صفحات العالم

تناقضات إفريقية

خيري منصور
لم ينفرد لوران غباغبو بهذا الموقف، فثمة من تشبثوا بمقاعدهم حتى تحولت قوائمها إلى ما يشبه عصا أيوب بحيث لم تسقط إلا بعد أن أكل السوس أحشاءها، لكن القارة الخضراء وهو التعبير الذي سمعته ذات يوم من جوليوس نيريري بعد مغادرته السلمية للسلطة في تنزانيا كبديل عن القارة السوداء، شهدت من النقائض ما لم تشهده قارة أخرى، ففيها أمثال ليوبولد سنجور الرئيس السنغالي الراحل والشاعر الذي سمي في فرنسا أورفيوس بسبب إصراره على الأمل ورجاء البشرية في انبعاث ما هو إنساني فيها، وفيها نيلسون مانديلا النموذج التربوي لا السياسي فقط، وهو الرجل الذي قضى ثلث العمر في زنزانة وأقرّ له العالم برمزية الحكمة فشكل نخبة من الحكماء لفض النزاعات المزمنة في عالمنا .
وفيها أيضاً جوليوس نيريري الذي أنهى حياته بفصل إنساني وهو يعمل في الأمم المتحدة لمصلحة تمدين العالم وإنقاذ ما تبقى منه خارج براثن الدكتاتوريات المتوحشة، وبالمقابل ثمة أفارقة مسكونون بوهم الامبراطورية الخالدة، فالحاكم في نظرهم لا يزول ولا يفنى ولا تنتهي صلاحيته حتى لو بقي منه مجرد ظل . . وليس بعيداً ذلك الزمن الذي كان الامبراطور فيه حين يموت يصطحب معه حاشية لخدمته وهذه الحاشية هي أناس عاديون وأبرياء، كان يتم قتلهم كي يخففوا من وحشة الامبراطور في رحلته الأخيرة .
إن مسألة التشبث بالسلطة أو القبول بتداولها سلمياً ليست سياسية بالدرجة الأولى، إنها ثقافية بامتياز وتربوية أيضاً، فالمناخات المشبعة بأفكار ومفاهيم ترى في الفرد كثافة أمة وقد تقطرت كالغابة في زجاجة عطر تفرز نماذج رهانها الوحيد هو السلطة أو الموت، وإلى أن تتحرر الإنسانية من هذه الثقافة المضادة والوبائية ستظل تكابد من حروب أهلية وشبه أهلية، ويدفع الناس الثمن، والأغرب من كل هذا هو عدم انتباه من يتشبثون بالمقاعد حتى يأكلها السوس إلى أن من يتخلى عن الحكم طواعية يصبح مثالاً للتكريم والتقدير، ويتاح له في ما تبقى من عمره أن يستثمر مكانته ونفوذه في شجون إنسانية، كمقاومة التجهيل والأوبئة والعنصرية .
ومعظم الكتابات المعمقة لا الأفقية أو الوصفية عن الديكتاتور تنتهي إلى أن هذا الجلاد هو ضحية أيضاً، لأنه لا يسلم من سوطه، لكن بطريقة أخرى، فهو إذ يتوهم الخلود وينسى أنه من البشر الفانين يتحول عندما يسجى في تابوته إلى مثار للاستنكار وأحياناً لشفقة يشوبها الكثير من الاشمئزاز .
إن من أغرب المفاهيم المتداولة في الحكم الاستبدادي هو مفهوم السيادة الوطنية، لأنه يختزل إلى أدنى حدود الشخصنة، بحيث تصبح حالات التبعية والاختراق وانتهاك المصير الوطني مجرد أمور لا تستحق التوقف عندها، مادام الطاغية بخير، وهذا ما يفسر لنا تلك الخرافة السياسية التي انتشرت في العالم الثالث خلال العقود الماضية، وهي أن الهزيمة والنصر يتعلقان فقط ببقاء الحاكم على قيد الحياة حتى لو لم يعد على قيد الحكم والسيادة .
لوران  غباغبو ليس استثناءً إفريقياً أو  آسيوياً أو لاتينياً، فثمة من سبقوه ممن رفعوا شعار القصر أو القبر .
وبدلاً من أن تتحول نهاياتهم غير السعيدة إلى دروس صالحة للاعتبار بها يحدث العكس بحيث يبالغ البعض في فلسفة احتكار السلطة وتحقيق مستوى من التوأمة العضوية بينهم وبينها .
والفارق بين نماذج عديدة من هذا الطراز وبين آخرين يقفون تحت اضاءات الميديا الحارقة هو أن هؤلاء يذهبون بالنموذج إلى أقصى مراحله، ويخسرون كل شيء بسبب غياب حاسة النقد الذاتي والمراجعة، فهم مصابون بمرضين يتعذر الشفاء منهما، الأول هو وهم المعصومية وكونهم دائماً على حق والثاني أنيميا الخيال، لأن الخيال هو ما يتيح لنا كبشر أن نقارن بين ما نراه وما نعيشه .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى