صفحات العالم

حال الطوارئ الحقيقية في مصر هي ديموقراطيتها المقموعة

محمد البرادعي
شهدت مصر مجدداً انتخابات مزوّرة وهزلية. فقد تم حشو صناديق الاقتراع، وشراء الأصوات. وتعرّض الأشخاص الذين كانوا يفكّرون في التصويت للمعارضة، للعنف على يد بلطجية محترفين. وقد وثّقت مجموعات حقوق الإنسان جيداً هذه الانتهاكات.
الديموقراطية هي حكماً أكثر من مجرد إجراءات شكلية.
نظرياً تملك مصر دستوراً وقوانين تعكس إرادة شعبها. لكن في الحقيقة، البنود هي خليط يُبقي على القبضة الحديد للنظام الحاكم. يتمتّع الرئيس حسني مبارك بسلطات مطلقة. وليس هناك إشراف قانوني على الموازنة العسكرية. لا يُسمَح لأكثر من خمسة أشخاص بالتجمّع لتنظيم تظاهرة سلمية من دون الحصول على إذن مسبق. وهناك وجود للقوى الأمنية في حرم الجامعات لمنع الطلاب من الانخراط في النشاطات السياسية.
وبموجب تعديل أخير للدستور، أصبح من شبه المستحيل ترشّح فاعل مستقل للرئاسة. يُحظَر على أي مرشح ليس عضواً في حزب مرخَّص رسمياً أن يكون له مركز رئيس أو يجمع الأموال. وغالباً ما يُمنَع الناشطون السياسيون من استئجار أماكن لعقد اجتماعاتهم فيها. في الأشهر الاثنَي عشر التي تلت إطلاق حملتي للإصلاح في مصر، تلقّيت سيلاً من الطلبات لإجراء مقابلات معي، لكن بعد القمع الأخير لوسائل الإعلام، لم تتجرأ أي محطة تلفزيونية محلية تقريباً على إبداء اهتمامها بالتكلّم معي.
نظرياً، تملك مصر العديد من الأحزاب السياسية. أما في الممارسة، فيقتضي إنشاء حزب سياسي الحصول على إذن من لجنة يسيطر عليها الحزب الوطني الديموقراطي، أي الآلة السياسية التي تبقي مبارك في السلطة منذ عام 1981. ويجب أن تكون قد مضت خمس سنوات على وجود أي حزب جديد قبل أن يتمكّن من تقديم مرشّح للرئاسة.
نظرياً، لدى مصر رئيس منتخب. لكن في نصف القرن المنصرم، مرّ على البلاد ثلاثة حكّام فقط. كانت هناك اختلافات في أسلوبهم ورؤيتهم، لكنّهم ترأسوا جميعاً نظاماً سياسياً سلطوياً وقمعياً. ويخضع المجتمع المصري منذ 29 عاماً لـ”حال طوارئ” رهيبة، وهي أداة سمحت للرئيس بتعطيل حمايات أساسية يؤمّنها الدستور واستُخدِمت لاعتقال من يجرؤون على الاعتراض وتعذيبهم، وأحياناً قتلهم.
نظرياً، تملك مصر برلماناً منتخباً بصورة ديموقراطية. أما في الممارسة فثلث أعضاء مجلس الشورى يعيّنهم الرئيس. ومن أصل 508 مقاعد، يشغل نوّاب الحزب الوطني الديموقراطي 440 مقعداً. لا يمثّل البرلمان المصري الشعب بأي طريقة من الطرق. فعلى الرغم من أن حوالى 10 في المئة من المصريين هم مسيحيون أقباط، لا يملك الأقباط سوى ثلاثة مقاعد في مجلس الشعب. وجماعة “الإخوان المسلمين”، هذا التيار الديني الذي نجح في الفوز بعشرين في المئة من المقاعد في الانتخابات النيابية عام 2005، أُبعِدت من الانتخابات في تشرين الثاني الماضي ولم تعد تملك أي مقاعد في البرلمان. وفاز حزب “الوفد”، وهو أكبر حزب ليبرالي، بستة مقاعد فقط. وقد قاطع “الإخوان المسلمون” و”الوفد” جولة الإعادة بسبب التزوير الكبير والموثَّق الذي ارتُكِب خلال جولة التصويت الأولى الشهر الفائت.
نظرياً، تملك مصر نظام محاكم؛ لكن في الواقع غالباً ما يتم تجاهل القرارات القانونية عندما تتعارض مع السياسة الحكومية.
ويستمر النسيج الاقتصادي والاجتماعي المصري في التدهور. فعلى الرغم من تسجيل النمو السنوي في إجمالي الناتج المحلي نسبة 5 إلى 6 في المئة في الأعوام القليلة الماضية، لا ينعكس ذلك تحسناً في حياة المواطنين المصريين. فالثغرة الهائلة بين الأثرياء والفقراء تتسع يومياً. وقد اختفت الطبقة الوسطى. يعيش أكثر من أربعين في المئة من المصريين بأقل من دولارين في اليوم. وحوالى ثلاثين في المئة أمّيون – وهذا مأسوي لحضارة أعطت العالم مكتبة الإسكندرية قبل ما يزيد عن ألفَي عام. وفي القاهرة، المدينة العملاقة التي يفوق عدد سكانها 15 مليون نسمة، يعيش أكثر من نصف السكان في مدن الصفيح على مقربة من مجتمعات مسيَّجة تضاهي الوفرة والرخاء الموجودين في جنوب كاليفورنيا.
مصر بأمس الحاجة إلى بداية جديدة. الأصوات المعارِضة في تزايد. نأتي من مختلف التوجّهات والمهن ومن مختلف فئات المجتمع والأديان. لكننا نتكلّم بصوت واحد بحثاً عن العدالة الاجتماعية. نطالب بنظام حكم يخضع للمساءلة ويتمتع بالشفافية، مع منظومة مجدية للضوابط والتوازنات. نريد فرصاً اقتصادية لجميع المصريين والحق في العيش بكرامة وحرية. نتنظّم معاً حول التغيير السلمي. وعلى المجتمع الدولي أن يدعم نضالنا من أجل الحرية ويفي بتعهداته الدولية لناحية احترام حقوق الإنسان في مصر. لا يجب الدوس على حقوق الشعب المصري ومقايضتها بوعد مراوغ بالاستقرار.
الاستقرار الزائف الحالي المستند إلى القمع هو قنبلة موقوتة تقترب بشكل خطير من حافة الانفجار. لن يتحقق الاستقرار الدائم في مصر، كما في أي بلد آخر، إلا من خلال الديموقراطية الحقيقية التي تلبّي فعلاً حاجات شعبها بجميع أفراده وتطلّعاته.
“الواشنطن بوست”
ترجمة نسرين ناضر
(المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، حائز على جائزة نوبل للسلام لعام 2005)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى