العجز السياسي اللبناني
سليمان تقي الدين
لا يملك اللبنانيون جواباً واحداً عن أي من مشكلاتهم . لا يقدرون على معالجة أمور تتعلَّق بأولويات عيشهم في أمن واستقرار . في كثير من الأحيان يراوغون أنفسهم بالحديث عن مسلمات أو ثوابت أو توافقات . جميع التسويات التي قامت بينهم على أهميتها في تطور فكرة الوطنية اللبنانية، تتعرض للمراجعة انطلاقاً من تطورات جديدة يفرضها الشأن الدولي المتطور . لهذه الأزمة الوجودية الكيانية التي تتكرّر لأسباب مختلفة وتحت عناوين متغيّرة مصدر واحد، هو الغبن في الشراكة بين جماعات هي أجسام حيّة غير ساكنة . لا صيغة تصمد في إدارة التنوع اللبناني ما لم تقم على مساواة حقيقية على مستوى من المستويات .
إما مساواة بين الجماعات وهذا يقود حتماً إلى تعميق الكيانات الطائفية واستقلالها بإدارة شؤونها وانفصالها بشكل من الأشكال عن هيمنة السلطة المركزية، وإما مساواة بين الأفراد كشرط من شروط بناء الدولة المركزية مع كل الضمانات الممكنة والجدّية للثقافات والهويات الفرعية .
لبنان بلد بمنازل كثيرة أو بلغات متعدّدة . لا يتشارك أهله بالمعاني الواحدة لمصطلحات السياسة . لا يقوم اجتماع سياسي مستقر إلاّ على مرجعية واحدة للقيم والمفاهيم الأساسية . هذا التشخيص واجب كمدخل لإزالة الغموض عن سبب العجز الأصلي الذي يتجلّى في الموقف من قضايا كسلاح المقاومة أو المحكمة الدولية أو السياسة الخارجية أو الإصلاح .
ما تقترحه الجماعات السياسية من موقعها الطائفي لا يصلح إلاّ لهدنات مؤقتة على أساس موازين القوى الظرفية . هذا الحجم الهائل من مساوئ النظام لا يضبطه إلاّ نظام وصاية وقوة أكبر من إرادة جميع الأفرقاء . لا تستطيع الحرية والديمقراطية كما نفهمها ونمارسها منذ نشأة هذه الدولة أن تدير مجتمعاً بهذه التناقضات . طالما لا يستخدم اللبنانيون ميزاناً واحداً لقياس الأمور فلن يكون هناك من أفق لحلول انطلاقاً من الجذور .
في لبنان تعدى الأمر تأكيد الحرص على حماية الاستقرار الأمني ومنع اندلاع الفتنة، هناك مستقبل “سلاح المقاومة” وتوازنات النظام الداخلية . عملياً نحن أمام مشروع سيحدد موقع لبنان في المواجهة مع “إسرائيل” وأشكالها، والعلاقات اللبنانية السورية ومستواها، وتوازنات السلطة وضوابط نزاعاتها ومواقع النخب السياسية والاقتصادية وضماناتها، ودور الرؤساء والمؤسسات، والهوامش التي ستظل مفتوحة لمصالح الدول الغربية وتأثيراتها، ولحدود الانضباط في ما يسمى احترام القرارات الدولية وكيفية التعامل معها . يكاد هذا المشروع يكون تأسيساً لمستقبل لبنان لزمن غير محدود .
من هنا تتزايد أهمية المبادرة اللبنانية أو الحراك اللبناني والخروج من سياسة الخنادق أو إضاعة الوقت . يفترض الفرقاء اللبنانيون عن خطأ أنهم يحتفظون بالكثير من امتيازاتهم الراهنة أو يصححون خللاً من هنا أو هناك . لكن الصراخ لا يحل مشكلة ولا التفاوض الصامت كذلك . على جميع الأطراف أن يحددوا هواجسهم بوضوح ومصالحهم الممكنة داخل المشترك اللبناني .
في الواقع تحوّل “حزب الله” إلى جزء مهم من الأمن الوطني اللبناني، ومن منظومة الأمن الإقليمي . من حق الحزب ان يحمي سلاحه وبنيته في تكامل مع الدولة اللبنانية عبر مؤسسة الجيش . لم تعد وظيفة الحزب “مقاومة” بالمعنى المعروف لذلك، عليه إذاً أن يقبل بشروط الاندراج الفعلي في مشروع الدولة وان يسهل مهمة حضورها في جميع الميادين . لكن على الدولة أن تكون بيئة حاضنة لا بيئة معادية كما تتمنى سفيرة الولايات المتحدة .
على الطرف الممثل للسنية السياسية المقلّد المبالغ للمارونية السياسية بعد “الطائف”، أن يتخلّى عن هذا المشروع المستحيل المأزوم سياسياً منذ ولادته، والمستدعي لعدم الاستقرار . يستحيل على هذا المشروع أن يستأنف استثمار البلد اقتصادياً بأولوياته هو، وبإدارته الرديفة والفاسدة أصلاً، التي جلبت المديونية وتشوهات النمو الاقتصادي والمشكلات الاجتماعية، ومعها الوصاية الدولية .
على الطرف المسيحي أن يغادر نهائياً بجميع تياراته فكرة التمسك بأية معادلة أو صيغة طائفية راهنة أو مستقبلية لممارسة دور فعّال أو مميز، ولا حتى الاحتفاظ بالمناصفة كحل مثالي، أو الاتكال على لعبة الثنائيات . على الدرزية السياسية أن تتخلص نهائياً من موروث تجربة الحرب الأهلية ونتائجها وأحكامها وتقاليدها، والانخراط مجدداً في الرهان على مشروع الدولة ومقتضاياتها . فلا تستبدل المشاركة باقتطاع النفوذ الجغرافي، ولا تقفل حراكها السياسي على فرضية الحروب الأهلية الدائمة . النظام الطائفي يأكلها منذ قرنين، والصراع الطائفي يقضي عليها دفعة واحدة .
إذا كانت هذه معطيات واقعية ظهّرتها تجربة العقود الماضية فمن الواجب أن تنطلق مبادرة لبنانية لحوار في العمق حول هذه العناوين والقضايا تديرها الرئاسة الأولى التي يعطيها الدستور هذه المهمة وهذا الدور . لكن حواراً كهذا لا تنتجه قوى وزعامات تتفاوض على المواقع ولا تتحاور أبداً . ثمة مؤسسة يلحظها الدستور هي “الهيئة الوطنية العليا” وثمة طاولة حوار مستحدثة تقبل بشرعيتها الطبقة السياسية، وثمة مؤسسات أخرى استحدثها الطائف كالمجلس الاقتصادي الاجتماعي، أو المجلس الوطني للإعلام، أو مجلس الأمن المركزي، إلى جانب النقابات والهيئات الاقتصادية ذات التمثيل، والمجالس الملّية ذاتها لإخراجها من حال الاستتباع السياسي إلى التفكير الحر . إلى الأحزاب ذاتها التي تضمر غير ما تعلن قياداتها الممسوكة بحبال الأمن والمال، إلى الجامعات التي تسهم في انتاج الشخصية اللبنانية .
قد يبدو هذا المتخيّل طوباوياً أو مقطوعاً عن السياق السياسي اليومي الذي يحتاج إلى مواكبة الحدث، لكنه هو الوجهة الفعلية بعد أن أعلنت الطبقة السياسية إفلاسها عن إدارة نظامها وتشاركت وتوافقت على التعطيل والتعطيل المتبادل حتى لأبسط القرارات غير تلك التي تحفظ امتيازاتها .
غداً سنسمع ان الجميع سيعود إلى “الطائف” أي إلى اقتسام السلطة وخيانة كل البنود الإصلاحية . زوّجت القوى السياسية “الطائف” مع القرار ،1559 ومع الوصاية، ومع الهدنة، ومع الاحتلال، ومع التحرير، ومع العلاقات المميزة وضدها، ومع “الدوحة”، ومع وصاية المجتمع الدولي، ومع استباحة البلد اقتصادياً، ومع دكتاتورية تغلغلت في كل الجماعات، ومع المحاصصة، ومع التوافقية والاستئثار . هناك حقيقة ساطعة هي العجز السياسي لدى كل فروع هذه الطبقة السياسية التي تستجدي الوصاية عن حماية البلد واستقراره وتطوره . فهل اللبنانيون كلهم كذلك؟ مازالت فرضية الأمل معقودة على معطيات ايجابية . شعب يقاوم ويصمد كل هذه الأزمات يستحق إدارة سياسية مختلفة .
الخليج