صفحات سورية

الأسد بين الحكمة والتكنولوجيا الهنديتين

null
فارس الحر
الكلام عن الإصلاح والتحديث ومكافحة الفساد في سوريا كثيف متراكم منذ عقود، المكتوب منه يكفي لو جُمع ليملأ أوسع مكتبات الدنيا العامرة حتى تصبح معضلة مستحيلة أمام محترفي إبادة الكتب حرقاً وتغريقاً، هذا غير المنثور منه في الخطب والبيانات والتصريحات وحتى الأشعار التي تُردد في المهرجانات والاحتفالات الوطنية والقومية التي لا تنتهي، بل وحتى الدينية.
ومع ذلك ظل الفساد يتضخم بوتيرة أشد بكثير من وتيرة التضخم الاقتصادي الخانق، وبقي التداعي والتفسخ كالحريق لا يتوقف يجتاح الدولة والمجتمع على كافة الأصعدة.
ويحق لأي فرد أن يتساءل عن فائدة كل المكتوب والمخطوب به والمصرح به خارج الأغراض الدعائية.
منذ سنوات تزيد عن العشر، وعلى مدرجات جامعة دمشق، خصص أستاذ أحد المقررات محاضرة كاملة للحديث عن ظاهرة الفساد العالمية، مركزاً على شدّتها في الأنظمة الاشتراكية بالمقارنة مع الرأسمالية، وحدّتها في الأنظمة المتخلفة بالنسبة للأنظمة المتقدمة. يومها مرت المحاضرة مرور الكرام، وتناساها الطلبة وأستاذ المقرر الذي لن يغامر ثانية بإثارتها من خلال سؤال في الامتحان، كما لن يجرؤ أي طالب على ترديد ما ورد فيها لأي شخص مهما كان قريباً وموثوقاً به. ففي تلك الأيام كان أي نقد، يطرحه كائن من كان يتناول به أي جانب من الحياة العامة في سوريا، كفيل بأن يقذف بصاحبه في غيبة، كتلك التي كان يدخل فيها الأولياء والأئمة والقديسين في العصور الوسطى، فإن حدث وعاد بعدها اعتبرت عودته معجزة!.
من آخر ذلك الكلام، ولن يكون الأخير بالتاكيد، ما طلع علينا به الرئيس الأسد عقب عودته من زيارة الهند، أقصد تحديداً دعوة فخامته إلى الاستفادة من الخبرة التكنولوجية الهندية!!.
في هذا المقام سنفترض حسن النية والجدية لديه، كما سنفترض وجود إرادة حقيقية تتجاوز مجرد الأغراض الدعائية، ونحن بذلك نغامر بالتعرض للاتهام بالسذاجة إن لم يكن بالانتهازية!.
ورغم افتراضنا هذا لا نملك كبح جملة من التساؤلات، نرى طرحها حقاً لكل سوري، تثيرها زيارة سيادته منذ اللحظة التي وطئت فيها قدمه أرض الهند وحتى عودته وإطلاقه لدعوته.
هل راود سيادته هناك تساؤل حول سر التقدم والاستقرار الهندي قبالة الفوضى والتخبط الباكستاني؟. إنها الهند بلد المليار نسمة التي رزحت تحت وطأة الاستعمار البريطاني ردحاً طويلاً من الزمان سبقه عصر وسيط طويل من الأنواء والاضطرابات، بلد هو الأكثر تعقيداً في العالم من حيث تعدد وتباين التنوع العرقي والديني والطائفي الهائل.
لطالما شغل التراث الفكري للهنود أذهان المفكرين عبر العالم. وبرغم تنوع وتباين اتجاهاته داخل تياراته الكبرى من هندوسية وبوذية إلى سيخية وإسلامية ومسيحية ومجوسية…الخ، دأب الجميع بعد كل نقد أو طعن فلسفي له على ترديد التقدير والاعجاب بالحكمة الهندية، ذلك الإعجاب الذي ما كاد يصحو الغرب من إغراءاته حتى سقط أمام إغراء أشد وأقوى هو الديمقراطية الهندية، الديمقراطية التي وصفها الغرب بالمعجزة.
ومن نافلة القول أن الرئيس الأسد لم يتفوه هناك مطلقاً عن الديمقراطية كمنتج ثقافي غربي لا يتلاءم بالضرورة مع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والأعراف السائدة في المجتمعات غير الغربية، ولا عن البطء كطبيعة ميتافيزيقية للإصلاح، أو عن أولويات المرحلة والظروف الاستثنائية المعطلة لأي ضمانات وحقوق تكفلها الدساتير والقوانين، وهي أقوال وتصريحات صار يرددها حتى البسطاء في سوريا من فرط ما سمعوها من سيادته ومن رموز السلطة ثم من أعضاء الهيئات واللجان البعثية وشبه البعثية ومن المدراء العامين وحتى من مستخدميهم وسائقيهم!!.
كلا لم يتفوه بشيء من ذلك، فالهنود قوم مشهورون إلى جانب الحكمة بالسخرية اللاذعة!.
لكن لست متأكداً من كون سيادته قد انتبه هناك إلى أن المجتمع الهندي يعيش منذ ستين عاماً في حالة حرب.
في العام 1947 استقلت الهند وابتليت بحرب أهلية طائفية سرعان ما تجاوزتها لكن بانقسام مرير لم تفلح الجهود المضنية للزعيم الهندي الخالد ( غاندي ) في تجنبه. هكذا وجدت الهند المستقلة حديثاً نفسها، لأسباب وعوامل كثيرة، في صدام مع الوليد الجديد – الباكستان الشقيقة اللدودة. لم يهدأ الصراع المرير بينهما منذ 1948 رغم ثلاثة حروب طاحنة مدمرة.
ترى هل تساءل الرئيس الأسد، ، ولو في سره،عن الصمود الهندي والثبات دون أن تحتاج الديمقراطية الهندية المعجزة إلى قوانين طوارئ استثنائية تحمي المجتمع والدولة في حالة الحرب، كالمرسوم التشريعي رقم 51 تاريخ 22 / 12 / 1962 المعدل بالمرسوم 1 تاريخ 9 / 3 / 1963 الذين تفتقت عنهما ذهنية المناضلين السوريين العسكريين!.
على افتراض أن سيادته صرّح بتساؤله، وهو أمر ليس مستبعداً كثيراً، لا شك أن مضيفيه الهنود سيعتمدون حكمتهم المشهورة في صياغة جوابهم.
لقد قاد أبو الحداثة والاستقلال الهنديين ( غاندي ) مقاومة طويلة ضد الاستعمار البريطاني نجحت في النهاية رغم كونها سلبية تعتمد الإضراب والمقاطعة لا الصدام والمواجهة. كان لغز نجاح ( غاندي ) و( نهرو )، وغيرهم من عظماء الهند، الحكمة القائمة على الإيمان بقيمة الإنسان وقدراته، إيمان شاركهم فيه ( محمد علي جناح )، كما شاركهم في الحلم الكبير، لكنه لم يتقن الحساب بحسب مقتضيات الحكمة الهندية، بل ربما لم يستطع بعدما انقطعت عنه أكثر روافدها!.
تلكم هي الهند بلد الرهان على الإنسان، البلد المدهش المصدّر للأرز رغم اكتظاظه بسدس البشر وقد علمنا أساتذتنا في الجامعة أول مبادئ الإدارة العامة وهو:
(  إدارة متواضعة محدودة الإمكانيات والموارد يرسخ في عنصرها البشري الانضباط بالأنظمة والقوانين وروح الانتماء إلى المجتمع هي خير وأقدر بكثير من إدارة غنية بمواردها المادية لكن يسري في عنصرها البشري التسييب واللامبالاة بتأثير روح الارتزاق.. )
ترى! هل هذا المبدأ من مقتضيات الحكمة الهندية؟!.
تلكم هي الهند المذهلة وهي تخمد ببراعة اضطراباتها الطائفية والعرقية دون أدنى خدش لديمقراطيتها المعجزة.
في الهند، العملاق الاقتصادي الذي يستعد الغرب لاستقباله في العقد القادم كواحد من الخمسة الكبار، الكثير الكثير مما يجب تعلمه. وفي إمكان الرئيس الأسد أن يتعلم ما يغنيه عن عبء قياس مقاومة وصمود الإنسان السوري الذين يبديهما بعنف وعنفوان منقطعي النظير لكن فقط في وجه أخيه العادي، غير الموظف المسؤول أو المدعوم، وذلك في الطوابير التي تطوق المخابز. أو في مساعيه الحثيثة التي تستنفد كل قدراته الجسدية والنفسية للحصول على اسطوانة الغاز أو صفيحة مازوت…الخ
إن الإبداع والتقدم والتألق في وجه العدو وصده هي من المهام الجسام التي تفترض سلفاً في المجتمع تحقيق الشرط الإنساني لكافة أفراده، حكمة الهنود أدركت هذا مبكراً، فهل يدرك الرئيس الأسد أن مجتمعاً أفراده لا ينتظمون في شعب واحد بل في جماعات متعددة، اعتادوا حتى الإدمان الأزمات، يحيون في ظل العبودية للقمة والأمن ورحمة السلطات، لا يستطيعون ولو بلبط كرة القدم أمام الآخرين إثباتَ الذات… هل يدرك الرئيس الأسد أن مجتمعاً لم يحقق لأفراده الأوليات، بل ليس لدى سلطته أية نية لذلك ما خلا الخطابات، هو المجتمع الأبعد عن الإبداع والتقدم، بل هو المجتمع الدائم في مهب الريح المعرّض دوماً للنكسات.
إننا مع سيادته نأمل الاستفادة من التجربة التكنولوجية الهندية، لكننا نخشى الحكمة الهندية العميقة أن تصيبنا بوابل من السخرية الهندية الشهيرة. ذلك لأننا بحديثنا عن ذلك الأمل سنبدو كمن يتحدث عن نيته في بناء الطابق الأخير من برجه الذي لم يحفر لأساساته بعد، بل لم يفكر ولا ينوي أن يفعل.
سأعتمد على مصطلحات ومفردات طالما استخدمها سيادته ومعاونوه الأقربون والأبعدون الأعلون والأدنون.. لأقول:
إن طبيعة المرحلة والظروف الاستثنائية المعقدة التي يمر بها المجتمع السوري تقضي بإعادة تحديد الأولويات، الحكمة الهندية أولاً ثم التكنولوجيا الهندية لاحقاً.
إننا نشدد على ضرورة بناء الإنسان كخطوة أولية لا محيص عنها لبناء مجتمع حديث سليم. وأول البناء إعادة الكرامة والشعور بالذات في مجتمع مؤسساتي يحفظ الضمانات لأفراده.
أخيراً! أعترف بأنني في محاضرة الفساد المرعبة، التي اندفع إليها أستاذنا في الجامعة بعدما خانته لبعض الوقت الحكمة السورية، ارتكبت انتهاكاً للقانون المتجسد في مرسومي قانون الطوارئ، فقد صححت في سري ما كان يقوله أستاذي، إذ قلت في سري وأنا أنكس رأسي حتى لا يخمن أحد ما أقول:
.. الفساد والإفساد وملحقاتهما وتابعهما ولوازمهما جراثيم تنشد بيئتها الأمثل في الأنظمة الفردية الدكتاتورية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى