، ونوع جديد من الصحافة الهجينة التي برزت في الفضاء بين ما يعرف باسم «النشطاء القراصنة» والمؤسسات الإعلامية العامة، ولكن العلاقة القائمة بينهما علاقة غير مستقرة. وقد يكون موقع «ويكيليكس» مستعدا للتعاون مع الصحف الآن، ولكن هذه المؤسسات لا تشترك في نفس القيم أو الأهداف. ويرى أسانج وأنصار الموقع أن الشفافية تعتبر الهدف النهائي، حيث يؤمنون بأن سطوع الشمس والانفتاح سوف يحرم أشخاصا سيئين من السرية التي يحتاجونها لكي يكونوا ناجحين. ومن الوارد أن تقضي وسائل الإعلام العادية الكثير من الوقت في محاولة الحصول على المعلومات من الجهات الرسمية، ولكنها تعمل إلى حد كبير وهي تؤمن بأن الدولة مؤسسة شرعية ويحق لها تأمين بعض أسرارها على الأقل. وقد وضع أسانج بطاقة تهديد على الطاولة عندما قال إنه إذا تهدد وجود «ويكيليكس»، فسوف تكون مؤسسته مستعدة للكشف عن كافة الوثائق الموجودة بحوزتها، مع إغفال النتائج المدمرة المحتملة لهذه العملية. (وأخبر محاموه شبكة «إي بي سي» الإخبارية الأميركية بأنهم يتوقعون أن تتم إدانة موكلهم بتهم التجسس في الولايات المتحدة). وقال باكر إن هذا العمل هو: «شيء لن تفعله أي مؤسسة صحافية مطلقا، أو تهدد بفعله». وماذا لو كان موقع «ويكيليكس» غير سعيد بكيفية تداول أحد شركائه الإعلاميين الخصوصيين للمعلومات التي قدمها أو أصبح غير سعيد بتغطيته للمعلومات؟ في هذه الحالة، يمكن توجيه نفس المدافع التي كانت موجهة في حرب المعلومات على منافسيه السياسيين والمواقع المنافسة إلى المؤسسات الإعلامية. وقال ستيف كول، رئيس مؤسسة «نيو أميركا فاونديشان» والمؤلف والكاتب الذي كان قد نشر كتابات موسعة في مجلة «ذا نيويوركر» عن أفغانستان، إن استمرار نموذج «ويكيليكس» لا يزال سؤالا مطروحا. وقال: «أنا متشكك بشأن ما إذا كانت عملية نشر بهذا الحجم سوف تحدث مجددا فيما بعد، بشكل جزئي لأن المصالح الثابتة وحكم القانون يميلان إلى أن يطبق بشكل قوي جدا على الحركات الأولية. فكر في التأثير الأولي لشركة (نابستر)، وماذا حدث لها بعد ذلك». وبالطبع، لم تعد شركة «نابستر» تقوم بنفس الأنشطة، ولكن الثورة التي أحدثتها قلبت صناعة الموسيقى رأسا على عقب. وقال كول: «في الوقت الحالي، تتعامل المؤسسات الإعلامية مع هذا الأمر على أنه صفقة مع مؤسسة صحافية شرعية. ولكن في وقت معين، سوف يتعين عليهم التحول إلى التعامل مع مؤسسة لها عنوان وهوية أو سوف ينقضي وقت هذا المستوى من التعاون». وقالت إميلي بيل، مديرة مركز «تو للصحافة الرقمية» في كلية الصحافة بجامعة كولومبيا إن موقع «ويكيليكس» قد غير بالفعل القواعد الصحافية عبر خلق وضع تتعاون فيه مؤسسات إخبارية متنافسة الآن للمشاركة في سبق صحافي. وقالت: «يمثل موقع (ويكيليكس) نوعا جديدا من الدفاع عن إحدى القضايا، وهو نوع يستدعي للذهن النشاط الذي كان سائدا خلال عقد الستينات من القرن الماضي، حيث كان الناس يرغبون في الحصول على المعلومات والقيام بعملية التنقيب عنها بأنفسهم. وما تراه هو مجرد شق في الباب الآن. ولا يمكن لأي فرد أن يقول إلى أين يمكن أن يمضي هذا التقدم بالفعل».
* خدمة «نيويورك تايمز»
الشرق الأوسط