تعميم ثقافة الفساد
كريم عكاري
تقول هاجوت لابيل رئيسة منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الصادر في عام 2007 : ” يبقى الفساد أداة استنزاف للثروات التي يكون قطاع التعليم والصحة والبنية التحتية بأمس الحاجة لها ، ويجب على الدول التي تقبع في اخر جدول الفساد أخذ هذه النتائج بجدية والعمل الآن لتعزيز المسؤولية في المؤسسات العامة . “
في خضم الانزلاق المجتمعي العام نحو الاستمتاع العرضي والفارغ والخالي من المضامين الأساسية التي تُبنى على أساس صيانة دور الفرد وحماية مقدراته، وتهيئة الشروط الضرورية لايجاد المؤسسات والهيئات العامة المستقرة التي تحميه وتحصنه ، حتى يكون بامكانه إستعادة انتاج كينونته ودوره في عالم أضحى شديد التعقيد بألوانه وأساليبه وسفوره في السباق المحموم صوب تحقيق الثراء ولو على حساب رقاب العباد ، وبعيداً عن القهر السياسي ، يرزح الناس وخاصة من الأسر الفقيرة تحت نير الفساد الكاوي والمتنامي ، ويغدو المجتمع متاهة من دون أي ضابط أو ناظم.
ان المشكلة في مسألة الفساد في انها تتبدى في كل مستويات المجتمع ، بل وتنخرعظامه من أعلاها الى ادناها، وهذا لا يقتصر على بلد بعينه او مجموعة من البلدان ، فجميع البلدان في العالم مصابة بهذا المرض ، لكن الاختلاف يكمن في درجته وفي حجم انتشاره وآلياته ومن يقف وراءه ويرعاه ، فالمسألة تختلف عن كونها ظاهرة عرضية طارئة أو تتركز في مكان ما في هذه المؤسسة او تلك ، عن كونها حالة عامة تتغلغل في كل مسامات المجتمع ( في بناه الاقتصادية والسياسية والقضائية ) لدرجة يمكن أن تفرض نفسها كقانون سائد ـ قاعدة ـ وبالتالي تترك هامشاً ضيقا لا يقوى على الصمود أمامها هو الاستثناء هو الطبيعي والمفضي الى حياة إنسانية يكون عنوانها العريض العدالة وحكم القانون
، وقبل الدخول في أسباب الفساد ، لا بد من القول ان أي عمل او مساهمة أو إجراء تكون الغاية من وراءه تحقيق المصلحة الذاتية لفرد أو لمجموعة ، ومهما كانت نوعية وأشكال الألوان التي تسُمها وتزينها ، يجب أن تكون على حساب مصلحة المجتمع العامة، هذا الذي ينبغي ان يكون غاية جميع أبناءه في تطويره ورفع شأنه وصيانته، بدلاً من أن يصبح مرتعاً للفساد والمفسدين.
ما هي الأسباب الفعلية المولدة للفساد ؟
أولاً ، تولد الفساد عبر التاريخ عن حالة دوام واستمرارية نهج سياسي يظن انه أبدي لا يهادن حتى في الإشارة الى بعض من مظاهر الفساد ، وتعني الإشارة بالنسبة له تقويض فعلي لإركانه ، ولسان حاله يقول الصغيرة مثلها مثل الكبيرة ، وحتى يتأبد ويتواصل هذا المسار لا بد من موجبات وأسس يرتكز عليها في سياق عملية القهر والاستبعاد ، والحصول في نهاية المطاف على شبكات الدعم والدوائر الموالية والمنفذة وفق علاقات وصلات هيراركية تمتاز بالطاعة العمياء والصلابة والانشداد المتين والمؤثر الى الدائرة الأصغر التي تمثل مركز القيادة والتوجيه، وفي سياق هذه الآلية المتشابكة تتم عملية التفاعل التي يتمخض عنها جني الأرباح والفوائد والحضور وكسب المزيد من الأدوار والنفوذ ، وكل ذلك يتحرك على مسرح لغة المصالح ، ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام انتهاءاً لدور العديد من المؤسسات والأجهزة التي تلعب ولعبت أدواراً هاماً وحاسمة في الإطار المجتمعي العام، بل على العكس ، تشكل رافدا قوياً لها ومؤازراً في تحصين هذا النزوع الدائم والمتدفق لترويض المزيد من الناس وتوسيع شبكات الدعم المعتمدة أساساً على ضخ المنافع المتعددة الأشكال : مادية او معنوية او حظوة أو محسوبية او قرابة ..أو .. الخ .
في هذا الإطار تتعاظم مفاعيل المعضلة بكل المعاني وخاصة بالمعنى الأخلاقي ، طالما تلقى الرعاية والاستحسان من أعلى المستويات المسؤولة، وطالما تحل وتصدر قيماً أخلاقية وسياسية لا صلة لها بالتطلع الجوهري لكينونة الإنسان في ان يدرك حقيقة حقوقه وواجباته، ويسعى عبر ذلك لتحديد خياراته التي يراها تنسجم وتطلعاته وطموحاته، لكنه وعلى ارض الواقع يجد كل ما لا يطاق، وكل ما لا يعبر عن همومه ومشاكله ، بل ويمكن ان يعيش حالة أشبه بالانفصال عن محيطه ، فكل ما يحتدم فيه من آلاعيب وأقاويل وشطارات تعكس أبعاداً نفسية واجتماعية تبعده أكثر فأكثر عن هذا الفضاء الموبوء ، وهنا تحصل المواجهة والاحتدام ولنقل الحرب النفسية بين هذه الحال بكل تشعباتها وبين من يصر على الدفاع عن ذاته أمام هذا الهول الفظيع من الممارسات ، لدرجة يرى ذاته محاصرة ولا من مخرج يمكن ان ينقذه من هذا الجحيم . وبالمحصلة تنقلب الأشياء وتضيع الحقوق ، وتصل بالنتيجة الى انك لا تستطيع ان تقول عن هذا صحيحاً أو خطأً فكل شيء جائز وممكن وتصبح مكشوف الظهر في ظل استفحالها، إضافة الى عدم وجود لأية آفاق تجعلك تتنبأ في احتمال تراجعها أو الحد من آثارها، وكأن الحديث عن الفساد وضرورة محاربته لا يعني سواء تعميق هذا النهج وحماية القائمين عليه، وبالتالي منحهم شرعية جديدة ، حيث تنبع من هنا فداحة حجم المشكلات والأعباء التي ُتلقى على عاتق تلك القوى التي يمكن أن يكون لها مصلحة حقيقية في التغيير، لكن المعادلة تصبح أصعب لجهة انعدام التكافؤ بين المهام المطروحة وحجم القوى الموظفة بغاية مواجهة الواقع أو الحد من مفاقمته.
ثانياً ، ان أسوأ شيء في حياة الانسان أن تتحكم في مصيره شريعة الغاب ، والأسوأ أيضاً هو صلافتها وتماديها، لأنها تحاول أن تخلق عنده وضعاً مأساوياً يهدده ويزيد من مضاعفاته على مستقبله، فالبلدان التي تعاني من دخول متدنية تكون فيها نسبة الفقر عالية ، وتبرز في هذه البلدان العلاقة القوية والواضحة بين الفساد والفقر وهذا ما تدلل عليه نتائج مؤشر عام 2007 لمنظمة الشفافية الدولية ، حيث حصلت 40% من الدول تقريباً على نتيجة أقل من ثلاثة نقاط ، وجميع هذه الدول منخفضة الدخل ، فقد حصلت كل من الصومال وميانمار على أدنى درجة بمقدار 1،4 ، بينما تربعت الدنمارك على قمة المؤشر 9،4 مع كل من فلندة ونيوزيلاندا ( يُقيم المؤشر الدول على مقياس من صفر الى عشرة حيث يشير الصفر الى مستويات عالية من إدراك الفساد بينما تمثل عشرة أقل إدراكاً للفساد ) .
ثالثاً ، عدم وجود نظام قضائي مستقل ومهني ، ويعني هذا نفي الحقوق الخاصة بالفرد ودخول الفساد الى منظومة الحقوق الأساسية في المساواة في المعاملة أمام القانون. قال المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية كوبوس دي سواردت ” تجربتنا أثبتت أن التزام القيادات العليا هي من تقوي أو تقضي على الجهود الرامية الى مكافحة الفساد “.
رابعاً ، غياب الشفافية ، فالشفافية تعني الحصول على المعلومات ومهما كانت طبيعتها وفي مختلف المجالات ( الشفافية في الادارة وفي جمع الأرباح والتكاليف وفي تعزيز المراقبة وفي الحد من المسؤولين الفاسدين ) ان الفساد وانعدام الشفافية تظهران وعلى نحو واضح أنهما لاتزالان تمثلان التحدي الهام جداً في وجه تنمية المنطقة.
خامساً ، الافتقار لوجود مؤسسات المجتمع المدني التي تسعى لإقامة الجسور بينها وبين المواطنين باعتبارها الاستراتيجية الأهم في البلدان النامية، لكونها تلعب دوراً نشطاً وهاماً كمراقب ، من خلال تشجيع المواطنيين على ان يكون لهم الحق في ان يعرفوا أين تذهب الأموال ومن أين تأتي، والى ما هنالك من قضايا .
لعل الحد الحضاري العام وفر فضاءات رحبة لمعاينة مجمل مظاهر الفساد ومحاربته ، الا أننا لا نزال بعيدين عن الاستفادة منها واستثمارها للأغراض التي نتوخها، ويعود السبب في ذلك إلى غياب الجدية والمبادرة من قبل النخب السياسية الحاكمة التي تتحدث عن الاصلاح وهي غير قادرة على تحمل أعباءه لوحدها، طالما هيمنت على مؤسساتها العامة شتى أشكال الفساد من واسطة ورشاوي ومحسوبية ، مما جعل من الاصلاح أمراً صعباً وبطيئاً ويتطلب طاقات هائلة من جهود بشرية نزيهة ومسؤولة وخبرات أكبر وثروات . فهل نحن على هذا المستوى من المسؤولية ؟.
خاص – صفحات سورية –