التجديد بوسائل قديمة!

د.نديم معلا
في كل مكان ينادون بالتجديد والتغيير، حتى في الولايات المتحدة الأميركية، التي تتيح بنية النظام السياسي والاقتصادي والإداري فيها مساحة واسعة، قياسا إلى البنى المشابهة في دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
معنى تجدد ذلك، أنك تضخ دماء جديدة في شرايين الحياة بعامة. والتجديد حراك طبيعي يتسق ويتناغم مع حركة الكون والحياة. فلو ظلت الأشياء كما هي، ساكنة ثابتة، لما حدث تقدم وتآكلت من الداخل، وتعفنت وعجزت عن أداء وظيفتها الحيوية.
في عالمنا العربي يبدو التجديد مخيفا! يرى فيه البعض اضطراباً ومصدراً من مصادر عدم الاستقرار، وربما الفوضى أيضاً. ولعل مثل هذا الموقف، ليس المتردد فحسب، وإنما الخائف القلق، يعود إلى الرغبة في دوام الحال. ولكن دوام الحال محال كما يقولون.
ولنفترض أن من هم في مواقع القرار «خبروا» جيداً الأوضاع، وما يمكن أن تؤول إليه، وأن في وسعهم تجنيب هذا المكان أو ذاك، هزّات، أو عوارض في غنى عنها. لكنهم في المقابل، وهم يحجبون التجديد، يساعدون بحسن نية، أو سوء نية، على التقادم والاهتراء والتخلف.
و«الخبرة» التي لا يطوِّرها أصحابها أنفسهم، ولا ينفتحون خلالها على العصر، يحكمون على ذواتهم بالتحجر واليباس، ويتحولون إلى أنماط استُهلكت وذبلت وغدت تناصب العداء للابتكار والقدرة على إيجاد الحلول للمشكلات، وسبل الخروج من الأزمات.
أعرف بعضاً من هذه الخبرات النمطية، لم يطلع على التجديد في مجال دراسته، ولم يكلف نفسه عناء قراءة بحث أو كتاب، خشية أن يقف على الحقيقة المرة، وهي أنه خارج الزمن.
ليس التجديد إذن نقيضاً للخبرة المتراكمة بفعل الزمن نفسه، وإنما إعادة تقويم لها، وسعي إلى تنقيحها وإضاءتها، بل والأهم من ذلك تحديثها.
كل شيء يتجدد، حتى الأيديولوجيات بدأت تجدد نفسها (أعادت الأحزاب اليسارية والماركسية والشيوعية الكلاسيكية النظر في منطلقاتها وبرامجها).
وقبل ذلك فعلت الصين التي أدركت مبكرا، أن لا شيء في تراثها الماوي مقدس، وعليها، تبعاً لذلك، أن تتكيف مع الراهن العالمي. والتكيُّف في هذا السياق تجديد، وإن لم يكن هيكلياً، إلا أنه في أسوأ الأحوال استجابة قد تتلوها خطوات مدروسة، فإذا التجديد يطال الكل، وليس الجزء فحسب. التجديد، من حيث هو استبدال بُنى وآليات تنفيذ، وأفراد يعملون على تنفيذ المُجَدَّد، أو المُزمَع تجديده، وفق الأفراد، فقد تظل السلطة، نافذة وقائمة وفاعلة، لكنها قد تضطر إلى تغيير الأدوات ليس إلا. بيد أن الطامة الكبرى هي في محاولة التجديد بوسائل وأدوات قديمة. عندها لن يكون مثل هذا التجديد، إلا ضحكاً على الذقون كما يقولون، إذ كيف لمن ينضوي تحت لواء القديم، ويدافع عنه، أن يسهم في عملية التجديد؟
وفي عالمنا العربي يلتصق المسؤول بالكرسي، بحيث لا يقوم عنه. وبالتالي فإن التجديد الحقيقي، يكون بوجوه جديدة، لديها مشاريعها وتصوراتها. إنها أشبه ما تكون ببرامج انتخابية، ولضبطها يجب أن تُسأل عنها وتناقش في مدى تجسيدها على الأرض.
في إحدى المؤسسات التعليمية الثقافية مثلاً، شاب لم تسعفه طاقته البيولوجية، على امتلاك الطاقة الفكرية اللازمة التي تؤهله لإحداث تغيير، فلجأ إلى عقليات متقادمة عفا عليها الزمن. والمصيبة هنا أن صاحب القرار في الوزارة التي تتبع لها هذه المؤسسة، يرفع راية الإصلاح والتجديد!
التجديد ليس عملية فردية، أو رغبة «شعاراتية»، أو لغواً، أو سلعة رائجة. إنه وعي للهدف والوسيلة معاً. ولعل المساءلة المستمرة في كل مرحلة من مراحل الشروع في التجديد، أكثر من ضرورية. وفي المثال الذي أشرنا إليه آنفاً تبدو الحاجة إلى اختيار النخب الإدارية المناسبة، من حيث الوعي، أو المعرفة النظرية، والأداء المرافق لها، حيوية ومهمة. وإذا نُحيِّت الوساطات والعلاقات الشخصية جانباً، واعتمدت المعايير الدقيقة مثل الكفاءة، القدرة الشخصية، النزاهة (وهذه صفة ملتبسة هذه الأيام حيث الفساد يضرب أطنابه) فقد تتحقق المقولة ذائعة الصيت «الرجل المناسب في المكان المناسب».
وثمة جانب، قد يتضافر مع الجوانب الأخرى، وهو تأسيس النظام المؤسساتي. و«تأسيس» الكلمة الأكثر تعبيراً وصدقيّة عن الواقع كما هو، وليس كما يُشاع ويروج له عبر مديح الذات. فمن نافل القول أن تفعيل دور المؤسسات الثقافية والتعليمية والاقتصادية وغيرها، يعني أن يُصار إلى التدرج الوظيفي من جهة، واحترام النظام، أو اللوائح الداخلية من جهة أخرى. الطفرة أو القفزة على سلم الارتقاء الوظيفي، يدمر أو في أفضل الأحوال يعيق كل مشروع جديد. الجهل مقبرة كل حلم بالتغيير، لأنه يقتل الوقت (الذي أصبح مقدساً لدى الشعوب والأمم كلها) بتجريب الخطأ والصواب. ما قيمة صواب واحد، تقابله عشرات الأخطاء؟ ثم من الذي يدفع ثمن هذه الأخطاء، إذا غُيّبت المساءلة، واكتفى من هم في موقع القرار، بالإبعاد أو التنحية؟
جدلية القديم والجديد تطرح أسئلة جوهرية منها: كيف تضبط العلاقة بين طرفي هذه الجدلية، بحيث لا يكون إقصاء القديم قاطعاً ونهائياً، فمن رحمه يولد الجديد الذي يتجاوزه. الطبيعة تجدد ذاتها والدول المتقدمة، لا تكف عن تجديد عقولها وكوادرها. فماذا نحن فاعلون؟ لنجدد ولكن بوسائل جديدة.
كاتب من سورية