ليس للسوريين الا الغضب
هوشنك بروكا
هل لأن الغضب لا يحتملهم، أو هم ما عادوا يحتملونه؟
هل لأن الغضب خروج فوق عادي، على سكينةٍ تعوّدوا وتطبعوا عليها، منذ حوالي نصف قرنٍ من الزمان؟
هل لأن غضب النظام يفوق غضبهم ويكبره؟
والهلات تطول..
ولكن إلى جانب هذه “الهلات” وغيرها الكثير، وبغض النظر عن قيام الغضب السوري، أو قعوده؛ حضوره أو غيابه، وجوده أو عدمه، هناك سؤال آخر يفرض نفسه بإلحاح، وهو:
هل بقي للسوريين غير الغضب؟
ماذا تبقى للسوريين أصلاً، خلا الغضب؟
ماذا يمكن للسوريين أن يرتكبوه، سوى الغضب؟
الغضب، في الشارع السوري، الآن أو بعده، كشوراع آخرى سبقته، ليس خياراً، وإنما هو قدرٌ لا بدّ منه، سيقع عاجلاً أو آجلاً.
ما تعيشه الشوارع الآن في الشرق الأوسط من غضبٍ ليس فعلاً، وإنما هو رد فعل.
الشعوب لا تختار الغضب لأجل الغضب، ولا تصير إلى غضبٍ من لاشيء، وإنما تُداس بالغضب حتى تنفجر بالغضب، وتُزج في الغضب حتى إسقاط الغضب: إسقاط أنظمة الغضب، ودول الغضب، وحكومات ومخابرات ومؤسسات وأجهزة طاغوت الغضب.
فهل بقي للسوريين إلا الغضب، في دولةٍ لا تصنع لشعبها سوى معتقلات وسجون وقوانين وفروع أمن الغضب؟
ماذا تبقّى للسوريين، في دولةٍ بوليسيةٍ، كلّ الطرق إليها، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الغضب؟
كلّ شيءٍ فيها، بات غضباً: السياسة غضب، والإجتماع غضب، والإقتصاد غضب، والثقافة غضب، والطائفة غضب؟
فماذا يمكن أن نتوقع من شعبٍ، يعيش الغضب ويسكنه منذ عقودٍ، إلا الهروب المليوني إلى الغضب؟
لا مفر إذن من الغضب…فالغضب بالغضب يفلح، كما تقول شعوب الشوارع الآن.. أو ربما لأن الغضب لن يمحيه سوى الغضب.
كلّ شيءٍ في سورية، بات وراءً وخلفاً ورجوعاً.
السياسة رجوعٌ، والإقتصاد رجوع، والثقافة رجوع، والإجتماع رجوع، والقيام والقعود رجوع، والحاضر والمستقبل رجوع..
الإقتصاد السوري، الذي يعيش منذ أكثر من أربعين سنةٍ، ركوداً وراء ركود، بات في الحضيض، فلا زراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا هم يحزنون.
تخطيط فاشل بإمتياز، وخطط خمسية ميتة، نائمة في الأدراج، وخارجة على كل العقل، وكلّ التخطيط.
حسب تقريرٍ مفصّل نشرته صحيفة النيويورك تايمز نهاية العام الماضي، أن “سلة غذاء سوريا أصبحت صحراء وسوء التخطيط دفن قرىً في الرمال”.
فسكان المنطقة الشمالية الشرقية، مثلاً قد فقدوا حوالي 85% من مواشيهم، أي أن حوالي 1.3 مليون قد تأثروا بهذه المشكلة في الأقل”، بحسب ما جاء في التقرير.
ويشير التقرير نفسه إلى أن التخطيط الفاشل كان السبب الأساس في تفاقم المشكلة، وأن سوريا قد صرفت خلال تاريخ من الفشل الإقتصادي الممتاز، “أكثر من 15 بليون دولار على مشاريع ري فاشلة لم تحقق أية نتائج تذكر. أربع سنوات من الجفاف رمت بحوالي مليونين إلى ثلاثة ملايين في براثن الفقر المدقع”.
هذا عن إنهيار الزارعة، في بلدٍ يعتبر القطاع الزراعي فيه، من أهم القطاعات الإنتاجية التي من المفترض بها أن يقوم عليها الإقتصاد السوري، ويعتمد عليه بشكلٍ أساس، فما بالك بالقطاعات الأخرى، التي لا تقل عن القطاع الزراعي فشلاً وانهياراً وتدهوراً.
تقارير سابقة للأمم المتحدة، تشير إلى أن “معدل النمو الإقتصادي في سوريا قد تراجع من 8.2% سنوياً في النصف الثاني من التسعينيات إلى 3.6%، ثم تراجع إلى 3.5% عام 1999 ووصل إلى 3.1 عام 2002”.
بحسب تقريرٍ حديث، نشره مركز التواصل والأبحاث الإستراتيجية، في 21.01.11، “أنه لا يوجد في تاريخ سورية معدلات نمو مضطردة، بل هناك انخفاضات وتزايدات حادة لا توحي بأي استقرار اقتصادي، منذ عام 1961 وحتى 2006، حيث تتراوح معدلات التنمية مابين –10% (معدلات نمو سالبة كارثية) إلى معدلات تنمية وصلت إلى 25%، والسبب في الغالب يعود إلى ارتفاع وانخفاض أسعار المواد الأولية سواء أكان النفط أو القطن أو غيره، هذا فضلاً عن المناخ السياسي والعسكري والأمني الذي عاشته وتعيشه سورية منذ خمسة عقود”.
وبحسب التقرير نفسه “أن هناك جهوداً حثيثة للنهوض بالواقع الاقتصادي السوري، وخاصة في المجال التشريعيّ، يصطدم معظمها بجسد تنفيذي مهترئ، وحقيقة الأمر أن الواقع لا يدعو للتفاؤل الكبير، فمعدل النمو الاقتصادي السوري عام 2005 بلغ 2.5% بينما كان التضخم 7.2%، وأما عام 2006 فقد كان معدل النمو الاقتصادي 3.2% ومعدل التضخم 5.6% (تقرير 2006 للمنظمة العربية للصناعة والتعدين)، وأما تقرير التنافسية العالمية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2007 يذكر أن معدل التضخم لعامي 2006-2007 بلغ 10%! وأما عام 2008 فقد وصل معدل التنمية 5% بينما وصل التضخم إلى 17-20% (حسب صندوق النقد الدولي 2009)”
تحتل سوريا حالياً المرتبة ال28، في قائمة الدول ذات معدلات النمو السكاني العالية في العالم، إذ يزيد سكان سوريا البالغ تعداده حوالي 22.5 مليون نسمة، بمعدل 2.52 سنوياً، مقابل نمو إقتصادي ضعيف جداً، يتراوح ما بين 4 إلى 6% في أحسن الأحوال، ما يخلق معدلات مرتفعة في نسبة البطالة والفقر والجريمة في البلاد.
النتيجة الطبيعية لهذا الإنهيار الإقتصادي، هو ارتفاع معدلات البطالة في عموم البلاد، بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وصلت نسبة العاطلين عن العمل في سوريا بين الشباب ممن هم دون سن الثلاثين، حسب تقريرٍ للإذاعة الوطنية الأميركية إلى 48%.
أما طبقاً لإحصائيات رسمية، فقد وصلت نسبة البطالة في سوريا خلال منتصف 2010 إلى 8.4%، إلا أنّ المعدلات الحقيقية للبطالة أعلى من ذلك بكثير.
فعلى سبيل المثال أظهرت تصريحات متناقضة حول البطالة لعام 2009، فارقاً بنسبة 47.5% بين إحصائيات مكتب الإحصاء المركزي، ودراسة ميدانية قامت بها الهيئة السورية لشئون الأسرة المتعلقة بالبطالة، طبقاً لتقارير نشرتها بعض الصحف.
مع ارتفاع معدلات البطالة، ارتفعت معدلات الفقر في السنوات الأخيرة بصورة مرعبة.
بحسب إحصائيات رسمية سورية سابقة، ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الوطني الأعلى(أي الذين يقل دخلهم اليومي عن 3.81 دولاراً بتعادل القوة الشرائية لعام 2005) من 30.1% عام 2004 إلى 33.6 عام 2007، علماً أن نسبة من يعيشون في العالم العربي تحت خط الفقر، بحسب تقارير سابقة للأمم المتحدة، تتراوح بين 34 و 38% من إجمالي السكان.
وفوق كل هذا الفقر الذي ينهش في أكثر من ثلث جسد المجتمع السوري، بدلاً من أن يقدم النظام على خطوات جدية لمعالجة أسبابها، يسعى جاهداً على العكس تماماً من ذلك، إلى تكريسها عبر سنه ل”مراسيم كارثية”، وذلك لدفع المجتمع السوري إلى المزيد من الفقر والعوز والحاجة.
صدور ما يسمى بالمرسوم رقم 49 لعام 2008، الذي سلّط كالسيف على قوت أهل “المناطق الحدودية”(الأكراد بالدرجة الأولى)، يشكل مثالاً حياً ومستمراً، على سياسة النظام الكارثية الممارسة بحق شعبه، بكل شرائحه، عرباً وأكراداً، مسلمين ومسيحيين ودروز واسماعليين وإيزيديين..إلخ.
المرسوم “السيء الذكر”، حسب تعبير الملايين الكردية السورية المتضررة منه، “يمنع إنشاء أو نقل أو تعديل أو اكتساب أو حق عيني على عقار كائن في منطقة حدودية إلا بترخيص أمني مسبق، سواء كان العقار مبنياً أم غير مبني، واقعاً ضمن المخططات التنظيمية أم خارجها”.
والمعروف هو، أن المناطق الكردية هي مناطق زراعية، والزراعة وتجارة العقارات وما حولها من نشاط تجاري محدود، هو المورد الأساسي للشعب هناك.
ترك هذا المرسوم بحسب منظمات حقوقية سورية(مثل داد وماف ومنظمات حقوقية أخرى) آثاراً كارثية في المنطقة: شلل اقتصادي كامل، هروب أصحاب رؤوس الأموال من الإستثمار، هجرة الأيدي العاملة، تدهور حال أصحاب عشرات المهن والحرف، تشريد عوائل كثيرة لا حصر لها، إلى المدن الكبيرة، مثل دمشق وحلب، انتشار الفقر والبطالة والجوع وأمراض اجتماعية أخرى بشكل مخيف، كتعاطي المخدارات والجريمة وأعمال السرقة والنصب والإحتيال..إلخ.
هناك مصادر تتحدث عن هجرة مئات الآلاف(منذ 2008) من مناطقها الحدودية الواقعة تحت نقمة هذا المرسوم المشئوم، إلى المدن الكبيرة، لتأمين لقمة عيشها.
منذ تولي الديكتاتور الراحل الأسد الأول سدة الحكم في 16 نوفمبر 1970، وسوريا تعيش حالةً من المنع والقمع الأكيدين، لكل من لا يتفق مع وجهة نظر النظام ولا يخدمه: سياسة معارضة ممنوعة، حقوق ممنوعة، رأي آخر ممنوع، إعلام حر ممنوع، و “لاءات” ممنوعة.
لا شيء يرفع رأسه في سوريا سوى المنع والقمع، والإقصاء والتهميش، وارهاب الدولة المنظم، والفساد وقانون الطورائ، ومحاكم التفتيش المختصة ب”أمن الدولة”، وسجونه ومعتقلاته.
الفروع الأمنية(أمن الدولة، والأمن السياسي، والأمن العسكري، والأمن الجوي، وأمن حفظ النظام، وأمن الرئيس، و…)، كلّ هذه الفروع، إلى جانب فروع أخرى “خاصة جداً”، تشتغل ليلاً نهاراً، للسهر على أمنٍ واحد ووحيد: أمن الديكتاتور، أولاً وآخرا.ً
لا شيء في “سوريا الأسد”، كما يروق للديكتاتور، هكذا، أن يسميها ويسجلها ك”مزرعة خاصة” بإسمه، ويختمها بختمه “الأحمر”، إلا الخراب: خراب سياسي وإقتصادي وثقافي واجتماعي وأخلاقي..خرابٌ في كل حدبٍ وصوب.. خراب في كل ناحيةٍ وجهة..خرابٌ كثير كبير يمتد من أقصى سوريا إلى أقصاها.
هذا غيضٌ من فيض حال سوريا، منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان الديكتاتوري الصعب.
منذ أن اختزل الديكتاتور الوطن في صورته، وإرادة الشعب في إرادته، وسوريا تتدهور سياسةً واقتصاداً واجتماعاً وثقافةً، من سيءٍ إلى أسوأ.
إزاء خرابٍ سوريٍّ، كهذا، لم يبقَ للسوريين إلا الغضب: الغضب على أكثر من أربعة عقودٍ من الغصب؛ الغضب على غضبٍ منظّم يمارس على الشعب، منذ أكثر من أربعين عاماً من الخراب.
ليس للسوريين، إذن، بكل قومياتهم وطوائفهم وشرائحهم وأطيافهم، إلا أن يغضبوا كشعبٍ واحدٍ في غضبٍ واحد؛ كشعب واحد لغضب واحد ضد ديكتاتورٍ واحد.
ليس للسوريين، بعد أكثر من أربعين عاماً، من الغياب والتغييب في سوريا، إلا أن يحضروا فيها بقوة، غاضبين وغاضبين وغاضبين، ضد الحكام الغاصبين.
ليس للسوريين إلا الغضب على الغضب:
الغضب الشعبي الكثير على الغضب الديكتاتوري الواحد؛
الغضب في سوريا؛
الغضب بسوريا؛
الغضب من سوريا إلى سوريا؛
الغضب لسوريا؛
الغضب حتى سوريا:
سوريا من الكل إلى الكل.
ايلاف