اللعب والكتابة: متى يكون الجسد العربي ليس جريحاً؟
يوسف أبولوز
(1)
قلم الكاتب الأراغويي “ادواردو غاليانو” رشيق وسريع كأنه لاعب كرة قدم هو الذي كان يمارس رسم الكاريكاتور أيضاً، وهو الذي أحب ذات يوم أن يصبح لاعب كرة قدم، بحسب كتابه الممتع “كرة القدم في الشمس والظل” الذي ترجمه صالح علماني بمتعة “رياضية” أكبر، ولكن “غاليانو” لم يحظ بهذه الرياضة الجماهيرية النجومية، واتجه الى الكتابة ليلعب على طريقته هذه المرة من دون رقابة حكّام دوليين، ومن دون “كرت أصفر” يوقفه عن الكتابة، والأهم، من دون جماهير تصفق له في المدرجات المكتظة بالمشجعين حتى درجة العُصاب.
يخبرنا “غاليانو” في كتابه المذكور عن “البير كامو” أنه كان حارس مرمى “يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم في جامعة الجزائر”، ومن سياق “غاليانو” الكاريكاتوري حول “كامو” يقول: “.. اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل، فكامو، ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادراً على ممارسة ترف الركض في الملعب، وكل ليلة كانت الجدة تتفحص نعل حذائه وتضربه إذا ما وجدته متآكلاً..”.. لكن “كامو” الفاشل في كرة القدم تعلم من فشله في الملعب أن ينجح في ملعب آخر، وهو ملعب الكتابة.. “.. تعلمت أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها..”، وتعلم أيضاً “بعض أسرار الروح البشرية وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة، على امتداد كتبه” كما يقول “غاليانو”.
ثم يذهب “غاليانو” الى الأرجنتين، ويشير الى خفة “بورخيس” وهو يلقي محاضرة حول موضوع الخلود، كما يشير الكتاب، في اليوم والساعة.. “..التي كان فيها المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978”.
وكان الروائي الأمريكي “أرنست همنغواي” ملاكماً.. يلعب بيديه اللتين أطلق في واحدة منهما الرصاص على نفسه، ولكن، بعدما قطع زماناً من الكتابة جعلته واحداً من أبرز كتّاب فن الرواية في القرن العشرين.
وفي ما أظن، أن تجربة الكاتب المغربي محمد شكري في الكتابة قد بدأت هي الأخرى عن طريق اللعب هو الذي تعلم الكتابة متأخراً، ولكن نحوله، كما يبدو لي تمّ تعويضه في “الخبز الحافي” الى نوع من “عضلات” رمزية أوصلته الى أكثر من 20 لغة حية في العالم.
وذات يوم قال لي الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي إنه كان من العدّائين الأوائل وهو شاب، كما كان الكاتب الساخر الأول في الأردن الآن محمد طملية عدّاء من طراز أولي، ولكن كل ذلك انتهى الى نوع من الكتابة.. الى نوع من اللعب بالكتابة، بطريقة رياضية رشيقة وسريعة.. خفيفة وليست قابلة للسمنة على الإطلاق.
وأظن، هنا، أن كل كاتب ممتع ومشهور نوعاً ما.. إنما ينطوي داخله على لاعب ماهر.. رياضي تماماً، عدّاء تماماً.. سبّاح، أو مصارع، وربما كان ملاكماً، إذا كانت الكتابة بالنسبة إليه هي مسألة دفاع عن قضية بعينها، وعن كيان إنساني ومعرفي وثقافي بعينه.
كان “جان جينيه” بهذا المعنى سبّاحاً في بحر أشواق من اليابسة، وكان “هرمان هيسه” يمارس رياضة الجري البطيء نحو فلسفة الشرق، والروائي السوري حنّا مينة، الذي امتلك شجاعة اللاعب والكاتب، مؤخراً، فأعلن على الملأ وصيته بحيث يموت بلا أي مظهر رثائي أو تأبيني.. كان مينة، كما يبدو لي حارس مرمى هو الآخر، فلم تُرمَ روايته التي تسرد سيرة البحر وسفر برلك وبؤس الغرباء عن الحياة.. بحجر.
الكتابة لعب.. أو، هي لعبة..
لكن، كما في ملعب الرياضة حيث لا وساطة ولا دجل ولا ادعاء ولا مبالغة ولا افتتان بنرجسية مفاجئة، ولا تاريخ ولا ذاكرة.. حيث لا شيء من هذا القبيل، وهنا، يخرج اللاعب من “الحلبة” مشكوراً، قبل أن يرميه الجمهور بالبيض والبطاطا.. كذلك، في ملعب الكتابة، يخرج الفائضون على الحاجة الموضوعية لروح الكتابة الى خارجها، بهدوء، وباقتناع داخلي أن “الملعب” في رمزية ما له.. إنما هو أشبه بالجسد الذي يلفظ كل عضو غريب عليه.
والكتابة، لعب أو لعبة، لأنها لذة فكرية وفلسفية، ولأنها هاجس ومسؤولية وحمل ثقيل جداً، ولأنها مصير وكيان وحياة وموت أيضاً، ولذلك يلعب الكاتب ببطء، ويكتشف في داخله غربته وعذابه وأشواقه وأحلامه.. يبكي أحياناً، ويفرح أحياناً.. عندما ينتصر لنفسه في نص شعري أو روائي أو “موسيقي” أو “تشكيل” ويشعر كطفل أنه امتلك الدنيا كلّها بذلك الوهج الذي يشع من عينيه في تلك اللحظة التي لا تُنسى، وهي الحالة ذاتها، التي نعانيها في كيان اللاعب المنتصر في رمية رمح أو في امتطاء حصان أو جولة سباحة، أو تسديدة كرة، أو، حتى، تسديدة لكمة.
.. ولكن، وبسرعة، ماذا لو التقى اللاعب والكاتب على مائدة واحدة، في حوار لا يخلو من فضول كل منهما لمعرفة الآخر.. اللاعب مثلاً.. كيف يلعب ويربح أو يخسر، ثم، الكاتب أيضاً، كيف يلعب ويربح أو يخسر؟
أظن أن للاثنين “نصّين” مختلفين وثقافتين مختلفتين، فالأول يلعب عادة في الهواء الطلق وفي الحياة الطليقة، فيما، يلعب الثاني (أي الكاتب)، أحياناً، وربما دائماً، في حجرة مغلقة قليلة الهواء وقليلة الإضاءة.. الأول يركض كثيراً، والثاني، أحياناً ينام هو الآخر كثيراً، ولذلك، تأتي نتيجة الفوز مختلفة، فقد يربح لاعب كرة القدم في عزّ شبابه، فيما، يربح لاعب الكتابة وهو في عزّ شيخوخته، ويا لها من مفارقة حارّة للأول، وباردة جداً للثاني.
(2)
أستعير من المفكر المغربي المذهل عبدالكبير الخطيبي عنوان كتابه “الجسد العربي الجريح”.. مدوراً إياه الى سؤال بسيط جداً.. “.. متى يكون الجسد العربي ليس جريحاً”؟
في اللعب، تحديداً، في اللعب الطفولي الليلي، عندما كانت جدّاتنا وأمهاتنا يتركن لنا الليل لكي نلعب قبل النوم.. كان الخوف هو الذي يغلّف تلك اللعبة الطفولية الليلية، فهناك دائماً “الجنية” التي تختطف الولد من حضن أمه، وهناك “صاحب الرجل المسلوخة”، وهناك، عصابة “الكف الأسود”، وهناك “النسر الذي ينقض على أقرب تائه عن الطريق”.. وهناك “الذئب” الذي له حصّة من الغنم ومن البشر أيضاً.
لعبة طفولتنا كانت لعبة خوف، ولذلك، وربما حتى الآن، لم تتحرر أجسادنا من ذلك الخوف، فبقيت جريحة، وعندما كبرت هذه الأجساد وأعياها التعب.. ما عاد لها أن تلعب.
لعبنا كان خائفاً.. ليس حراً بالكامل.. جريحاً بالكامل.. حتى أجسادنا – بحسب الخطيبي – أصبحت موشومة، وممتلكة، ومحصورة في كتلة ثقافية وسياسية وفكرية وحتى اقتصادية محددة في كل الأحوال، وفي التحديد، دائماً، يقل اللعب.
لكن الأمر لا يتعلق باستدعاء الميثولوجيا والأساطير والمعتقدات منذ الطفولة فقط، فهذا الجسد العربي الجريح الذي لا يلعب، لأنه محكوم عليه منذ الطفولة بألا يلعب.. هذا الجسد، هو اليوم جريح في فلسطين وفي بغداد، وحتى في لبنان.. جسد جريح دائم النزف، وإن لم يكن النزيف دماً، فالنزيف دموعاً على تلك الصورة اليومية المنهكة، ولأنه جسد جريح نازف وبائس، فإنه من المستحيل أن يلعب، وبالتالي، لا يكتب.
وهذه صورة ماثلة تماماً لأي متابع للروح العربية في السنوات، العشرين الأخيرة، السنوات التي تراجعت فيها الكتابة على صعيد الشعر تحديداً، فيما عدا محمود درويش وآخرين قلّة كانوا يرفعون من شأن هذه الروح بتلك اللياقة الإبداعية التي كانت تنظر الى انهيار قلوبنا على هذا النحو الفادح بعين شعرية تماماً، ومع ذلك، كانت تلك القلة أو “الأقلية” من الشعراء على وجه الخصوص تبعث إلينا برسائل سرية وعلنية معاً تفيد بأن الجسد العربي لا يمكنه أن يظل جريحاً الى الأبد.
.. إذاً.. اللعب سياسة.
كما الكتابة.. سياسة، ليس بمعناها الدولي والإداري والنظمي، وإنما، بمعنى، الإمساك باللغة وتحويلها الى لعبة.. لعبة كتابة صافية من الكراهية، ومن الحرب، ومن الضغينة، ومن الكذب، ومن الارتزاق، ومن التسلّق.. الخ.
.. الكتابة.. بمعنى تحويلها الى أخلاق ونبل داخلي وحياء إنساني وروح شغوفة بالحياة.
.. الكتابة سياسة.. واللعب سياسة.. بمعنى تحويلهما الى فردوس من البهجة والغبطة التي لا توصف لا بالشعر، ولا بالنثر.
.. اللعب الحرّ والكتابة الحرّة هما المرهم البارد الذي يوقف دم ودموع الجسد العربي ويحولانه من “جريح” الى “زهرة”.
وهنا، ومرة ثانية، ماذا لو التقى اللاعب والكاتب على مائدة واحدة، ليسأل أحدهما الآخر:.. ماذا كتبت؟.. ماذا تكتب؟ أية سياسة وأي سائس في الكتابة؟
.. اللاعب يسوس “لعبته” بمعايير تختلف عن معايير الكاتب، فهو، أي اللاعب بمعناه المباشر، يحدّق مباشرة الى عيني خصمه. يقرأ هاتين العينين، ويسبرهما سريعاً.. سريعاً عليه أن يقرأ عينيّ خصمه وإلا خسر نصف اللعبة، ومن هناك، من العينين، تبدأ الجولة، وتتحدد، فيما إذا كانت خاسرة أو رابحة.
الكاتب.. يسوس “لعبته” هو الآخر.
في البداية، يعود الى ماضيه، ويعاين كالغريب عزلته.. وللعزلة أيضاً، عينان قابلتان للسبر والقراءة.
الكاتب.. لاعب يلعب بمفرده في كل الأحوال، وهو ليس في حاجة الى فريق.
الكاتب لا يحتاج الى ميدالية ذهب، ثم، هو أصلاً، لا يكتب من أجل الذهب ولا من أجل التتويج أخيراً بذلك الوشاح الذي ينقله من الحارة الى العالم.
هكذا، كتب نجيب محفوظ من قلب الحارة المصرية، وهو موظف حكومي.. مواظب على دوام يومي روتيني لم يمنعه من “اللعب” في محيطه الحيوي الذي عرفه جيداً، وأدركه جيداً، بتلك الثياب الكلاسيكية والنكتة المصنوعة بسرعة البديهة، وهو في كل ذلك كان “يلعب” على تاريخ أو يلعب بتاريخ هو واحد من الشهود الأوفياء عليه.
باختصار..
حتى لعبة “النرد” تحتاج الى اثنين. وكل لعبة كانت في أرض وعلى مرأى من متفرجين وعلى مرأى من مراقبين، إنما تحتاج الى أكثر من شخص لكي تصبح لعبة.. إلا لعبة الكاتب، فهي فردية تماماً.. خاصة تماماً، وعندما تنكشف للمتفرج تصبح ليست لعبة، فالمتفرج فضولي، متطفل في الغالب، يسطو عليك من دون أن تدري، ويستعمل أدواتك ككاتب، وبسرعة، يوقّعها باسمه الطارئ.
أخيراً.. نعود الى “ادواردو غاليانو” و”البير كامو” هذا الأخير الذي قال: .. “.. إنني مدين الى كرة القدم بكل ما أعرفه عن الأخلاق”.
.. فكم من أخلاق لدى اللاعب والكاتب.. لكي يكونا جسدين بلا جراح؟