الدولة السلطانية المحدثة”: سيادتان وسياسة واحدة
ياسين الحاج صالح
السيادة ثنائية في الدولة العربية المعاصرة، مهما يكن رأي مفهوم السيادة في ذلك. إنها متقاسمة بين الدولة والدين. الدولة تحتكر رسميا الإكراه المادي والمعنوي (التخوين)، وتستأثر بالولاية العامة. وهي المقر الرسمي للسيادة. والدين، الإسلام بخاصة، يمارس إكراها رمزيا ومعنويا (التكفير)، وتسود إماراته وشاراته المجال العام دون استشارة الجمهور العام أو أخذ رأيه (الأذان بمكبرات الصوت)، ويشغل موقعا في وسائل الإعلام العامة رغم أنه ليس “عاما”، وحضوره العلني ليس مبرأ من دواعي الرهبة والقلق عند قطاعات من السكان، بمن فيها مسلمون سوسيولوجيا، بخاصة عبر التدخل النافذ لدى سلطة الدولة بصدد أمور اجتماعية وثقافية. هذا فضلا عن قوانين الأحوال الشخصية التي تعرف السكان بأديانهم وتلزمهم باتباع ما تشرع لهم هذه، فضلا أيضا عن مشاركة “علماء” الدين في التشريع عبر فتاواهم، فضلا أخيرا عن أنه ثمة مطمح إسلامي لا يخفي نفسه للفوز بالسلطة العامة والاحتفاظ بها.
وفي مصر أكثر من غيرها، ينعكس تقاسم السيادة في تقاسم الإكراه غير الجسدي: العلماني منه تتولاه الدولة واسمه تخوين، والديني تتولاه المؤسسة الدينية الرسمية واسمه تكفير. وهذا إكراه رمزي، لكن سبيله مفتوح إلى الإكراه الجسدي وتهديد حياة المعنيين. والمضمر فيه أن السيادة إسلامية، أو أن للإسلام ولاية عامة تقرر عقوبات على ما تقدر أنه خروج على شرائعها الملزمة، وقد تبادر إلى إيقاعها بنفسها على المرتكبين المفترضين. معلوم أن منافس “الدولة” الأول في ممارسة العنف هو “الدين” في أكثر الدول “الإسلامية”.
المحصلة دولة ذات رأسين.
التقاسم هذا يشير فيما نرى إلى قصور التشكل الوطني أو نقص الدولة ككيان وكمؤسسة حكم قياسا إلى النموذج المعياري الحديث، الدولة – الأمة، المتصف بوحدانية السيادة وبكون الدولة مقامها الحصري. ولنقص الدولة أسباب متعددة منها فتوتها النسبية، ومنها افتقارها إلى ذاكرة دامجة وحضور ذاكرة سلطانية يتداخل فيها الدين والدولة. ومنها أيضا ضعفها أمام القوى الغربية المهيمنة، ورديفها الإسرائيلي القريب. أي عجزها عن القيام بوظائفها السيادية الخارجية، الدفاع الوطني وحماية مجالها الترابي.
على أن الظاهرة التي حولت نقص الدولة إلى نوع من تقاسم للسيادة مع الدين حديثة نسبيا تعود إلى سبعينات القرن الماضي، أعني غلبة مبدأ حفظ السلطة في سلوك أطقم الحكم وأولوياتها، أي إعلاءها من هدف الخلود في الحكم على أي شيء آخر. لا يصفو لها أمر الحكم الأبدي دون تنازلات سيادية من نوع ترك مساحات حرة للدين (والطوائف والعشائر). الدين بخاصة، بسبب ثقله التاريخي وتوفره على معنى متماسك للشرعية والأمة. لا يصفو دون شيء آخر: “شخصنة” الدولة، أي مركزتها حول زعيم خارق (سورية، العراق البعثي، تونس، وحتى مصر..)، وتولي محاسيبه وأهل ثقته الحكم تحت إمرته. يتعلق الأمر بخصخصة حقيقية للسلطة العمومية، تنال من قدرة الدولة على احتكار السيادة. لا يسع دولة مخصخصة، بل أية دولة، أن تجمع بين سلطة مؤبدة وسيادة مطلقة. أو لنقل إن نخبنا السياسية والإيديولوجية لا تملك الموارد المادية والمعنوية والتنظيمية من أجل الجمع بين سلطة مطلقة وسيادة موحدة. وإنما لذلك تعذر قيام دول شمولية حقيقية في بلداننا، خلافا لما استقر عليه الحال يوما في ألمانيا النازية وروسيا السوفييتية. جرت الأمور عندنا وفق ضرب من “العقد”، يضع كل سلطة الدولة في أيدي النخبة المستولية، لكنه “ليبرالي” حيال “المجتمع الأهلي” وأعرافه وشرائعه، يكاد لا يتدخل فيه. وحيال الخيارين المتقابلين: سلطة عمومية لا شريك لها في السيادة، لكنها مقيدة ومؤقتة؛ أو سلطة خاصة دائمة، لكنها منقوصة السيادة، تفضل سلطاتنا تنازلا سياديا جزئيا على تنازل سياسي أساسي.
والظاهرتان معا، أعني الامتيازات الممنوحة لقوى “أجنبية” في الدولة (الدين والطوائف والعشائر)، وشخصنة الدولة وخصخصتها، تندرجان ضمن ما نسميه الدولة السلطانية المحدثة. مظاهر هذه سهلة التبين: سلطة أبوية قابلة للتوريث، انتظام مللي للمجتمع، حضور كثيف لهاجس “الفتنة” أو الحرب الأهلية الطائفية، وحتى ظهور فقهاء – مثقفين يعلون من شأن تجنب “الفتنة” على أية تطلعات للحرية والعدالة. والدولة كمقر حصري لسيادة الأمة تلغى عبر الآليتين معا: السلطة الأبوية الوراثية كما “الامتيازات الأجنبية”. هذا النسق المعتاد في النظم الملكية يغدو معتادا أكثر وأكثر في غير دولة عربية، بدءا من سورية.
ومفهوم السلطانية، المفيد لتوحيد إدراك وجهي نخر الدولة (الشخصنة و”الامتيازات الأجنبية”) ولإبراز ثنائية السيادة فيها، مفيد أيضا لتصور الخروج من الثنائية: توحيد السيادة يقتضي توديع مبدأ حفظ السلطة ونازع الخلود فيها. يتعذر التخلص من تقاسم السلطة العليا (السيادة) اجتماعيا وثقافيا وقانونيا دون التقاسم السياسي للسلطة العمومية. من أجل ألا تكون السيادة قابلة للقسمة يجب أن تكون السياسة قابلة للقسمة. وفرص تجريد الدين من السيادة أكبر في حال تأميم سلطة الدولة وتوديع فكرة الخلود فيها. باختصار، لا فرص جدية للعلمنة إلا في سياق إصلاح ديمقراطي للبنية الوطنية. أعني صوغ “عقد” جديد، يلغي “الامتيازات الأجنبية” الممنوحة للمجتمع الأهلي (فيحارب الطائفية ويقوي الدولة)، مقابل تحرير الحياة السياسية وتعزيز المؤسسات والثقافة المدنية. أو، تعبيرا عن الأمر نفسه بطريقة أخرى، يلزم أن يدرج التحرر من الامتيازات اللاعقلانية تلك في سياق إصلاح وطني واسع، يقيد الاستبداد الحكومي ويحرر الفاعلة الدامجة للدولة.
وهذا بالضبط نقيض التصور العلماني الشائع في سورية، والذي، بالعكس، يرهن العلمانية بدوام الاستبداد، لأنه يعرف العلمانية بدلالة الدين حصرا، ويخشى أن يفضي إصلاح سياسي في اتجاه ديمقراطي إلى هيمنة الأكثرية الدينية. وهذه أكثرية إسلامية (وسنّية). يفوت هذه المقاربة أن الدين ليس عاملا مستقلا متماثلا مع ذاته في كل حين، وأن دوره وتأثيره متغير وفقا لموقعه ضمن البنية السياسية، أي في الدولة. لقد كان كذلك في الماضي، وهو اليوم كذلك أيضا. وإن يكن الدين راهنا عامل مقاومة للعقلنة والتوحيد القانوني والتعليمي، ومعرقلا للتجانس الوطني (وهو كذلك فعلا)، فهو “متعاقد” على ذلك مع الدولة السلطانية المحدثة أو في إطارها، هذه الدولة المنشغلة أولا وأساسا بخلودها الذاتي. ما لا تراه هذه المقاربة العلمانية المزعومة أن الأصل في تقزم العلمانية هذه هو استبداد آلي مطلق العقم، لا يعرف له نتاج غير القزامة العمومية. لا تستعيد العلمانية فرصها في النمو (ولا كرامتها) دون التخلص من الاستبداد السلطاني هذا.
يتعين أن نلاحظ أن دولنا الحاضرة كانت قادرة دوما على سحق كل منازعة لها على السلطة من قبل أية مجموعات إسلامية أو غيرها. وهي إذ تتشاطر السيادة مع “الإسلام” اليوم، فإن المقصود هو الإسلام الاجتماعي والطائفي، وليس “الإسلام السياسي” (الطائفي بدوره) الذي طمح إلى الاستيلاء على السلطة وإشغال موقع السيادة أيضا. ولا يسعها أن تتنازل للإسلام الاجتماعي الطائفي دون تنازلات مماثلة مبدئيا للطوائف الأخرى: أحوال شخصية مستقلة، توسع رمزي في المجال العام.. لكن في ظل أسبقية إسلامية لا شك فيها.
إذا صح هذا التحليل المجمل، فإن إصلاح الدولة يوفر البيئة الأفضل لوحدة السيادة فيها، أي لنزع السيادة من التشكيلات الدينية. ودون إصلاح الدولة، أي بالضبط دون القطيعة مع منطق “كل السلطة لنا كل الزمن” أو “إلى الأبد”، لا نرى كيف يمكن حصر السيادة في الدولة. هذا لا يعني أنه بمجرد إقرار مبدأ الإصلاح الوطني والديمقراطي يُستدرك القصور السيادي للدولة، لكنه يعني بالفعل أنه دون انطلاق عملية إصلاحية كبرى، سيبقى رتق الفتق السيادي متعذرا. استراتيجية الإصلاح الوطني الأنجع تتمثل في توحيد المطلبين: إصلاح ديمقراطي (تعددية سياسية وتعميم حقوق المواطنة) و.. واحدية سيادية متشددة.
ما يبدو أنه يجري حاليا في سورية، مثلا، هو ضرب من الدمقرطة وضرب من العلمنة سلطانيان: بدل التعددية السياسية تفرض نفسها تعددية أهلية، تنزع إلى تشكيل ما يتاح من تعبيرات سياسية من باطن؛ وبدل الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية يترسخ تقاسم السيادة بينهما. الكلمة العليا للسلطة السياسية بالطبع، لكنها تبقى عاجزة عن احتكار السيادة دون إلغاء ذاتها في صورتها الحالية، أي الدولة السلطانية الشخصانية الخالدة.
الديمقراطية السلطانية تعدد أهلي مسيس، أي طائفي. والعلمانية السلطانية تقاسم للسيادة بين الدين والدولة. أما السلطان الفعلي فيبقى فوق الديمقراطية والعلمانية هاتين، واحدا خالدا.
وقد لا يكون هذا الضرب من الانتظام السلطاني المحدث مقصدا واعيا لأحد. نخمن أنه يتحصل عن هوامش متوسعة للبرلة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، تفضي إلى المزيد من تفكك البنية الوطنية للمجتمع، في ظل الحرص الدقيق على إمساك السلطة كلها “إلى الأبد”. “تتذكر” مجتمعاتنا المعاصرة انتظامات أقدم لها، فتتشكل على صورتها، لأنها مشدودة قسرا إلى نقطة تمفصل مشتركة ثابتة: السلطان الأبدي، المتعالي على المجتمع والسياسة والسيادة والدولة. “سيد الوطن”
هل ثنائية السيادة وضع انتقالي في بلداننا؟ وهل ستؤول إلى وحدة السيادة أم إلى تعدد تام للسيادات، ربما بانقسام دولنا القائمة؟ الاحتمالان قائمان على حد سواء في ظل الدولة السلطانية المحدثة. لكن الجواب المأمول هو سيادة الدولة الديمقراطية. إن دولة السلطة كلها طوال الزمن كله عاجزة عن كسب معركة وحدة السيادة. والدين عاجز قطعا عن توحيد المجتمع.
والخلاصة الختامية أن خياراتنا تنحصر بين احتكار السيادة أو احتكار السياسة. احتكار السيادة يقتضي التضحية باحتكار السياسة وتحويلها إلى حيز تعددي مشترك. واحتكار السياسة يفضي إلى انكسار احتكار السيادة وانتقال التعدد والشرك إليها. أما احتكارهما معا، أي الشمولية، فقد سبقت الإشارة إلى أنه يتجاوز الإمكانيات المتاحة لنخبنا السياسية والإيديولوجية.
ياسين الحاج صالح