التأويلات الممكنة لموقف ساركوزي من فلسطين
نهلة الشهال
قال «رأيتُ»! وهو في الحقيقة لم ير من حواجز التفتيش التي تنخر جسد الضفة الغربية، ومفاعيل الجدار الذي يتمدد فيها ملتفا حول كل مدينة وقرية، لم ير من كل هذا إلا لمحة خاطفة: فتسهيلات تنقل الرئيس من جهة، وصغر المسافة التي قطعها للوصول إلى بيت لحم وليس إلى رام الله من جهة ثانية، هونتا عليه الأمر. وبالمناسبة، فما هذا التقليد الذي افتتحه بوش؟ وهل يبرره اختيار السهولة، ممزوجة بنية تبديد أي رمزية سياسية فلسطينية (وربما إحلال رمزيات أخرى – قوية وفعلية – محل ما قام)، والرغبة الملحة بزيارة كنيسة المهد (ولستم يا قوم طماعين إلى حد افتراض أن هؤلاء الزعماء سيشرفونكم مرتين). واستطراداً في سوء النية، فهل تهيّأ بيت لحم لتكون «عاصمة» الباندوستانات الفلسطينية المتحدة، عوضاً عن أبو ديس مثلاً، أو عن حي آخر من الأحياء الطرَفية الملاصقة للقدس الشرقية، والتي يجد الإسرائيليون بعد الاختبار انه لا داعي للتنازل عنها، وأن بإمكانهم ضمها أو تحويلها إلى ميني باندوستان هي الأخرى، مبعدين بذلك كل لبس عن فكرة «القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل».
قبل ساركوزي «رأتْ» كوندوليسا رايس، هي التي ما زالت تتجشم عناء الانتقال إلى رام الله. بل قال بوش نفسه أنه رأى، واستبشرنا خيراً باعترافهم، هم أنفسهم، بأن وضع الفلسطينيين لا يطاق. صحيح أن هذا الوضع لم يتغير بعد كل تلك الرؤى- وهذا هو الجانب السلبي من المشهد – ولكننا نعتد بقولهم كجزء من عملية بناء شرعية عالمية رسمية لفلسطين، أخلاقية وسياسية- وهو الجانب الايجابي من المشهد… فبعد ما يقرب من عقود أربعة على كتابتها، تبدو رائعة إميل حبيبي «سعيد أبي النحس المتشائل» وكأنها تصبح رويداً الإطار الاستراتيجي للتفكير والسلوك السياسي الفلسطيني. فقد سرّ الفلسطينيون كثيراً بتأكيدات الرئيس الفرنسي «الشجاعة» حول الحاجة لدولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقرة. فهل سنتوقف عند التفاصيل من قبيل انه قال ذلك كصديق لإسرائيل، كما يقدم نفسه بلا انقطاع، وهي الجملة التي افتتح بها خطابه في بيت لحم أمام الرئيس عباس، محدداً أن هاجس أمن إسرائيل هو الذي يحمله على التمسك بضرورة الدولة الفلسطينية. وإنما، وللحق، قال أشياء أخرى أثلجت صدور الفلسطينيين وأغاظت ولا شك أصدقاءه (ولعله يعرف المثل العربي، الصديق من صدقك الخ) : «ليس الجدار من سيحمي إسرائيل بل الخيارات السياسية، وهذه يجب أن تكون السلام»، و»لا يعالج الظلم الذي لحق باليهود بخلق شروط ظلم جديد»… رائع كل هذا. وهو نفى الصلة بحماس ناعتا إياها بزارعي القنابل والإرهابيين، ولكن مهلاً فهذا أسلوبه المعتاد في الكلام، بينما يعرف الجميع أن شعرة الاتصال الفرنسي الرسمي بحماس لم تنقطع… ها قد ضاعت حسبة المتشائل، فلم يعد واضحاً البتة إلى أي كفة يميل الميزان.
يقول الواقع إن التطورات على الأرض قد تجاوزت نهائياً إمكان ولادة دولة فلسطينية تحظى بالحد الأدنى من القابلية للحياة والاستقرار. وإن التواصل بين أجزاء مثل هذا الإعلان، لو حدث غدا، بات مستحيل التطبيق بسبب التوسع الهائل، المتسارع وغير المنقطع، للكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، وهي كتل متماسكة تُشكل مدناً كبيرة تشطب الضفة بالعرض، وتتواصل فيما بينها ومع إسرائيل بواسطة شبكة من الطرق الالتفافية الممنوعة على الفلسطينيين. والضفة مقسمة تماما إلى أجزاء ثلاثة كبرى، عدا التقسيمات الفرعية داخل كل جزء، والتي لا تقل تسبباً بالعناء: لا يوجد أي تواصل مكاني فلسطيني، وهذا الانقطاع في جغرافيا الضفة يضاف إلى الانقطاع عن غزة، والى الانقطاع عن فلسطينيي الـ48 الممنوحين هوية إسرائيلية، والى الانقطاع عن القدس الكبرى ذات الوضعية الخاصة – والتي أنجز تهويدها أو يكاد، بما في ذلك أطرافها كسلوان مثلاً – والى الانقطاع عن اللاجئين خارج فلسطين. هل ينشأ كيان على هذا القدر من الانقطاعات؟ ليس في الجغرافيا فحسب وإنما أيضا في الزمن والاجتماع: يلزم للانتقال داخل الضفة سبع ساعات لما كان اجتيازه يتطلب نصف ساعة، هذا حين يكون الانتقال ممكناً، وهو على الأغلب غير ممكن في الضفة نفسها، أما سائر الأجزاء فلا داعي لمجرد الإشارة إلى الأمر بصددها. وقد حظي الفلسطينيون في السابق بتعويضات سياسية عن التشرذم، وإن كانت تقوم على التمسك بإطار موحد، مقاربة موحدة أكثر من تجسيدها المادي للوحدة، منها منظمة التحرير، بل منها العملية السياسية السلمية نفسها التي وضعت الجهود والآمال الفلسطينية في سياق فرضية تحقق دولة اسمها فلسطين، بعد الإقرار بوجود كيانية فلسطينية. يشير المأزق الفلسطيني الحالي، المتسبب بمقدار مشهود من اضطراب الفعل الفلسطيني وامّحاء الأفق الذي ينظمه، إلى الاصطدام بانهيار العملية السلمية كما ولدت عن أوسلو، وعدم امتلاك بدائلها، لا عند السلطة ولا عند فتح ولا عند اليسار… ولا عند حماس. وهذه لحظة تاريخية لا تقل أهمية وحسماً عن ولادة العمل الفدائي وعن أوسلو. لذا نجد الفلسطينيين في وضع معلق. وبخلاف منهج المتشائل الذي يملكون اعتماده أو الالتجاء دوماً إليه، فهم يراقبون بوضع شبه معطل أفكاراً وما يقال له مخططات، متداولة نسبياً في السر، عن تغيرات كبرى في المنطقة، تُجزع كياناً كالأردن مثلاً، أو يَجزع لها فلسطينيو الـ48 الخ…ولكن ذلك ليس بعد في دائرة التطبيق، فهل يوجد سوى تقطيع الوقت؟ هل يملك الفلسطينيون اليوم سوى التمسك بجميل الكلام الذي ما زال يقال لهم؟ خطاب ساركوزي إذا ما قيس على تطورات الأرض ذرٌ للرماد في العيون؟ وإنما التمسك به جزء مما أسميناه الحفاظ على «الشرعية العالمية الرسمية لفلسطين»… أضعف الإيمان عندما يعز سواه. وفي تطورات الأرض، عدا ما يجري في فلسطين نفسها، قرار الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي رفع مستوى التعاون بينه وبين إسرائيل، ومنحها وضعية استثنائية يقول إنها مطابقة لواقع تلك العلاقات المتقدم في كافة الميادين، بما فيها المجال العسكري. يحدث هذا بالضد من المطالبات الهادئة للحركات الأوروبية الأكثر اعتدالاً، والتي كانت طوال السنوات الماضية قد أسست تحركها على الضغط على الاتحاد ليس من أجل إلغاء، بل لتجميد، العمل باتفاقية التعاون الأورو-إسرائيلية، متبعة في ذلك قرار البرلمان الأوروبي عام 2002، وقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2004، حيث يشكل هذا التعليق ممارسة للضغط على إسرائيل لتنفذ قرارات الشرعية الدولية.
قال الناطق باسم الاتحاد الأوروبي في الأسبوع الماضي إن ذلك غير مجد… لأن إسرائيل ترفض الضغط! فنفترض أن تجنب الضغط (لأنه كأسلوب مرفوض من المضغوط عليه، هل ما زلتم تتابعون الخيط المنطقي) ورفع المستوى التعاوني يمثلان «حزمة حوافز» كما يقال في اللغة الدبلوماسية العالمية. حسناً، لتحقيق ماذا؟ ضاع المتشائل، ولكن لا يهم.
ويقال أيضا إن سر ساركوزي لا يتعدى شعور العظمة المستبد به، وهو الساعي إلى اثر في التاريخ، وأنه اليوم يستفيد من الهوامش المتروكة له من قبل صديقه الأخر، الولايات المتحدة، ورئيسها بوش. يعني: نوع من الانتهازية البراغماتية التي تفسر موقفه الفلسطيني، كما هو يحافظ على علاقة وطيدة مع سورية على أمل أن يكون من يحيط بها إذا ما قررت المضي في الخيار الآخر، ويتحرك كثيراً في لبنان (وإن من دون برَكة)، ويستقبل القذافي، ويزور كل يوم بلداً، ويتخيل نفسه راعياً لمؤتمر حول العراق، ووسيطاً صارماً مع إيران، ولا ننس وسط كل ذلك تسويق «الاتحاد من أجل المتوسط»… ربع مشاريع لا تقنع أحداً ولا تقلقه. وهكذا، وبعيداً عن كل عدمية معيبة في ظل الكارثة القائمة، يستقر تفسير مواقف ساركوزي «المدهشة» ما بين كلام يعتد به لبناء (أو للحفاظ على) شرعية عالمية رسمية لفلسطين، وملاحظة الانفصام بالمقارنة مع تطورات الواقع المتعدد، والهوامش التي يتركها إلقاء القبض الأميركي على العالم، وجنون عظمة بعض الزعماء… كما تشاؤون!
الحياة