الاسترخاء والحوار بدلاً من التوتّر والقطيعة
موفق نيربية
قد يغصّ معارضون سوريون بحديثي هنا أكثر من أهل السلطة، لكن الزمن تغيّر، وانتهى عهدنا بالتكتّم على بعض أفكارنا تجنّباً للتعارض بين المعارضين، أو منعاً لاستفادة الطرف الآخر مهما كانت الظروف، أو حتى خوفا من الاتهام بالليونة واجتناب الجذرية في طلب التغيير والإصلاح والسعي إليهما. رغم أن الكلام أدناه لا يشذّ عن رأي كثيرين، ومنهم بعض «المتشدّدين» أو مَن يوصفون بمثل هذه الأوصاف.
الموضوع المعني هو: هل ينبغي للمعارضة أن تدعم، أو تُسرّ على الأقل، للضغوط التي تُمارس على النظام من الخارج على شكل شروط تتعلّق بحقوق الإنسان مثلاً، قد تتأجل بسببها مشاريع اقتصادية-اجتماعية من نوع الشراكة الأوروبية؟ أم هل ينبغي للمعارضة أن تكون مع مقاطعة النظام احتجاجاً على سياساته الخارجية والداخلية، أم تشجّع على الحوار معه، وتحقيق المطالب في السياق؟
كان هذا المدخل معقّداً وعسيراً منذ فترة، لكن تطورات الشهر الماضي جعلته مُيَسَّراً، بل يكاد يكون بديهياً، فقد «انفرج» حال النظام السوري مع عُقَد سياسته الخارجية، وانفرجت أساريره قليلاً. وليس مهماً هنا الدخول في البراهين المبتذلة أحياناً حول مَن انتصر ومَن ربح أو خسر، تلك القادرة دائماً على تحويل الأبيض إلى أسود أو العكس. المهم أن هنالك استرخاء كان يبدو مستحيلاً، بالطبع لا بالتطبع.
ولهذا الاسترخاء ثلاثة أو أربعة مصادر: تمرير «اتفاق الدوحة» وتسهيل انتخاب رئيس جمهورية لبنان، وإعلان انتظام المفاوضات السورية-الإسرائيلية، وتحسن الوضع الأمني في العراق، والدخول في خطوات اقتصادية بليغة في لغة البنك الدولي تتعلق برفع الدعم وتحرير التجارة الخارجية.
رغم أنه لا يُمكن، بعدُ، الركون إلى ذلك، مع تفعيل «ملف نووي»، وإعلان قرب إقلاع أعمال المحكمة الدولية المتعلّقة باغتيال الحريري. وهما أمران لا يبدو أنهما يقلقان السلطة حالياً.
لماذا نميل إلى الارتياح إلى ارتياح النظام، وإلى التشجيع على الحوار معه من قبل الجميع بدلاً من مقاطعته وعزله وتهديده؟
لأننا نحن نتغيّر أولاً، رغم انشغالنا عن ذلك دائماً بما نطمح إليه من تغيير أو تحوّل أو إصلاح في النظام أو في الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما. نتغيّر إلى المزيد من استيعاب سلمية عملية التغيير وتدرجها وضرورة تأمينها وطنياً واجتماعياً. وقد أصبحت تجربة العراق جلية الملامح والنتائج أمام المواطن العادي، حتى ذلك الذي عانى أقسى حالات القمع والقسوة والأذى، وأمام النخب المعارضة بالطبع.
ولأننا نعرف النظام ثانياً. نعرف بنيته وعقليته المبنية في الأساس على صفحات عدة من كتاب «الأمير» حرفياً، تتعلّق بطريقة التعامل مع الناس وكيفية كسر إرادتهم بالنار أو العسل. نختصر هذا أحياناً بتعبيرات الهيمنة الأمنية أو السياسة الأمنية. في أوقات الشدة يقولها أهل النظام بأوضح وأصرح الأشكال أيضا، ولا حرج.
فقد يشجع الميل إلى تخفيف التوتر خارج الحدود على الحد من الميول الأمنية، وإفساح المجال للعقل والتفكير والأصول المرعية في السياسة والاقتصاد والمجتمع، فالخائف يضرب ضربته بقسوة متناهية، والعسس هم سادة الليل والنهار من دون منازع في حالة الخطر والحصار والعزلة والتهديدات اليومية.
وثالثا، لأننا معنيون بحالة الناس وفقرهم وصعوباتهم المعيشية، وبتدعيم أسس التنمية من أجل المستقبل، لأن غير ذلك هو تمهيد للحقل من أجل الفساد والنهب والبطالة والعوز، ومن أجل تقدم أفكار القبيلة والعائلة والطائفة والعصبة أحياناً، على حساب ما ينبغي لنا، وقد تأخرنا عنه كثيراً.
ورابعاً، لأننا لن نكون مضطرين للوقوع تحت سنابك الخيل، والضياع في عجاج الحرب الشفوية الوطنية أو القومية، كلما دق الكوز بالجرّة. فأجواء الحوار والتسوية والسلم أفضل للاهتمام بقضايانا حتى القومية منها، ولإنهاء «القابلية للاستعمار» بكل مقوماتها. ولعله حين تستعمل هذه المفاهيم في السياسة الخارجية تغدو لغة في السياسة الداخلية أيضاً.
وخامساً، لأن المسألة مسألة مبدأ كما يُقال، فمن مصلحتنا الحيوية سلام يضمن استرداد الجولان المحتل، وهدوء الأوضاع اللبنانية، والعودة إلى مسار العملية السياسية فيه، وتعزيز الدولة ومؤسساتها، وانتعاش الديمقراطية. كما من مصلحتنا المباشرة أيضاً، حالياً وتاريخياً، أن تنتظم المسألة الفلسطينية وتتوحد قواها وتتبلور الدولة الوطنية المستقلة، إضافة إلى تخفيف الحمل العراقي الهائل عن كواهلنا، حين يبتعد عن سياق الحرب الأهلية والتفتت والخراب، وتعود قواه إلى المصالحة والتسوية وبناء الوطن بالتوازي مع تناهي احتلاله. ذلك كله من مصلحتنا، رغم أنه يتعلّق بالسياسة الخارجية. بل يبدو كأن «وحدتنا العربية» تتجسد على الأرض بأشكال لم تخطر في بال روادها.
ومرة أخرى: حقوق الإنسان ليست من «الشؤون الداخلية» لأي دولة أو نظام!
*كاتب سوري