العلاقات السورية الأميركية تعنت وإخفاق
حسين العودات
استمر إخفاق السياسة السورية في مسعاها الدؤوب لتغيير الموقف الأميركي منها، وإقناع إدارة الرئيس أوباما بأن تتخلى عن السياسة المعادية لسوريا التي اختطها الرئيس بوش الابن ومحافظوه الجدد، والكف عن تطبيق مختلف أنواع الضغوط عليها، وإيقاف محاولاتها لتغيير سياسات النظام السوري الإقليمية والدولية بأية وسيلة.
انت العلاقات السورية الأميركية طوال معظم سنوات العقد الأول من الألفية الجديدة، مترددة متأرجحة تسير خطوة للأمام وخطوات للوراء، ولم تشهد استقراراً أو ثباتاً في معاييرها وممارساتها، ولم يستطع الطرفان إيجاد صيغة لبناء علاقات طبيعية، وبقيت غالبية القضايا الخلافية عالقة دون حل، وتهدد بمزيد من التراجع والتدهور.
بدأت الخلافات بين السياستين السورية والأميركية تطفو على السطح بشدة وبشكل مباشر، منذ أن فكرت إدارة الرئيس بوش بغزو العراق، وكانت العلاقات بين البلدين طبيعية منذ عام 1991 عندما أشركت سوريا قواتها العسكرية في تحرير الكويت بقيادة أميركية، إلا أن ذلك لم يخف الخشية السورية من مخاطر غزو العراق، والوقوف ضد هذا الغزو، لأنه أسلوب جديد في التعامل الأميركي مع البلدان العربية، ويمكن أن يكون سابقة تطبقها الإدارة الأميركية ضد بلدان أخرى، فضلاً عن «تهديد» وحدة أراضي العراق ومركزية حكومته، وتفجير الخلافات الطائفية بين فئات شعبه، والتواجد العسكري الأميركي فيه شرق سوريا، إضافة للقوى العسكرية العدوانية الإسرائيلية في غربها. وكل هذا يهدد أمن سوريا ونظامها السياسي، ويخلق تناقضات داخلية فيها.
وقد أكدت وثائق «ويكيليكس» التي تسربت مؤخراً، أن نوايا إدارة بوش الصغير بغزو سوريا كانت متوفرة لو نجح غزو العراق دون مفاجآت، وأنه لولا صمود المقاومة العراقية المبكر ونجاح نشاطها منذ الأسابيع الأولى، لأكملت الجيوش الأميركية طريقها في اتجاه سوريا.
وقد أدت هذه الأسباب بالسياسة السورية لأن لا تكتفي بشجب غزو العراق، بل كي تفتح أبوابها (وحدودها) أمام العراقيين (والسوريين) الذين يريدون الانضمام للمقاومة، كما استقبلت عشرات الألوف من العراقيين الذين رحلوا عن العراق هرباً من الغزو والفتن الداخلية.
لم تغفر إدارة بوش الابن للسياسة السورية هذا الموقف الرافض لغزو العراق، ووجدت فرصتها في معارضة التجديد للرئيس اللبناني السابق إميل لحود عام 1994 بناء على الرغبة السورية، واتخذت قراراً في مجلس الأمن يطالب سوريا بالانسحاب من لبنان، ثم اغتنمت حدث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فاتهمت سوريا بالاغتيال، وحشدت أعضاء مجلس الأمن، ودولاً عديدة في المنطقة وفي العالم، وتم اتخاذ قرارات أجبرت سوريا على سحب جيشها من لبنان، البالغ عدده ثلاثين ألف جندي. وفي الواقع انسحب معه نفوذها كله، ليس العسكري فحسب، بل السياسي والأمني أيضاً، وصار الموقف السوري في ذلك الوقت من أضعف حالاته دولياً وإقليمياً، وعندها فكرت الإدارة الأميركية جدياً في غزو سوريا، فسحبت سفيرها من دمشق (وما زالت سفارتها حتى الآن بدون سفير)، ثم فرضت عقوبات اقتصادية على سوريا، وحظرت التعامل مع بعض المسؤولين السوريين واتخذت قرارات بتجميد أموالهم ومنعت دخولهم للولايات المتحدة. وما زالت هذه العقوبات تتجدد عاماً بعد عام، وقد جُددت آخر مرة في الشهر الخامس من العام 2010، وأخفقت السياسة السورية في إقناع إدارة الرئيس أوباما بإلغائها.
تتهم الإدارة الأميركية (سواء إدارة بوش أم إدارة أوباما) السياسة السورية بأنها تدعم منظمات إرهابية (وتعني بذلك المنظمات الفلسطينية التي ما زالت سوريا ترحب بإقامتها على أراضيها)، وأنها تسعى لامتلاك صواريخ وأسلحة دمار شامل، وتنفذ برامج تسليح محظورة بالتعاون مع إيران وكوريا الشمالية، وأن ممارساتها السياسية تشكل خطراً على الأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية، وتقوض الأمن في العراق ولبنان، وتقيم تحالفاً استراتيجياً مع إيران، وتطالبها بنقل البندقية من كتف إلى كتف آخر، والانسجام مع مطالب السياسة الأميركية في المنطقة.
على عكس ما تقوله الإدارة الأميركية، وبناء على مقترحات السياسة الفرنسية وبعض الدول الأوروبية الأخرى، غيرت سوريا سياساتها الإقليمية تغييراً كبيراً في السنوات الأخيرة، فقبلت تسويات بين التيارات والأحزاب السياسية اللبنانية ما كانت لتقبلها سابقاً، وتبادلت التمثيل الدبلوماسي مع لبنان، ووافقت على انتخاب رئيس الجمهورية بالتوافق وتشكيل حكومة توافقية، وحصنت حدودها مع العراق في وجه أي ملتحق بالمقاومة، وهادنت جميع الفئات السياسية العراقية، ولم يعد بالإمكان اتهامها بأنها تتدخل في شؤون لبنان أو العراق بشكل مباشر، وفي الوقت نفسه أيدت علناً على الأقل محادثات المصالحة الفلسطينية، وحاولت إقناع حركة حماس بسلوك بعض الاعتدال تجاه المنظمات الفلسطينية الأخرى، وحتى تجاه إطلاق الصواريخ، وأعادت الدفء لعلاقاتها مع السعودية، بل نسقت معها في لبنان لأقصى درجات التنسيق، وهي تعمل جادة لإعادة الحيوية لعلاقاتها مع مصر، وأوحت في عدة مناسبات بأن علاقاتها مع إيران هي علاقات مصالح، وليست دائماً سمناً على عسل.
صار ممكناً في الخلاصة اعتبار السياسة السورية سياسة معتدلة ومتعاونة، إلا أن الإدارة الأميركية لم تقتنع بذلك، وما زالت مواقفها عدائية تجاه سوريا وترفض تحسين علاقاتها معها أو إعادتها إلى الوضع الطبيعي. وهكذا، كلما حاولت السياسة السورية السير خطوة للأمام في اتجاه تطوير العلاقات إيجابياً مع الإدارة الأميركية، تقوم هذه الأخيرة بالسير خطوة للوراء وتصر على تعنتها. ويتطابق الموقف الأميركي في ذلك، مع منطوق بيت الشعر: «كلما أنبت الزمان قناة، ركّب المرء في القناة سناناً»!
البيان