صفحات ثقافية

مذكرات موظفة سعودية

null
فاطمة الفقيه
سحر فكرة جهنمية
أقنعت المديرة صديقة لها إسمها سحر أن تتدرب في المختبر وتنوب عنها في إدارة القسم أثناء غيابها فكانت بهذه الفكرة كمن وضع إصبعه في عينه.
سحر شابة لعوب جميلة. كانت تحب أن تأخذ دور ماريلين مونرو  فهي تمارس لعبة الإغراء مع جميع الرجال، لا فرق بين مدير أو فراش، وتستمتع كثيراً برؤيتهم وقد فتحوا أعينهم سارحين في جمالها وفتنتها. كانت حركاتها وسكناتها وضحكاتها كلها ذات مغزى مثير، وهذا ليس رأيي، بل رأي الجميع، ونتيجة لسلوكها غير المحتشم هذا، فقد انقسم رجال الإدارة فسطاطين، ما بين الناقد والمشجع لها، لكن الفسطاطين أخيراً اتفقا على أنها حلوة جدا، ومهضومة وتستأهل الوقت الذي يضيع لأجل عينها.
وهي ليست فقط جميلة، بل بنت رجل من أثرياء الحجاز. كان اسم عائلتها يرن في الشرق والغرب ولا حاجة لها بالوظيفة، فقد كانت ترتدي قطع المجوهرات بقيمة ثلاثة رواتب من رواتبي، ولكن الفراغ كان مشكلتها.
كانت بين سحر ورئيستي، ذلك النوع من الصداقة الذي يربط بعض بنات الطبقة الغنية حيث المظاهر هي عموده الفقري. تزوج والدها كثيراً، ولديها من الإخوة والأخوات ما لا يحصى، وأسرتها بصفة عامة مفككة، ومليئة بالكيد والخلافات المريرة وخصوصاً على المال. والدتها هي الأخرى كان لها دور مهم في عملنا، وهي امرأة جميلة مثل أبنتها، وتعاني من عقد عديدة، دائمة الصراخ والعصبية غير مستقرة نفسيا، ومتكبرة الى درجة تشبه نساء القصور في الأفلام القديمة، فهي تصر على أنها زوجة الثري فلان، وأنها ابنة الحسب والنسب، وأن الجميع لا بد أن ينصاع لصراخها وجبروتها، وقد عرفت كل هذا عن شخصية والدة سحر، لأنها هي الأخرى كان لها شأن في عملنا.
اقترحت ريهام على صديقتها الثرية أن تأتي للتدرب عندها في المختبر، علما بأنه لا يوجد “شغل” أصلا، فأحضرتها لتعرفها الى المدير كمتدربة، وكانت موقع ثقة في القسم في غياب المديرة، فهي على ثقة أنه مهما نجحت فلن يحق لها تولي المنصب، نظرا الى أنها ليست موظفة رسمية.
أما أنا فصرت شبه المسؤولة عن برنامج التثقيف الصحي لليوم العالمي لأحد الأمراض المعدية. كنت أعمل من الثامنة صباحا حتى السادسة مساء، من دون كلل؛ حيث أسند إليَّ عدد من المهام (سأتحدث عنها لاحقا) وكنت راضية عن عملي سوى بعض السلوكيات، والقرارات اللاأخلاقية التي كانت تحدث في الإدارة، والتي تجعل مَن لديه بعض الضمير يفقد راحة البال فيها.
كانت سحر المتدربة الجديدة بنتاً لطيفة وضحوكة استلطفناها أنا وصديقتي الطبيبة، وكثيرا ما شكّلنا ثلاثيا ضاحكا. كنا نخرج إلى المطاعم، بعد الدوام. نضحك ونعلّق على كل ما يحدث في العمل، وبالرغم من ظاهرها البسيط، إلا أنها كانت ذكية جدا، وصاحبة أجندة خفية تعمل عليها بهدوء، وقد أدركت أنا سريعاً أن هدفها الرئيسي هو قلب المدير، وهي تتصور أننا مقربون منه، فتحاول الوصول اليه من خلال صحبتنا، فلم نكن بالنسبة اليها سوى القنطرة التي تعتقد أنها ستمكنها من العبور إلى قلبه، ولم تعرف إلا في ما بعد أننا لا نعني له سوى موظفتين يسخّرنا للعمل ويسجل نتائج عملنا باسمه، فنحن بالنسبة اليه سبب حصوله على خطابات الشكر والتقدير. وبعد فترة من حضور سحر حصلت تغيرات جذرية في العمل، فبدأ المدير يتجاهل ريهام، ويركز اهتمامه على سحر التي نجحت في ترسيخ موقعها عنده، فتخلصت مني ومن صديقتي، فلم تعد تهتم بالخروج معنا بعد ذلك، كما لم تعد تشاركنا النكت، والنوادر، والأسرار؛ لأنها صارت مقربة منه. موقفها هذا لم يصدمني كثيرا فقد أدركت وصديقتي أننا مجرد وسيلة لتصل الى هدفها وتنافس صديقتها، ومن هذه الزاوية فقد نظرنا الى الموضوع برمته على أنه “فخار يكسر بعضه”، ولم يؤثر هذا الأمر علينا طالما أنه لا يزال يسند إلينا المهام التي نحبها من دون صداع.
شعرت ريهام بهذا التغيير، وحاولت أن تنهي تدريب سحر لكن هيهات، فقد توثقت علاقة سحر بالمدير وقضي الأمر. من هنا اختفينا نحن جميعا عن بقعة الضوء، ودخلت فيها ريهام وسحر، حيث بدأ مسلسل الكيديات المضحك بينهما، واستمر لفترة ليست بالقصيرة.
كانتا ترفضان الاجتماع مع المدير في الوقت نفسه، فما إن تخرج إحداهن حتى تدخل الثانية، لتحاول الحصول على قلبه والتأثير في قراراته، ودائماً ما تتصيد إحداهن أخطاء الأخرى، فكانت تعقد الاجتماعات بالساعات بينه وبين كل واحدة منهن على حدة، وبالطبع كان لسحر نصيب الأسد من ذلك، وفي الاجتماعات المشتركة تغيرت مواقع جلوسهما، فكانت سحر تجلس بكرسي على يمين المدير، بينما ريهام – بعدما كان ذلك هو موقعها – أصبحت تجلس مع عامة الشعب في مواجهة المدير!
ازدادت علاقة المدير بسحر وضوحا، فقد كان يمضي معها وقتا طويلاً مجتمعاُ بها يحدثها في كل شيء، فأصبحت مكانتها في قلبه واضحة وضوح الشمس.
حتى المهام التي كانت تسند الى ريهام أصبحت لسحر الأولوية فيها، فهي تحضر معه اجتماع وكيل صاحب المقام العالي (صديقه في وجبات الفول والتميس)، وهي التي تذهب معه الى اجتماع مديرية المدينة، وهي التي تعرف قراراته قبل الجميع، كما تتأخر معه حتى آخر الدوام، وكل ذلك ضرب ريهام في مقتل.
جعلتها الغيرة تتخبط في سلوكياتها، فكانت تتخاصم معه يوميا، وتتطاول عليه وعلى إدارته، مما أزّم العلاقة بينهما الى أقصى درجة، فقررت حينها أن تقرّبني إلى صفّها، فقد نسيت هي ما فعلته معي، والآن أصبحت أنا صديقتها المقرّبة، تدعوني الى مكتبها، وتشكو لي من خبث سحر ولؤمها، وكنت استمع اليها بالساعات، وأكتفي بأن استمع اليها حتى ترتاح وأخرج من دون تعليق، فعلاقتي بسحر لا تزال جيدة ولم أرَ منها – حتى ذلك الوقت- أي سوء، كما أنني كنت مشغولة كثيراً في المهام التي أسندها إليَّ الدكتور عطية.
المدير كذلك أصبح يناديني في مكتبه من فترة الى فترة ليعرف مني ما الذي تقوم به ريهام، وفي إحدى المرات استدعاني الى مكتبه، وشرع يحكي لي عن معاناته معها، وتصرفاتها غير المسؤولة، وكيف أنه صبر عليها ودعمها ضدنا، ولكنها ما شكرت صنيعه، وراح يقص لي كل ما كانت تقوله عني وعن صديقتي في المختبر، وكيف كان يرفض تصديقها، ويحاول حمايتنا منها ومن بطشها، وبعدما انتهى من الرسالة التحريضية سألني: ما رأيك في ما تقوم به ريهام من مشاكل خاصة مع سحر المسكينة؟ بسؤاله هذا كان يتصور أني سأقوم بالوشاية ضدها لما فعلته بي سابقا، متناسياً أنه كان يدها اليسرى، وأنا الآن لا أرغب بالانتقام من أحد، ولا أسمح لأحد بأن يضرب بي شخصا آخر، حتى لو كان هذا الشخص عدوي.
عملت نفسي “مش فاهمة شيء” وأجبته بطريقة الناصح الواعظ:
يا دكتور أنت تعرف أن ادارة مختبر طبي، وبالذات قسم الفيروسات، تتطلب أن يكون مديره يحمل شهادة بكالوريوس في تخصص طبي بالاضافة الى شهادة الدكتوراه في علم المختبرات وخبرة عدد من السنين، وكلاهما لا تحل حتى الشهادات الاساسية  المطلوب ولا حتى الخبرة العملية، لذا، لا بد على الأقل من إحضار استشاري في هذا التخصص، الموضوع ليس لعبة، الموضوع خطير وجاد، ولو أنا مكانك، لتجاهلت كل خلاف لا يخص العمل والعينات.
وكمان يا دكتور أنت ليه داخل بين خلافات هؤلاء النسوة؟! في رأيي انت المدير ولازم تكون محايدا يعني لازم تخرج بثوبك أبيض!
طبعا هو لم يعجبه كلامي فقال لي: أنت شايفه كذا؟ طيب خلاص… روحي الى مكتبك!
خرجت وأنا متعجبة لغياب الوعي.
استمر مسلسل الكيد بين المرأتين. كانت كل واحدة منهما تتعمد تخريب عمل الأخرى، حتى لو كان هذا العمل هو التلاعب بالمواد المستخدمة في التحاليل التي تؤثر على النتائج؛ ولأن سحر بنت غنية جدا ولا وقت لديها لعمل التحاليل، فقد كانت تعطي عيناتها الى مستشفى خاص لإنجازها، وطبعا تقدم نتائجها بكل فخر وثقة.
مستشفى بتكلفة صفر ريال
أثناء كل هذا الكيد حدثت تغيرات قلبت الموازين، منها أن المقام العالي قرر ضرورة إنشاء مستشفى متخصص لمرضى الأمراض المعدية لأنه لم يكن هناك مستشفى في هذا التخصص من قبل في مدينة جدة، وجاء هذا القرار مثل كل القرارات العشوائية التي تتخذ في ليلة وضحاها، من دون معرفة احتياج المدينة ووفرة العمالة ومدى جاهزية الموقع….الخ من التفصيلات الأخرى.
وقع الاختيار على موقع إدارتنا التي كانت محاطة بعدد من المباني القديمة الرديئة التصميم، والتي يقال إنها جددت حديثا بتكلفة خمسين مليون ريال على الرغم من أن المباني وعددها أربعة كلها بعدّتها وعتادها، قد لا تصل تكلفتها الى خمسة ملايين ريال، وكان كل مبنى عبارة عن دورين، كل دور مكوّن من غرف عدة على الجانبين، يفصل بينهما ممر ضيق، والمبنى بصفة عامة سيئ التهوية وصغير، ولا توجد فيه أي مواصفات مكافحة العدوى تجعله يليق بمستشفى أمراض معدية.
عرضت فكرة تأسيس مستشفى أمراض معدية في هذا المبنى على طبيب من الإدارة الأولية، وهي إدارة تابعة لمدير صحة المدينة، ترعرع فيها الفساد وصار هو العرف السائد. وافق الطبيب على تسلم المبنى مقابل خمسة ملايين لتجهيزه. رفض صاحب المقام العالي هذا الشرط فتقدم مديرنا عطية بعرضه أن يفتتح المستشفى بعدته وعتاده مقابل “صفر ريال”. تمت الموافقة عليه، وأصدر له قرار كمدير للمستشفى المزمع افتتاحه، وبدأت التجهيزات على قدم وساق، بطريقة تشبه تجهيز بيت عروس في أرياف إفريقيا، فكان  يعمل بيده مع العمال، فيكشط الجبس الملتصق بالأرض، وينظف الشبابيك وعمليات الصنفرة والتبييض، فكنا ندخل عليه وهو ممسك بقطعة من الحديد لإزالة الوسخ العالق في بلاط المبنى بحماسة شديدة، فهو أخيرا سيصبح مديراً، وقد كان يفعل ما يفعله، وقد تملكه شعور البطل القائد الذي يضع يده في يد العمال من أجل البناء، بينما يراه الموظفون طبيباً لا يحترم نفسه ولا شهادته ومتهالكاً على المنصب الى درجة الإسفاف.
بالنسبة الى أثاث المستشفى ومعداته، فقد قام بجولة على مستودعات الصحة، وجمع بالتعاون مع رجاله كل الخردة من أسرّة وأجهزة مختبرات وطاولات طعام، وأخرى للعلاج وقام بتنظيفها، ووضعها في الغرف، وبذلك أكمل تجهيز ما يقرب من ثلاثين سريراً بأردأ عدة يمكن تخيلها، كما أحضر كذلك جهاز أشعة متهالكاً يستعمل لتشخيص الأمراض الصدرية المعدية الذي يعتبر أحد أوبئة جدة، وأحضر الى المختبر ثلاثة أجهزة لا تعمل منذ 15 عاماً، ولم يعد يوجد لها مواد تشغيل في السوق، وقام بتلميعها من الخارج حتى تبدو كأنها تعمل.
بعد أقل من شهرين من عمله المتواصل كان هناك ما يسمى بمستشفى، فكل شيء كان مجرد قشرة، وغير حقيقي؛ لكن من هو المهتم ليكشف مثل هذه الأكاذيب.
بعد الانتهاء من المستشفى، وجّه دعوة الى صاحب المقام العالي ليشاهد المعجزة التي قام بها. وهي عبارة عن مستشفى قام بمبلغ صفر ريال. حضر صاحب المقام العالي الافتتاح ودار على المستشفى، ولن أنسى لحظة دخوله على المختبر وشكره للمدير الذي أحضر كل هذه الأجهزة الى المختبر من دون أدنى تكلفة على مقر المقام العالي، ولو كان صاحب المقام العالي واعياً بعمل المستشفيات كما يليق بمنصبه، لعرف أن هذه الأجهزة ما عادت في السوق أصلا؛ لكن هذا كان ديدن المؤسسات في العالم الثالث غالبيتها تنعم بجهل مطبق. بعد حضور صاحب المقام العالي، وظهور اسم المستشفى تحت الضوء عاد المدير الى المناوشات والقيل والقال.
المتردية والنطيحة وما أكل السبع
بدأت عمليات تعيين موظفين جدد للمستشفى، فكانت أغرب طريقة تعيين يمكن مشاهدتها حيث عرفت جميع الإدارات بخبر الافتتاح، فكان يتصل مديرو القطاعات الأخرى بالدكتور عطية ليدور بينهم حوار تكرر مع غالبيتهم تقريبا.
– ألو عطية، كيفك يا راجل؟
– الحمد لله، كيف حالك أنت؟
– بخير، اسمع عندي ممرضة جننتني. ومو عارف ايش اعمل معها، قلت لنفسي مالها غير عطية يوريها شغلها.
يسأله الدكتور عطية: ليه أيش عاملة… فيحكي له مشاكلها بالتفصيل.
– طيّب، أرسلها وأنا راح أأدب لك هي. وكلمات مثل “أدب يؤدب تأديباً” كثيرة الاستخدام بين المديرين، في الحديث عن الموظفين، ويلاحظ هنا نمط الحنان الأبوي في التعامل.
يتم إرسال الممرض أو الممرضة المغضوب عليهما لتلقي العقوبة لدى الدكتور عطية، فكان الموظف الجديد يأتي من دون معرفة مصيره، فإذا كانت الممرضة صاحبة وجه مليح، وتعرف كيف تتحدث وكيف تضحك فستنال الرضا ويغفر لها ما تقدّم من ذنبها وما تأخر، أما إذا كانت منقبة وكالحة الطبع، فسينزل عليها غضبه من دون أي مقدمات وبعد أول مقابلة. وهذا ما حدث لموظفة كانت تعمل عند الدكتور أسعد سامور، وتم نقلها لمشاكلها بسبب زوجها الذي يمنعها من الذهاب الى العمل في كل مرة، وترفض أن تعطيه شيئاً من راتبها، ووصل به الأمر الى أن يتدخل ويصرخ على زميلاتها في العمل للبسهن البنطال، حتى تحول وجودها كابوسا في مقر عملها فقرر مديرها نقلها للعمل في مستشفى الدكتور عطية.
تسلمها الدكتور عطية ومن اليوم الأول وضع لها جدولا مسائيا، بحيث تداوم من دون أن تختلط بأحد، ثم منع زوجها من الدخول، فكانت كل يوم تداوم في المساء، ثم تترك له شكوى في مكتبه ليقرأها في الصباح ويتجاهلها. طلبت نقلها الى مستشفى حكومي آخر فرفض؛ لأنه لم ينته من مسلسل التعذيب، واستمرت الحال حتى طفح بها الكيل، فصارت تحدث القاصي والداني عن الدكتور عطية، ونساء الدكتور عطية، وعشيقاته المتهافتات، وأطلقت عبارتها الشهيرو عنه في كل مكان: “عامل نفسه هارون الرشيد وحوله الجواري”. سمع هو كلامها فقرر أنه في أمس الحاجة لأن يخرس أي لسان يمسه، أو يمس سحر وريهام بسوء، فقرر نقلها الى المستشفى الذي طلبته، وفي يوم تنفيذ قرار النقل استدعاها كعادته، وأخبرها بتلبية طلبها، واعتذر لها عما بدر منه، فخرجت وفي طريقها كالت له اللعنات والدعاء!
وصل عدد من أحضرهم من الموظفين الى أربعين ممرضاً وممرضة، حيث كانت قضاياهم تراوح بين الغياب بدون سبب، والتورط في علاقات داخل العمل، وتصل الى قضايا تعاطي العقاقير. إحداهن، وكان عرض ملفها الوظيفي متراً من كثرة أوراق التحقيقات والمخالفات المتورطة فيها، حيث كانت مشهورة بأنها ذات خبرة في التحرش الجنسي بالرجال واتهامها لهم في أعراضهم، حتى أن الأطباء كانوا يتحاشون ركوب المصعد معها وحدها، وبعد فترة عملها بأسبوع جاءت سيارة الجهات الأمنية للبحث عنها، حيث أدخلت أمها في مستشفى خاص لأسابيع، وأخرجتها من دون أن تدفع الفاتورة.
وأخرى أيضاً كانت مشهورة بتعاطيها كل ما يمكن أن يتعاطاه الإنسان، وبعد سنوات سجلت عليها واقعة سرقة ثلاجة من المستشفى، وأحيلت على التحقيق وطلب منها إعادة الثلاجة، فأعادتها من دون أي شعور بالخجل.
ألطف قصة عشنا تفاصيلها مع الموظفات، كانت قصة الممرضتين ردينة وعزيزة، حيث كانتا كالضرتين، والقصة بينهما أن ردينة كانت على علاقة متكاملة ومستقرة مع ممرض زميلها، حتى ظهرت عزيزة، وكانت فتاة بيضاء بعكس ردينة السعودية السمراء. أعجب الممرض بعزيزة وتزوجها. كايدتها خلالها ردينة بكل أنواع الكيد، فلم تقطع علاقتها بالممرض، وكانت تتفاخر بما يحدث بينهما أمام القريب والغريب، معللة فعلها بأنه كان لها وعزيزة سرقته منها، وقد وصل بها الأمر أن صبغت جدران محطة التمريض (مكتب التمريض) بألوان فوسفورية لافتة، وبعد إجازة العيد وعودة العاملين ومن ضمنهم عزيزة التي كانت في الديرة (خارج جدة)، والتي ما إن شاهدت مكتب التمريض، حتى صارت تولول في كل مكتب، وتشكو لتراب الأرض ما فعلته ردينة التي صبغت جدران مكتبها بألوان غرفة نوم عزيزة، وذلك لتعرفها أنها دخلت غرفة نومها أثناء غيابها.
ولمناسبة الألوان الفوسفورية، فقد كان كل موظف يتصرف بحرية في مكتبه، وكأنه غرفة في بيته. بالنسبة اليَّ فقد صبغت غرفتي بلون المشمش، وزميلتي صبغت مكتبها بلون التفاح الأخضر، وهناك من صبغ غرفته باللون الأزرق البحري. كان هناك مهرجان ألوان في المستشفى.
ومع هذه النوعية من الشخصيات التي قام الدكتور عمر باستقبالها  شاعت ظاهرة تعاطي معدلات المزاج وتكونت علاقات بين الممرضين والممرضات أكثر تداخلا وتعقيدا من المسلسلات المكسيكية. وهذا ليس شأن كل القطاع الصحي، فمعظم المواقع يوجد فيها درجة من الانضباط، فظاهرة العلاقات المنفلتة، وتعاطي معدلات المزاج، خاصة بين الموظفين من صغار السن، لها اسباب عديدة منها أن الدراسة في الدبلومات تعني التخرج السريع والوظيفة المضمونة، مما يجلب عادة صغار السن من الطبقات الفقيرة والأسر المفككة ضماناً للدخل السريع، حتى يتمكنوا من إعالة أنفسهم وأسرهم، وبالطبع فهؤلاء مع صغر سنهم، فالاختلاط أيضا جديد عليهم، ولم يمارس في بيئاتهم من قبل، أضف إلى ذلك وجود دخل شهري، هذه كلها ظروف ساعدت على الانخراط في مثل هذه السلوكيات السلبية، ولا يعني هذا أنه لم يكن هناك فنيات وفنيون جيدون وجادون، بل يوجد الكثير منهم من يعمل بضمير ولديهم أسر مستقرة.
مع العدد المهول من الفنيين الذين أحضرهم الدكتور عطية لتشغيل المستشفى، نمت بينه وبينهم علاقة تشبه علاقة القط والفأر، فكان يصدر من فترة الى أخرى قرارات استفزازية ضدهم، وهم في المقابل يتعمدون الغياب وعصيان أوامره، وأتصور أنه كان يتعمد أن يكون دائما تحت الأنظار وموضوع الساعة في أحاديثهم، فمن ضمن القرارات التي اتخذها وأثارت حنق الجميع ضده، على رغم محاولة الكثيرين ممن حوله ثنيه عنه؛ لكنه أصر على رأيه، قيامه بتكليف أكثر من خمسة وثلاثين ممرضة وممرضا في إجازة عيد الحج، بمعنى أن يعملوا أثناء الإجازة الحكومية على الرغم من أنه لم يكن هناك سوى مريض واحد فقط منوم، وتالياً اعتبر هذا المريض أغلى مواطن مريض في مدينة جدة حيث كلفت العناية به عمل ثماني ساعات لخمسة وثلاثين ممرضا وممرضة لفترة ما يقرب العشرة أيام، ونلاحظ في هذه القصة مدى العشوائية في الإدارة وتحكم المدير المطلق بالجميع، وعدم وجود نظام مساءلة ومحاسبة له، فكل هؤلاء الممرضين المكلفين العمل سيطالبون بالإجازة التعويضية عندما يكون العمل في الذروة والمتضرر هو المريض.
ومن الشخصيات التي أحضرها الدكتور عطية، كانت شخصية صيدلي شاب سعودي طموح ومتسلق وبدا لي أن ضميره تم القضاء عليه (ربما في مراحل طفولته المبكرة)، وقد خرج من مقر عمله السابق بفضيحة مالية ضخمة، وما إن حضر حتى أحضر معه صديقته للتدرب لدينا، وكانت فتاة غير سعودية، عليلة الشخصية مهزوزة، تعاني من مشاكل لا حصر لها في حياتها، وبالطبع مما يزيد الأمر سوءا، هو وضعها في البلد كمقيمة، وهذا الصيدلي كان طيباً معي أنا بالذات، ويعاملني بود لأني بحسب رأيه أشبه أخته الصغرى.
أمر الدكتور عطية لم يقتصر على جعل المستشفى منفى للخارجين على النظام وأصحاب السوابق، بل كان يحب أن يشعر بالرضا عن ذاته بتقبله كل الموظفين ذوي الظروف الصعبة، وأصحاب الإعاقات الجسدية، فقد كان اثنان من الموظفين يعانيان من مشاكل في الهيكل العظمي يجعلهما باستمرار في إجازة مرضية، وآخر كان لا يستطيع التواصل، أو الحديث الطبيعي نظراً الى معاناته القديمة من زوجة أبيه. موظف آخر كانت عنده حالة نفسية، فكان يمضي وقت الدوام كله في الساحة الأمامية للمستشفى يحدق بصمت في أقدام المارة، وشاب آخر كان يبكي لأقل قسوة يواجهها من الموظفين والموظفات، وقد أُمسك به متلبساً بسرقة أدوات المكتب وبكى مثل طفل، وموظفة أخرى كانت تعاني من شعور مستمر باضطهاد الآخرين لها، ودائمة الشكوى والشجار مع الجميع…
قارئة الفنجان
من الشخصيات التي عملت في مستشفى الدكتور عطية، اختصاصية نفسية، اسمها سلمى. تفتح الفنجان وتقرأ البخت وتفسر الرؤيا، فكنا نجتمع في مكتبها حول قهوة الضحى لنحكي لها أحلامنا، وميزتها في تفسير الأحلام أن كل ما نحلم به هو عادة لا يخرج من اثنين: إما نبوءة بحدوث شيء ما لها شخصيا أو نبوءة بحدوث شيئاَ ما للعمل، وطريقتها في التفسير كانت تجعلنا نضحك من قلوبنا، ففي حلم من أحلامي رأيت في المنام أن السائق الخاص بي يسير بسرعة وعلى ملامحه علامات لؤم غريبة لم أرها على وجهه من قبل، فكان تفسيرها أن هناك تغييرات كبرى ستحدث في الأيام المقبلة في إدارة المقام العالي وأنها هي (سلمى) مشمولة في هذه التغييرات. تعجبت كثيراً أن أبلغ شخصياً عن تغييرات في مقر المقام العالي بالرياض، فالذي يجب أن يبلّغ بها هو صاحب المقام العالي مع نسخة لها من الحلم و ليس لي أنا.
مهارتها لم تكن تقتصر على القدرات الماورائية، بل كان لديها خصائص شخصية لا يمكن نسيانها، سلوكها ناعم في التعامل وصاحبة واجب، فهي تزور الناس بالهدايا في مناسبات المواليد والأفراح، وفي حالة الوفيات تكون أول المعزيين؛ لكن في المقابل لديها لسان سامّ يجعل السامع يتلوى حول نفسه من دون أن يعرف أين الخطأ. لا تعبّر عما في نفسها صراحة، بل تكتفي بما يسمّى برمي الكلمات المغلّفة الملفوفة، والتي تصيب هدفها عادةً كسمّ الأفعى.
تعوّدنا أن نجتمع لديها في مكتبها على قهوة الضحى وقطع من الشوكولاتة، ثم نعود من عندها، ونحن منزعجات، وشيء ما في داخلنا غير سعيد، وعندما تحاول إحدانا أن تناقشها في كلامها بصورة مباشرة، تنكر تماما أنها تعني ما فهمته، وتحاول إيهام الطرف المقابل أنه سيئ النية، وأنها لم تتعمد أن تجرح أو تلمز بحديثها، ومع كل المجاملة التي تبذلها، إلا أنها كانت تخسر كل شخص ينضم إلى صحبتها بعد أشهر عدة بسبب طريقتها في اللمز، وفي مناسباتها القليلة لم أشاهد سوى قليل من الزوار مقارنة بعدد من زارتهم في مناسباتهم، وهذا كله هربا من لسانها وتعليقاتها المؤذية.
في مكتبها كانت إحدى الممرضات واسمها نور تتحدث عن ذهابها الى السوق وشرائها أشياء كثيرة، مما استدعى أن تطلب مساعدة السائق في حمل الأغراض، فعلّقت سلمى بطريقة ساخرة” “آه ما شاء الله، صرتِ الليدي نور وصار السوّاق يشيل أغراضك”. وإذا عرفنا أن نور فقيرة مقارنةً بسلمى الغنية جدا، فسنعرف كم كان تعليقها سيئاً، وبالنسبة اليَّ فقد كانت تعليقاتها مزعجة تماما، وفي يوم ناقشت صديقة لي متخصصة في سلوك الإنسان حول تصرفات هذه المرأة، فقالت إن هذا يصنَّف كسلوك عدواني سلبي غير ظاهر، ثم قرأت مقالات عدة حول هذا السلوك، وبعدها قررت تجنبها تماما في نشاطاتي اليومية.
عم عبد الله
في عملنا يقترب الناس بعضهم من بعض بحب زائد يجعل المسميات الوظيفية تتحول إلى مسميات عائلية!
فعم عبد الله هو مدير المستشفى الإداري، والمدير الإداري هو الموظف المسؤول عن الحضور والانصراف والرواتب والبدلات وخلافه ، وعم إبراهيم هو مسؤول جهاز تحليل الدم، وأم محمد طبيبة مسؤولة البلاغات، وخالة خديجة مسؤولة النظافة. وهكذا. بالنسبة الى عم عبد الله، هو رجل في الستين من عمره، لا يحمل أي مؤهل، سوى أنه نظيف وأنيق، حلو اللسان مع الجميع، ومتخصص في إخفاء الملفات والمكايدات، وغير ذلك من المهارات الضرورية لإدارة القطاعات الحكومية. كان طيباً معي ويعاملني كأب، وهذا من حسن حظي؛ لأنه إذا لم يرتح قلبه لموظف أو موظفة فالويل له.
أحضر الدكتور عطية هذا الرجل ليتولى إدارة شؤون الموظفين، ثم نمت بينهما الصداقة، والتي يرجح أن جذورها قديمة، فقرّبه منه حتى صار يده اليمنى، فصار يستشيره في كل أمور المستشفى، وكذلك أوكل اليه مهمة التخلص من الموظفين الذين لم يتلاءم ذوقهم مع المدير، وتنغيص عيش البعض منهم. من مهام هذا المدير الرد على المعاملات الواردة الى المستشفى. كانت المشكلة أنه لم يكن يكتفي بوضع الردود على المعاملات الإدارية التي تتضمن أموراً مثل إجازات الموظفين، وبدلات التكليف وغيره؛ بل يضع ردوده على المعاملات الفنية، والتي تتطلب ردود الفنيين كالأطباء مثل تحويل المرضى أو نوع الممارسة الطبية المتاحة، وهذا الرجل كان من النقاط التي حسبت ضد الدكتور عطية بعد ذلك ¶

* من كتاب يصدر قريباً لدى “دار الآداب”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم

    تحية معطرة للكاتبة الراقية والرائعة .. فاطمة الفقية

    لقد قرأت الكتاب … ولقد رأينا وقرأنا من خلاله … معنى الفساد الحقيقي في القطاع الصحي … !!!

    لأجل حماقات نساء ورجال كبار سن ليس لهم بالطب أي علاقة تذكر ولا مؤهلات …حدثت أخطاء طبية فادحة ولكن لا حسيب ولا رقيب ..

    شكرا ً يا أستاذة فاطمة على قول الحق …وعلى نقاوة فكرك النيّر .

    وفقك ِ الله وحفظك ِ أينما كنتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى