… عن أزمة الجمهوريّات العربيّة
عمر قدور *
ما هو الأفق الذي تتّجه إليه الأنظمة العربيّة الجمهوريّة؟ هذا واحد من الأسئلة المحيّرة التي لا تعدو الإجابة عنه أن تكون في باب التكهّن المحض، إذا لم نقل إنّ الأفق مجهول إلى حدّ يبدو معه التساؤل ضرباً من العبث. وبصرف النظر عن ماهية الإجابات المفترضة فإنّ هذه الإجابات تفتقر غالباً إلى السند الفكريّ الذي قد يبرّر معقوليّتها، حيث إنّ الأدبيّات السياسيّة الرائجة تبدو أكثر انشغالاً بتوصيف واقع الحال من اشتغالها على الأزمة البنيويّة التي تكاد تكون السمة الجامعة والمميّزة للجمهوريّات العربيّة، والتي توحي بانسداد الأفق، الأمر الذي يترك الجهد التحليليّ، على أهميّته أحياناً، دون مستوى استشراف ممكنات التغيير إن وجدت.
لا تقتصر أزمة الجمهوريّات العربيّة على ما يمكن أن نطلقه بحقّها من توصيفات تبدأ بالفساد المؤسّساتيّ وقد لا تنتهي بالاستبداد، إذ إنّ القلق المنهجيّ الذي يتسبّب فيه هذا النوع من الأنظمة ربّما يكون واحداً من أخطر تجلياتها، وإن لم يكن ملحوظاً أسوة بالوقائع السياسيّة المباشرة. بل إنّ القلق المنهجيّ يظهر كسمة عامّة لمشاريع المعارضة في أكثر من بلد عربيّ، حيث يتوخّى بعضها الانتقال إلى النظام الجمهوريّ بالمعنى الكلاسيكيّ المتعارف عليه في الفكر السياسيّ العالميّ، من دون أن يجد مساراً ممكناً للمسافة الفاصلة بين الواقع والمثال، وكأنّ ما يستعصي على الحلّ في المجال الواقعيّ يتردّد صداه في الفكر السياسيّ المحايث له، فتبقى الأطروحات البديلة مبتسرة في إطار الشعار أو الأمنيات، ولا تندرج فيما تمكن تسميته بجدل الفكر والواقع.
بل إنّ حالة المراوحة في المكان التي تعيشها هذه الأنظمة لا تشي بمسار لها يمكن البناء عليه نظريّاً، وكأنّ شدّة احتكار السلطة وضعتها في موقع العقم، أو في وضعيّة التوالد الذاتيّ في غياب مطلق للآخر الذي يحمل شبهة التغيير. فيقتصر الرهان، والحال هذه، على المزايا الشخصيّة للحاكم أو للمرشّح لخلافته، وقد يُعوّل على هذه المزايا لإحداث تغيير فقدت مؤسّسة الحكم إمكانيّة اجتراحه؛ أي أنّ الكاريزما الشخصيّة أيضاً لا تتأتّى من منافسة بين مرشّحين عدّة بل من التسليم بانعدام الخيارات، ومن الوهم الذي يصطنعه اليأس. إنّ احتكار القرار لمصلحة شخص أو أشخاص معدودين يبدّد وهم المؤسّسات الموجودة شكلاً، والمفرغة من الديناميكيّة مضموناً، ما يدفع إلى شخصنة العمل السياسيّ واستقطابه لمصلحة صاحب القرار، سواء على سبيل مخالفته أو على سبيل الرهان عليه، والنتيجة في الحالتين هي إغفال وجود المؤسّسات التي يُفترض بها أن تكون مطرح العمل السياسيّ، والتي تحوّلت بالفعل إلى قناع فقد قدرته التجميليّة.
من جانب آخر، لقد انقضى الزمن الذي أوحى فيه بعض هذه الجمهوريّات بالالتحاق بالنموذج التوتاليتاري الذي كان موجوداً أيّام الحرب الباردة، وانكشف زيف المشاريع الأيديولوجيّة التي لم توضع يوماً قيد التنفيذ، وعلى الصعيد الفكريّ تراجعت التنظيرات التي أُخذت بفكرة توتاليتاريّة هذه الأنظمة، ومن ثمّ التنبّؤ بنهايتها على غرار ما حصل في أوروبا الشرقيّة. لم يتخلخل استقرار الجمهوريّات العربيّة بفعل المتغيّرات الدوليّة، ولم تتأثّر بتراجع بريق الأيديولوجيّات التي تدّعيها، وعلى رغم افتقادها المرونة الكافية إلا أنّها عوّضت كلّ ذلك بالإرث الاحتكاريّ المجرّد الذي ألغى الحراك السياسيّ الداخليّ، وحجبَ فكرة السياسة عن مجتمعات أُبقيت من دون الاندراج في مفاهيمها المعاصرة، وإذا كان من حسنة تسجّل على هذا الصعيد فهي فقدان ادّعاء المشروع وبريقه، والتواضع إلى مستوى السلطة فقط.
يجمع النمط الهجين المسمّى «جمهوريّة» امتيازات المُلْك مع أكبر صلاحيّات معروفة عالميّاً للنظام الرئاسيّ، هذا على صعيد الدساتير العربيّة، وهي كما نعلم قابلة للتعديل بمشيئة رأس الهرم. وعلى سبيل المثال، شهدنا في إحدى الدول تعديلاً لعدد الولايات الرئاسيّة المسموح بها من أجل إتاحة الفرصة لبقاء الحاكم الذي وضع بنفسه التعديل الأول أيضاً، وليس في الأمر بدعة طالما أنّ الدساتير العربيّة الأخرى لا تقول شيئاً عن عدد الولايات الرئاسيّة الذي يبقى رهناً بطول العمر أو القدرة على الإمساك بالحكم، ولن يكون مستغرباً إذاً، أنّ أغلب هذه الدساتير تقرّ «الاستفتاء» بدلاً من «الانتخاب» في عمليّة صارت مدعاة للتندّر لتشابه نسب الفوز بين الدول إيّاها. صحيح أنّ الطبقة الحاكمة لا تملك، على الصعيد النظريّ، مشروعيّة الديمومة إلا أنّ الديمومة تكرّست واقعاً يكاد يفوق ديمومة الأوطان ذاتها، بل بات من المقبول تصوير بقاء الأخيرة على أنّه مرتهن لبقاء الحكم، خاصّة مع بروز التناقضات المجتمعيّة في أكثر من بلد. وهذا ما يضعنا أمام إشكال نظريّ فريد من نوعه؛ إذ مهما طال أمد الحاكم الجمهوريّ فهو موقّت بطبيعته، ومن ناحية أخرى فإنّ ما هو موقّت يمسك بما يُفترض به الدوام ويخضعه لمعاييره!
تصوّر الجمهوريّات القائمة فكرة التغيير على أنّها تهديد للاستقرار، وفي غياب تامّ لنموذج التحوّل السلميّ عربيّاً فإنّ التغيير بقي في إطار المجهول، بل المجهول الذي يُخشى منه أحياناً، مع الإشارة إلى اقتصاره على التغيير الحتميّ في حالات الوفاة، أو التغيير بالقوّة في حالات الانقلاب التي درجت فيما مضى ثمّ ولّى عهدها. هكذا لن يكون من شأن التطوّرات المحدودة التي يقترحها الحكم أن تمسّ بأسس النظام المتّبع، ولا وجود لقوى خارجة عنه قادرة على فرض جدل سياسيّ يدفع إلى تحوّله، فحيثما تتواجد القدرة تنعدم المصلحة والإرادة والعكس صحيح. أمّا القلق المنهجيّ، الذي سبقت الإشارة إليه، فمن المرجّح بقاؤه ما دام الواقع لا ينبئ بحراك دراماتيكيّ، فضلاً عن التناقضات المفهوميّة التي دخلت التحليل السياسيّ من بابه الواسع. على سبيل المثال، لم يعد وصف «الجمهوريّات الوراثيّة» ينطوي على المفارقة التي كانت له بدايةً، بقدر ما بات يدلّ «برصانة» على نمط من الحكم آخذ بالانتشار، مع أنّ مثل هذا الوصف كفيل باستبعاد المنهجيّات المعتادة للنظام الملكيّ وللنظام الجمهوريّ في آن، من دون تقديم منهج ثالث يتّسق مع التوصيف. فهل يستعصي هذا النمط من الحكم على الخضوع لمنهج فكري فعّال مثلما يستعصي على التغيير؟
* كاتب سوري
الحياة