صفحات أخرى

«أكره اللون الأحمر» كتاب مُهدى الى غزة بأقلام أطفال سوريين

«مثلمـا يطيـب الجـرح عندمـا ننجـرح»
اياس محسن حسن
أصدرت المكتبة العمومية للأطفال باللاذقية، التابعة لجمعية «قوس قزح لطفولة أفضل»، عملاً جديداً تم إنجازه بأقلام خمسة وعشرين طفلاً من اللاذقية شمال سورية، تتراوح أعمارهم بين ستة وثلاثة عشر عاماً، بعنوان «أكره اللون الأحمر». والكتاب حصيلة لورشة عمل «رسالة الى غزة» والتي بادر بها ونظّمها، طوال ثلاثة أسابيع من شهري نيسان وأيار 2009، رسام الكاريكاتير السوري عصام حسن، بمساعدة بريء خليل، وبرعاية وتمويل «قوس قزح»، حول حصار غزة وتدميرها مطلع 2009، كما راقبه هؤلاء الأطفال وكما عاشوه.
تجربة العمل مع الأطفال ليست الأولى لعصام حسن ولا لناشره المتخصص. فالرسام يعمل منذ خمسة أعوام مع فريق من المتطوّعين في اللاذقية في مشروع شعبي فريد في سورية، هو «نادي الرسم المجاني للأطفال في اللاذقية»، كما كانت «قوس قزح» نشرت، منتصف 2008، كتاباً لا تنقصه الأناقة بعنوان «غيمة الشعر الوردية»، كان بدوره حصيلة ورشة «شعراء صغار» التي نسّقها عصام حسن (تشرين 22 أيار 2008، السفير 4 تموز 2008، الأخبار 10 أيلول 2008).
رسائل
توزّعت ورشة «رسالة الى غزة» على اثنتي عشرة جلسة، دارت في ساحة الشيخ ضاهر (مركز المدينة)، في حديقة البانوراما للألعاب، في مقهى «قصيدة نثر» وفي قاعة مكتبة الأطفال في المركز الثقافي العربي باللاذقية، كل منها خُصَّصت لـ«رسالة»، وصُنِّفت في اثني عشر باباً بحسب «المرسل إليه».
الرسائل أتت في عربية فصيحة في حين، دارجة سورية في آخر، مختلطة في غير مكان، وبسيطة على كل الأوجه، ولم تخلُ، أحياناً وبداهة، من بعض ما طبع الرأي العام والإعلام العربيين تجاه دمار غزة: «إن ذلك الألم لا تتحمله القلوب، لكن أتساءل كيف تتحمله يا قلب أم الشهيد؟ أنا أعرف أن الألم لم يعبر عنه» (زكريا، 10 سنوات، ص 41)… من ناحية أخرى وفي السياق إياه، فإن أطفال «رسالة الى غزة» لم يكونوا في منأى عن الغضب والكراهية اللذين بثّتهما في المنطقة التي ينتمون إليها، طوال عقود، معادلة ظالمة تنتصر لشراسة المحاصر وتكنولوجيا القتل المنهجي التي تجرّب صنوفها على مُحاصَر أعزل أو يكاد، يتفرّج العالم على موته البارد، كما في هذه الرسالة الى العدو بقلم هبة (13 سنة، ص55) التي تبدو وكأنها لا ترى من قاهر للمعتدي سوى الموت: «هل بإمكانك أن ترحل الى الأبد؟ أنا أعتقد أن الموت بانتظارك، فلا تخذله»، أو الوعيد القاسي الآخر بقلم حيدر (10 سنوات، ص47): «سوف أحفر قبرك بيدي هاتين، وكل يوم سأنزل الى قبرك وبدل أن أزرع وروداً سأزرع شوكاً يعذّبك».
لكن هذا الحضور للألم والغضب العامَّين لم يمنع النصوص إياها من الابتعاد عن السذاجة، على بساطتها، وعن البوح في أحيان أخرى كثيرة، وفي الغالب الأعم، عن تأمل طري وعفوي وشخصي للمجزرة، عن خيال حرّ وعن رقّة عالية. يكتب رامي (10 سنوات، ص21) عن مجايليه القتلى: «لما تكونوا نائمين وتحلمون. فجأة تظلون في الحلم نفسه. الى الأبد»، وتكتب سارة (13 سنة، ص11)، في رسالة الى «بيتها» في غزة، كأنما في تماهٍ مع المحاصَرين: «كم كنت جميلاً وأنت على الأرض. لكن أيضاً كنت جميلاً عندما طرت في السماء. وأنت تطير تذكرت عندما حاولت أن أجعل غطاء الطاولة أسود فحاولت أن أحرقَه، لكنني لم أنجح. الآن، احترق كله».
أما القتل، وفي حين تعد روز (9 سنوات، ص81) في نص قصير ومتين موجه الى الحكّام، بخلاص واضح المعالم دباباته كثيرة وطريقه معروف، رغم كثرة الاحتمالات: «عندي أفكار كثيرة لنصرة الفلسطينيين/ وهي أن نتحد مع بعضنا البعض/ أو يأتي نسر يأخذهم ويطير/ أو تساعدهم الجامعة العربية/ أو القرار الدولي/ أو الجنود/ أو تأتي دبابات كثيرة»، وفي حين يأمر، بكبرياء أخشن من صوته، زكريا ذو السنوات العشر (ص51) جيش الاحتلال: «أزح قواتك من فلسطين. أوقف القتل والتدمير»، فإن الآخرين لم يخجلوا من قول إن هذا العدو، ببساطة، مخيف، لأنه يقتل، لأن الموت كريه. تكتب نور (12 سنة، ص50): «غدار. كم أنت غدار. أخاف منك كثيراً».
الغضب والكره والتحدي والخوف لم تكن وحدها الرسائل الموجهة الى العدو. فلدى عُلا (11 سنة، ص53)، دروساً في الحياة تعطيها له، وشروحاً تقدمها حين يبدو لها أن شيئاً جوهرياً قد فاته: «فكّر. ألم تكن طفلاً صغيراً يحب اللعب؟ فلم تُخلق كبيراً بل خُلقت صغيراً، فأشعر قليلاً بأولادك. إذا جاء عدو لهم مثل الجراثيم، وأماتهم، ماذا يحصل؟ ألا تقهر وتحزن؟ أنت جرثومة أطفال غزة».
كذلك، فإن دفاع الصغار عن طفولتهم لم يكن ناقصاً ولا متحيّزاً، ولم يبدُ أن مراسلي «لا أحبّ اللون الأحمر» ينكرون لأطفال العدو الذي يكرهون ويخشون، انتماءهم الى الطفولة نفسها، بل أتت كتاباتهم وكأنها دعوة للتواطؤ، بحكم «العمر المشترك»: «ما رأيك إذا قلت لك إن أباك قد قتل الكثير من الأطفال، مثلك»، تكتب إنانا (9 سنوات، ص59).
هكذا، ومثلما يواسي جعفر (10 سنوات، ص33) صديقه الغزاوي واعداً إياه باستراحة من تعب المجازر، وبنزهة تفوق الخيال: «بس تجي لعندي رح اعلمك كل شي بتحبو. نحنا منعرف إنو الحصار إسّاتو موجود بغزة. أكيد ما عم ترتاح. أنا رح جيب خلد وننزل أنا واياك تحت الأرض حتى آخذك مشوار»، فإن آخرين قد أبدوا التواطؤ إياه مع أطفال العدو، فنقلوا، في غير مكان، إحساساً مدهشاً بأن من يقتل أولاد الآخرين، يُعد جنازةً لأولاده. ولعل خبراء علم الاجتماع السياسي، حين يفكّرون بمستقبل أجيال المهاجرين الى فلسطين في علاقتهم بجوارهم، في ظل الكره والقطيعة اللذين راكمتهما دولتهم في محيطها طوال أكثر من نصف قرن، لن يصلوا الى نتيجة أوضح وأهم مما كتبته ندى (7 سنوات، ص63) في «خطّتها» الموجّهة الى أطفال إسرائيل: «هل ترون كيف فعل أهلكم؟ سأساعدهم لأنكم تحتاجون لمساعدة، كي لا يقضي عليكم أهلكم. قوموا بالخطة: أولاً تتسللون وتأخذون المال. وبعدها تركبون بالقطار الى الخارج ثم تذهبون الى سورية، في اللاذقية، ضاحية تشرين عند الغابة: يكون هناك بيتي، كي تلعبوا معي. أرجو أن تفعلوا ما قلت لكم، وإلا ستعيشون حياة بائسة الى الأبد»…!
أولاد عصام حسن وقوس قزح لا يحبون لون حاضرهم الأمر، ويقولون قلقهم وخوفهم وعذوبتهم في كتابهم الجديد، ويَعدون بأصابع صغيرة قلوب الأمهات السكيرات أن «لا تحزني، سأعيد الأوراق الى مكانها عندما أكبر»، ويعلّقون أبصارهم على غد بألوان جديدة، شاعريين بما يليق بطراوتهم، متمنين لغزة المتعبة أن ترجع بيوتها «مثلما كانت من زمان. مثلما يطيب الجرح عندما ننجرح».
(كاتب سوري)
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى