كردستان في القرآن!
هوشنك بروكا
لا يستغربَن القارئ العزيز(المسلم العربي على وجهٍ أخص) من هذا العنوان، الذي قد يبدو “استفزازاً” لأول وهلةٍ، أو “نشازاً” على اعتقاد المسلم المتجه صوب مكّته العربية الفصيحة، فضلاً عن كونه نشازاً أكيداً على جهة إيمانه، وجهة صيامه، وجهة لسانه، التي أرادها الله، سماءً ما، أن تكون عربيةً فصيحةً أكيدة، كما جاء في قرآنه الكريم، إحدى وعشرين مرة، في سياقات متقاربة(القرآن الكريم:
13:89: 12:2 20:113; 39:28; 41:3; 42:7; 43:3؛ 16:3; 26:195; 46:2)
نقلت بعض المواقع الكردية، مؤخراً، “كشفاً” طازجاً، دينياً بإمتياز، مفاده أنّ “كردستان بحسب القرآن الكريم، هي منزل ومكان مبارك”.
أما حجة الكشافين المؤمنين الكرد في هذا الخبر “المؤمن”، فهي “أرض نوح عليه السلام”، تلك الآرض التي اتخذت من “جودي”(آرارات) في القرآن، مكاناً عالياً لها، لإنقاذ العباد.
لست هنا في معرض مناقشة “قدسية” آرارات الميثولوجية، في القرآن، كجبلٍ “مرسى”، بقدر ما أني أريد الإشارة إلى قضيةٍ تضليلية ديماغوجية، مللنا منها نحن أهل الشرق المبتلون بعقائدنا وأدياننا كما بدنيانا، ألا وهي قضية حشر أنف الدين أو المقدس في السياسة وما حواليها، أي “تسييس الدين”، أو “تجنيد الله”، لصالح هذه الإيديولوجيا وهذه القومية ضد تلك، أو تأليب هاته الجغرافيا ضد تلك، أو تأليه هذا الزعيم ضد ذاك.
الخبر ذكّرني بأيام زمان، حين كنا طلاباً مبتدئين، يقتادنا الخوف إلى درس الدين، المشبع بأخبار وقصص وبركات “الأب القائد” وصحبه، أكثر من قصص ومعجزات الأباء الأنبياء أجمعين.
أما “مستكردوا” القرآن، فيستندون في “اكتشافهم المؤمن” هذا، على آياتٍ نُزلت على ذكر النبي نوح عليه السلام، الذي أراد الله لسفينته أن ترسو في طوفانٍ ما، على جبل النجاة “آرارات”، أي الجودي.
الجدير بالذكر، هو أن إسم النبي نوح قد ورد في القرآن 43 مرة، والجودي(أي جبل آرارات) مرةً واحدة.
إليكم بعضاً من الآيات التي يتخذها “القرآنيون الكرد الجدد”، مسنداً ل”نظريتهم الجديدة”:
“ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين”(الصافات37: 75ـ82)
“وقيل ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين “(هود11: 44)
أصحاب هذا الخبر(الكشف) المتديّن جداً، والكردي بإمتياز، راحوا في “تكريد” القرآن ههنا شططاً. أهل القرآن من الكرد، هؤلا، ذهبوا في أدلجة كتاب الله وتسخير الدين لدنيا سياستهم أو قضيتهم، هذه المرة أيضاً، بعيداً جداً.
بحسب توصيف هذه “النشرة الدينية” الطازجة، فأن قضية الكرد في القرآن، هي قضية “المستضعفين الذين يريد الله أن يجعلهم أئمةً على العالمين، ووارثين على الأرض”.
أما دليلهم(الإخوان الأكراد) الديني الأقدس على ذلك، فهو سورة القصص، التي جاء فيها: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ”(القصص28: 5، 6).
والمقصد السماوي، ههنا، هو أنّ الله يريد في قرآنه أن يجعل من “شعب آرارات” أو الكرد المستضعفين “آئمةً على الوارثين”، ربما ليكون الكرد ههنا، “الأمة البديلة”(البديل السماوي عن أمة العرب)، التي جعلها الله “خيرُ أمةٍ أخرجت للناس”.
لا شك أنّ قضية الكرد، بإعتبارها قضية سياسية، كقضية أيّ شعب أو جماعة إثنية مضطهَدة أخرى، لهي قضية حقوقية أكثر من عادلة، لا غبار على شرعيتها، ولأكرادها كل الحق في تقريرهم لمصيرهم، كما يشاؤون، حسبما تقتضيه المواثيق والصكوك الأممية ذات العلاقة بهذا الشأن، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ههنا، هو:
ما هو علاقة كتاب الله، بكتاب السياسة، أو أرض الله بأرض كردستان، أو المستضعفين في القرآن بالمستضعفين الكرد في كردستان أو الدول التي تقتسمها؟
لماذا هذا الربط الميكانيكي والقسري الأكيد، الآن، بين “مقاصد الله” في كتابه السماوي، ومقاصد الأكراد في خطابهم الأرضي، كما ارتكب الربط ذاته عروبيون وقومجيون كثيرون من قبل؟
هل من الضرورة الدينية أو حتى الدنيوية، أن يكون “جودي الله” في القرآن، هو ذاته آرارات أكراده في كردستان؟
ثم ما علاقة “تاريخ الله” بتاريخ كردستان، أو علاقة جغرافيا وجبال الله، كممكن ميثولوجي، بجغرافيا وجبال كردستان(أو أيّ مكان آخر) كممكن سياسي؟
لماذا هذا الإصرار من جهة بعض أهل التدين، أو أهل السلف من الكرد، الآن، بجعل “كردستان”، كمكان سياسي لا غبار على وجوده، الآن وقبله، إلى “مكان ديني” يسبح في السماء، أو “منزلاً من منازل الله في القرآن”، كما يريد هذا البعض الكردي له أن يكون؟
أليس هذا تسييساً فظاً ل”كلام الله” وقرآنه، أو كلاماً سلفياً لا محل له من الإعراب، إلا في “نحو الإرهاب”، كما يريد له الكثيرون من دعاة “تفخيخ الدين”، هنا وهناك، أن يكون؟
ثم لماذا “لي” عنق القرآن، كنص تاريخي يعود إلى أكثر من أربعة عشر قرنٍ من الزمان، وإسقاط كلام الله، ككلام مخلوق، على المكان والزمان الكردييّن، في كردستان الآن؟
الحقائق على الأرض، ومنها حقائق القرآن ذاته، تقول:
شتان ما بين زمان القرآن وزمان كردستان!
شتان ما بين مكان القرآن ومكان كردستان!
شتان ما بين لسان القرآن ولسان كردستان!
شتان ما بين جهة القرآن وجهة كردستان!
شتان ما بين قصَص القرآن وقصَص كردستان!
شتان ما بين صحيح القرآن وصحيح كردستان!
وشتان ما بين عربية القرآن وأعجمية كردستان!
أما محاولة هذا البعض الكردي من “أهل الدين” للبحث عن كردستان في القرآن، فهي ليست أكثر من ردة فعلٍ سلفية، يراد بها “تجنيد المقدس” لصالح السياسة، ما يعني في المنتهى زجاً للسياسة في الدين، أو بالعكس، أي هو ممارسة لطقوس القتل مرتين: مرةً قتل الدين بالسياسة، وأخرى قتل السياسة بالدين.
صحيح أنّ القرآن، كأي نص ديني آخر، هو حمّال أوجه، يحتمل قراءاتٍ وتفاسير متعددة، كما أكده الكثير من أقطاب الدين الإسلامي وعلماء التفسير، ولكنه لا يمكن أن يكون “سوبرماركت” تحت الطلب، يتيح لأيٍّ كان أن يجد فيه ما يشاء، ليكون صالحاً في أيّ مكان وأي زمانٍ يشاء، على حد تشبيه المفكر الإسلامي المصري حسن حنفي، خلال ندوةٍ له عقدت في مكتبة الإسكندرية أواخر آب 2006.