في العلمانية وأشياء اخرى
منذر خدام
في البدء كان الوجود مختلفا، فالاختلاف هو السمة الأكثر جوهرية وموضوعية للوجود. الوجود لا يكون إلا مختلفا، لذلك فهو لا يُسأل عن سبب اختلافه. في الحقل البشري الاختلاف موجود في الخَلق والخُلق، في القدرات والطموحات، في الوقائع والنظرات، في التفرد والاجتماع…..
الاختلاف بهذا المعنى هو الحقيقة الكبرى، هو الحق بذاته، هو الحياة ونداؤها، هو مولد الحركة، هو الباعث على التقدم والتطور، هو الوجود وتاريخه…..
الوجود كما ذكرنا لا يكون إلا مختلفا، أي مميزا في حدود اختلافه، هذه هي حقيقته بذاته. وإذ ينعكس هذا الوجود في الذهن فإنه يفقد الكثير من تفاصيل تميزه، يجرده الذهن منها، يختزله في مفاهيم معينة تشكل ألعابه. وإذ يلعب الذهن بالواقع من خلال ما ينتجه عنه من مفاهيم، فهو يسعى دائما للاقتراب من حقيقته بذاته أكثر فأكثر، لكنه سرعان ما يكتشف أنه لا يزال بعيدا عنها، إنها لعبة التوهم الدائم الذي تبقيه حيا نشيطا وفاعلا.
في حقل الفكر حيث يلعب الذهن ويلهو بلعب من صنعه أسماها مفاهيماً، يروقه كثيرا بعد كل لعب أن يعيد ترتيب مفاهيمه في أزواج متقابلة يتوهم أنها متعاكسة أو متضادة، مع أنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من تعدد في الأسماء لمسمى واحد. مثلا الحركة والسكون، السالب والموجب، الاختلاف والتماثل….. وإذا كان بعض الوهم يقتل ويميت، فإن بعضا منه آخر يولد الحياة، وفي كلتا الحالتين فهو ضروري للوجود، كضرورة الموت للحياة، والخطأ للصواب، والسالب للموجب. مثلا إن القول بتماثل البشر والعمل في سبيل توحيدهم على قاعدة التماثل هو وهم خالص، إنه في حقيقة الأمر دعوة إلى الموت وقتل للحياة. أما القول بأن البشر متشابهين فهو وهم أيضا، لكنه من الناحية الإجرائية يبدو غنياَ بالحقيقة المجردة. وبغض النظر عن حمولة مفهوم الوهم من الحقيقة، فإنه ما إن يستقر في الوعي حتى يولد سلوكا مطابقا يعبر عنه.
في الحقل الاجتماعي الاختلاف ضروري كما ذكرنا للحركة فيه، للتقدم والتطور. غير أن ضبط هذه الحركة لا يكون إلا بالإكراه والغلبة. فالإكراه هو القانون الاجتماعي الأعم لضبط العلاقات التفاعلية( الصراعية) بين المختلفات. في سياق التاريخ اخذ الإكراه أشكالا عديدة ومختلفة، وهو يأخذها في الوقت الراهن أيضاً. فالنظم الاجتماعية المختلفة عبر التاريخ بما فيها من تنظيمات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وتشريعية وعصبيات مختلفة ليست سوى أشكال لضبط الإكراه بحيث يصبح أكثر رفقاً.
في الوقت الراهن يبدو أن النظام العلماني الديمقراطي هو أكثر الأشكال رفقا في ضبط حركة الأفراد والفئات والطبقات ومختلف الجماعات في سياق سعيها لتأكيد وتعيين تميزها، أي للدفاع عن مصالحها. ويكون كذلك في تأسيسه على منظومة من المفاهيم التي تحاول رفعه وإسناد بنيانه وضبط صراعاته وتسريع الحركة فيه باتجاه مزيد من التقدم والتطور، مثل مفهوم الاختلاف، ومفهوم الحرية، ومفهوم التسامح، ومفهوم الحوار ومفهوم العصبية…. وإذ نذكر بالإشكاليات التي تثيرها هذه المفاهيم سواء في الحقل النظري أو في الحقل السياسي خصوصا في مجتمعنا نود أن نلفت الانتباه إلى حاجة هذه المفاهيم لكي تتعين في الواقع إلى منظومة متكاملة من الدعم والإسناد، أي إلى مؤسسات ومعايير وحدود….. وإذ تقيم أو تشيد المفاهيم(أو الأفكار والنظريات) منظومتها تكون قد تخلت عن شيء من ذاتها، هكذا هي طبيعتها، فهي في تعينها الواقعي غيرها في تعينها النظري.
في ضوء ما تقدم يختلف تعين النظام العلماني الديمقراطي من بلد إلى آخر باختلاف تعين محدداته المفهومية في الواقع المعني. فهو في أمريكا غيره في فرنسا، وفي ألمانيا غيره في الهند..وبالتأكيد سوف يأخذ تعيينا مختلفا إلى هذه الدرجة أو تلك في هذا البلد العربي أو ذاك. والسبب في ذلك تسهل إحالته، في الغالب الأعم، إلى اختلاف مستويات التطور بصورة عامة، وفي ذلك محايثة للحقيقة لا مجانبة. لكن التنقيب أبعد من ذلك، يسمح لنا باكتشاف تعينات أخرى للسبب تتجاوز القول العام فيه. هنا علينا أن ننظر في الكيفية التي تتعين فيها المختلفات بعضها تجاه البعض الأخر، وتأصيل ذلك على مستوى الوعي، أي في الثقافة. فعندما تتحدد المختلفات بعضها تجاه البعض الآخر على قاعدة القبول المتبادل يصبح تأسيس النظام العلماني ومن ثم الديمقراطي ممكنا، أما عندما تتحدد المختلفات بعضها تجاه البعض الآخر على قاعدة النفي المتبادل، يستحيل تأسيس العلمانية ولا الديمقراطية. في كلتا الحالتين ثمة اعتراف بالاختلاف والتمايز، لكن فقط في الحالة الأولى يتجاوز الاعتراف بوجود الاختلاف والتمايز إلى الإقرار بالحق فيه. في النظام العلماني أنت مختلف ولك الحق في أن تكون مختلفا، وان تدافع عن حقك في الاختلاف. في النظام غير العلماني أنت مختلف، لكن ليس لك الحق في الاختلاف، ولا في الدفاع عن حقك في أن تكون مختلفاً.
يقودنا التحديد السابق لمفهوم الاختلاف والحق فيه إلى إعادة النظر في الفهم السائد لمفهوم العلمانية. فالعلمانية التي وصلتنا، بدلالتها التاريخية، تتحدد بالعلاقة مع الدين، ولذلك سهل تعيينها بفصل الدين عن الدولة وعن المدرسة. فالدولة الدينية لا تقبل بالحق بالاختلاف، ولا تسمح لك بالدفاع عن حقك بأن تكون مختلفاً، هكذا هي في جوهرها وفي تعيينها التاريخي. لكن ثمة دول غير دينية، بل دنيوية، ولا تقر أيضا بالحق في الاختلاف، ولا بالحق بالدفاع عنه، فلا يجوز والحالة هذه توصيفها بالعلمانية. الجامع بين أنماط الدول هذه الديني منها وغير الديني، من دول ودويلات باباوات القرون الوسطى، ورسل الأديان السماوية والأرضية ووكلائهم على امتداد الزمن، من ستالين إلى هتلر وموسوليني إلى كل دكتاتور ومستبد هو أنها جميعها لا تقبل بالحق بالاختلاف، ولا في الحق في الدفاع عنه. وهي لا تقبل بالحق بالاختلاف، ولا في الحق بالدفاع عنه، ببساطة لأنها تزعم امتلاك الحقيقة كاملة، الأمر الذي يقود موضوعيا إلى تقديس هذا الحق، ولا فرق في أن يكون التقديس ميتافيزيقيا أو وضعيا، فالمقدس هو هو لأنه يجوهر الفكر، يتعالى به، يحوله إلى عقيدة. فالعقائد جميعها الديني منها وغير الديني لا تكون كذلك إلا بتعاليها عن الواقع، إلا بعبورها للزمان وتحررها منه في الوقت ذاته، وبالتالي رفضها التعين بدلالة الواقع، بل تعين الواقع بدلالتها.
باختصار وتكثيف العلمانية ليست هي تلك التي تتعين سلبا بدلالة الدين، بل بدلالة المقدس، سواء أكان دينيا أو وضعياً لا فرق، أي بدلالة رفض الاختلاف والحق فيه، والحق في الدفاع عنه، أو هي تلك التي تتحدد إيجابا بدلالة الإقرار بالاختلاف والحق فيه والحق بالدفاع عنه. وعليه تسقط صفة العلمانية عن نظام ستالين مع أنه يقر بالإلحاد، وتسقط أيضا عن نظام هتلر مع أنه يقر بالدين، وتسقط أيضا عن كل نظام دكتاتوري أو استبدادي مهما كان موقفه من الدين، لمجرد أنه لا يقر بالحق بالاختلاف ولا بالحق في الدفاع عنه، أي لكونه يزعم امتلاك الحقيقة كاملة، ويعايرها في الواقع بدلالته اتفاقا.
وإذا كانت العلمانية بالمعنى الذي ذهبنا إليه تقوم على ثلاثة دعائم أساسية هي: الإقرار بالاختلاف، والإقرار بالحق فيه، والإقرار بالحق في الدفاع عن الوجود المختلف، فإن مفهوم التسامح بدلالته النظرية، يقبض على الدعامتين الأخيرتين، أي على الإقرار بالحق بالاختلاف، وبالحق بالدفاع عنه. فالمسامحة هي الموافقة في الوجود والمساهلة فيه. وحتى في الاستخدام الديني للمصطلح، توجهت دلالته نحو الإقرار بوجود المختلف الديني، والقبول بالتعامل معه على هذا الأساس. ويكون التسامح بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والعصبيات المختلفة وهو الأهم.
من جهة أخرى ينبغي الاعتراف بأن الاستخدام اليومي والسطحي لمفهوم التسامح راكم فوقه شبورة كثيفة من عدم الفهم لدلالته اللغوية والاصطلاحية، وأصبح بالتالي يستخدم في غير مجاله وبغير دلالته. فالمسامحة والتسامح ليستا تعبيراً عن علاقة بين طرفين أحدهما قوي وغالب، والآخر ضعيف وخاضع، يتجاوز فيها الطرف الأول عن سلوك ومواقف الطرف الثاني لخروجها عن مخطط الطرف الأول، بل هي موافقة وإقرار بالحق في الاختلاف.
في الحقل الاجتماعي والسياسي ينتظم الناس عادة في جماعات على أساس رابطة العصبية، فيشكلون مختلف أنواع الأخويات والطوائف والنقابات والأحزاب وغيرها للدفاع عن مصالح معينة مختلفة، أو لتأكيد تمايز أفكار وعقائد معينة، أو لتحقيق طموحات مشتركة….. فالعصبية هنا ليست أكثر من رابط اجتماعي أو سياسي أو فكري تجمع حولها المتشابهين، فتكون هي رابطة التشابه بين المختلفين. بهذا المعنى فإن العصبية ضرورية في الاجتماع البشري، لا يكون إلا بها.
من الناحية التاريخية، وكذلك من ناحية الممكن النظري، يتولد عن العصبية أثران متعاكسان في نتائجهما الاجتماعية هما: التعصب والتسامح. فالتعصب لا يقر بالحق بالاختلاف وإن كان يقر بوجود المختلف، في حين التسامح على العكس من ذلك فهو يقر بالحق في الاختلاف وبالحق بالدفاع عنه. حقائق التعصب تكون دائما كاملة، وبالتالي مقدسة، ولذلك يقود التعصب إلى العنف، أما حقائق التسامح فهي دائما نسبية، ولذلك فهو يقود إلى الحوار.
الحوار في دلالته اللغوية ينبني على ممكنات التعديل أو التصويب أو التنازل عن حدود العصبية، لتشكيل عصبية جديدة تشكل حقائقها النسبية الجديدة. بل يتجاوز ذلك إلى إمكانية دمج العصبيات، أو اتحادها، أو التنسيق بينها وتشكيل عصبيات جديدة، في حين يستحيل ذلك في حالة التعصب. من هنا فإن القول بالحوار بين الأديان هو قول خاطئ في حدود المقدس الديني، أي في حدود العقيدة، كذلك هو مجانب للصواب في حدود المقدسات الوضعية المختلفة، كما في حال العقائد الشمولية. أما خارج المقدس الديني أو الوضعي، أي في الحقل السياسي بما هو حقل لتحقيق وتعيين المصالح الدنيوية، فالحوار كما الصراع كما التنافس فهي جميعها ممكنة، بل ضرورية للحراك الاجتماعي.
عند هذا المستوى من التحليل نرى ضرورة تحديد الموقف النظري والسياسي من مسألة دور المقدس الديني والعصبيات الدينية المختلفة في الحراك السياسي وفي الحياة السياسية بصورة عامة. يلح على ذلك بصورة خاصة كون مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات ذات طابع ديني، يلعب الدين دورا حاسما في تحديد هويتها وثقافتها.
من الناحية النظرية، ومن وجهة نظر العلمانية فإن الإجازة حاصلة مبدئيا، بمعنى أن من حق العصبيات الدينية على اختلافها ممارسة السياسة، بما هي دفاع عن مصالح العصبية، أو عن المصالح الوطنية منظور إليها من موقع العصبية المعنية، أو تحقيق للرؤى السياسية للعصبية في مختلف المجالات. لكن السياسة التي تجيزها العلمانية هي السياسة الخالية من المقدس تأسيسا أو تكوينا أو مآلاً. وينطبق هذا الموقف حتى على المقدسات الوضعية. بكلام آخر العلمانية تتطلب نزع المقدس من السياسة وليس السياسة من المقدس.
من الناحية السياسية، ومن وجهة نظر النظام العلماني المتعين واقعياً، فالإجازة ليست حاصلة مبدئياً، بل في ضوء مدى اغتناء المقدس بالسياسة، أو تحرر السياسة من المقدس. فامتلاء السياسة بالمقدس سوف يؤدي حتما إلى التعصب، والتعصب سوف يؤدي لا محالة إلى العنف عاجلا أو آجلاً. هذا يبرر للأنظمة العلمانية(كما هو حاصل في أوربا مثلا) إصدار تشريعات تمنع بموجبها الحركات والأحزاب العنصرية من النشاط السياسي مع أن مقدسها هو وضعي، وفي الوقت ذاته يجيز النظام العلماني في تركيا مزاولة الأحزاب الدينية السياسة لأنها تمارسها فقيرة بالمقدس الديني وغنية بالتسامح. في هذا المجال تلعب موازين القوى السياسية والاجتماعية، ومستوى التطور العام، وطبيعة المشكلات التي تواجه المجتمع دورا حاسما في تقرير ذلك.
في البلدان العربية ولأسباب عديدة من بينها ضعف المكونات العلمانية في المجتمعات العربية في الوقت الراهن، اليساري منها والليبرالي، وتعقيد المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا العربية، ومستوى التطور العام المنخفض، والتحديات الخارجية الكثيرة، وهشاشة بناء الدولة القطرية، لعبت جميعها أدوارا متباينة في دفع المقدس إلى السياسة، وجعلت العصبيات الدينية المختلفة تملأ واجهة العمل السياسي، رافعة شعار ” الإسلام هو الحل”. والإسلام هنا ليس واحدا، بل متعددا بتعدد الطوائف والمذاهب. وهي في وضعيتها هذه لا تختلف عما سبقها من عصبيات قومية أو ماركسية متعصبة، التي ما إن وصلت إلى الحكم حتى انغلقت على السلطة، مقدمة نماذج في الحكم استبدادية بامتياز، تزرع المشكلات وتستنبتها في جميع مناحي الحياة.
إن ما تعانيه مجتمعاتنا العربية في الوقت الراهن من انحباس التطور والتقدم، وانتشار الفساد وتحوله إلى أسلوب في الإدارة المجتمعية والحكم، وتفاقم المشكلات وتكاثرها على مختلف المستويات الوطنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، المسؤول عن كل ذلك هو الأنظمة الاستبدادية العربية. هذا ليس حكم قيمة بل خلاصة تحليل، كرسنا جهدا ووقتا كبيرين للتأمل فيه.
العلمانية: الاختلاف، التسامح، الحوار..تحتاج جميعها إلى مناخ ملائم كي تعبر عن ذاتها، كي تحقق ذاتها، فكانت الحرية. الحرية هي البيئة المناسبة لفعل الاختلاف والحق فيه والحق في الدفاع عنه، ففي فضاءاتها يتفاعل الأفراد ومختلف العصبيات وتنسج علاقاتها المختلفة وهي تتصارع لتحقيق مصالحها، وتأكيد اختلافها وتعينه. وفي سياق هذه العملية التفاعلية المعقدة التي تأخذ سمة الصراع، في الغالب الأعم، تتحقق مختلف المساومات التاريخية، ويندفع التطور متسارعا، ويتحقق التقدم. فالتطور لا يتحقق إلا كحصيلة عامة لتفاعل مختلف القوى الاجتماعية، وبقدر ما يكون المناخ الذي تتفاعل فيه هذه القوى مشبعا بالحرية يكون التقدم أعظميا وبأثمان اجتماعية أقل.
في مناخ الحرية يطرح السؤال التالي: هل الحرية أن تفعل ما تريد أو أن تفعل ما ينبغي؟ من الناحية النظرية الجواب هو أن تفعل ما تريد، لأن وعي الحرية يؤدي إلى ضبط ممارستها بالمسؤولية، ومن خلال ممارسة الحرية المسؤولة تتعين خطوط التماس مع حرية الآخرين التي بدورها تعين نطاق ممارسة الحرية. يعبر عن هذه الفكرة القول الشائع: تنتهي حريتك عند حدود حرية الآخرين.
في سياق ممارسة الأفراد والجماعات ومختلف العصبيات الاجتماعية والسياسية والثقافية للحرية في إطار الكل الاجتماعي، يتم التواضع على معايير معينة لضبط الحرية، تشكل بحد ذاتها موضوعا للرقابة الاجتماعية والقانونية والقضائية… في إطار هذه الضوابط والمعايير تتحدد الأوامر والنواهي، أي ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله. بكلام آخر فإن ال “ما ينبغي” فعله هنا يحدده الكل الاجتماعي من خلال صراع وتنافس وحوار وحداته المكونة ودخولها في مساومات تاريخية تحدد طبيعتها موازين القوى الاجتماعية السائدة. بهذا المعنى يتطابق المعنيان السابقان للحرية.
من جهة أخرى وفي جميع الأنظمة الاستبدادية والشمولية والعقائد الكاملة تتعين حدود أل”ماينبغي” من قبل عصبية اجتماعية آو سياسية متعصبة، تحاول فرض منظومتها الفكرية والقيمية ورؤاها على ما عداها من عصبيات، بحكم موقعا المتسلط أو المهيمن في الكل الاجتماعي، وخصوصا عندما تكون مغتصبة لهذا الموقع. في هذه الحالة فإن حدود الحرية المعينة بهذه الطريقة هي حدود للعنف ونفي الآخر المختلف. وأكثر من ذلك هنا لا يحقق المجتمع حراكه العام على شكل مساومات تاريخية، تحدد اتجاهه وسرعته موازين القوى الاجتماعية المتحققة من خلال الصراع السلمي، لآن هكذا مجتمع يفتقر إلى مناخ الحرية.هنا العصبية المتسلطة هي التي تحدد الحراك العام الاجتماعي واتجاهه وسرعته في ضوء تعصبها المنطوي على مصالح ضيقة، في الغالب الأعم. هكذا مجتمعات تكون مأزومة دائما، تتناسل فيها الأزمات، تعيق تقدمها على طريق التطور. ويستمر الوضع كذلك حتى تسقط الصراعات العنيفة المعتملة في داخل المجتمع بين عصبياته المختلفة، العصبية المتعصبة من موقع الهيمنة أو السلطة، وإذ تسقطها فإنها تفتح مسارا جديداً للحراك الاجتماعي.
في المستوى السياسي تحتاج العصبيات المختلفة وكذلك الأفراد إلى تعيين حدود اختلافها وتأكيده إلى أوالية معينة تسمح لها بذلك فكانت الديمقراطية. الديمقراطية بهذا المعنى فهي الأوالية العامة لظهور المختلفات في الحقل السياسي، وضبط صراعها بصورة سلمية وقانونية. الديمقراطية هي نظام في المصالح يتيح فرصا متساوية من الناحية القانونية لجميع أفراد وفئات وطبقات المجتمع، وما يعبر عنها من أحزاب وتنظيمات سياسية، أن تتصارع فيما بينها، وان تحسم نتيجة صراعاتها عبر صناديق الاقتراع من أجل الوصول إلى السلطة. شرعية السلطة في النظام الديمقراطي تأتي من صناديق الاقتراع، وهي شرعية تحتاج بصورة دورية إلى إعادة تأكيدها عبر صناديق الاقتراع أيضاً.
نخلص في نهاية هذا التحليل إلى القول بأن العلمانية بالمعنى الذي حددناه غير ممكنة في الوقت الراهن بدون الديمقراطية ، كما إن الديمقراطية غير ممكنة بدون العلمانية.
بقي أن نشير إلى أن الديمقراطية العلمانية ليست معطى ناجزا ونهائيا، بل تصير، وبالتالي فليس من ديمقراطية علمانية معيارية تصلح بصورة واحدة لكل المجتمعات بغض النظر عن مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي..الخ. مع ذلك ثمة معايير لاختبار مدى نضج الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك، تتعلق أساسا بمدى مراعاتها لحقوق الإنسان كما نصت عليها الشرعة الدولية المعنية، وبمدى مشاركة الناس في الحياة العامة من أجل الدفاع عن حقهم في الاختلاف.