عن كردستان الكبرى وما دونها
هوشنك بروكا
القارئ في لوحة الأكراد السياسية وواقع وجودهم الجيوسياسي، سيلحظ أنّ كردستان ك”وطن في التاريخ”، هي الحقيقة الكردية النهائية، التي ليس من السهل القفز فوقها.
كردستان، تاريخ كان، وحاضر لا يزال يقوم ويقعد، في حياة أكرادها، بمختلف جهاتهم وولاءاتهم وقبائلهم الحزبية والطائفية والعشائرية.
هو ذا حال الكرد، وتلك هي حقيقة تشتتهم في جهاتهم الأربعة، لا بل الخمسة، فيما لو أضفنا إليها جهة أكراد القفقاس، الذين استحدثوا بعد نجاح ثورة أوكتوبر البلشفية بترخيص من زعيمها لينين سنة 1923، إقليماً للحكم الذاتي ضمن حدود جمهورية أذربيجان السوفيتية السابقة، سمي ب”كردستان الحمراء/ Kurdistana Sor”.
هم، إذن، كشعب وقضية، كانوا موجودين في المنطقة وقيام وقعود أهلها، ولا يزالون، فيما كردستانهم الكبرى، لا تزال غائبةً “مفترضة”.
الأكراد، كشعبٍ حاضر في خريطة المنطقة، سيحضرون على الأرجح، في القادم القريب من التاريخ والسياسة، بحقوق الإدارة الذاتية وما حولها من حقوقٍ ثقافية واقتصادية وإدارية، ضمن إطار الدول التي يعيشون فيها، فيما كردستانهم الكبرى، كوطن كبير يجمع شتاتهم وتفرقهم، ستؤجل وتُحجب وتغيّب، ربما إلى أجلٍ غير مسمى.
كردستان العراق، على مستوى وجودها شبه المستقل، ك”دولة ضمن دولة”، هو ككيان كردي، “أفضل” كردستان موجودة راهناً على الأرض. فهي، على قيامها شبه المستقل، كشبه دولة، لا تزال ترى وجودها ضمن وجود العراق وحدوده، وهذا ما أكدّ ويؤكد عليه دائماً الفوق الكردي(الواقعي بالطبع) الحاكم هناك، بالقول: أن كردستانهم هي جزء لا يتجزأ من العراق، الذي هو في المنتهى(رسمياً على الأقل) جزء من الوطن العربي الرسمي، وخريطته السياسية.
حال الأكراد في جهات كردستانهم الأخرى، هو بالتأكيد دون حال أخوانهم في كردستان العراق، كشبه دولة متحققة. فهم، في بعض هذه الجهات لا يزالون محرومون من أبسط الحقوق المدنية(حقوق المواطنة العادية)، فضلاً عن حرمانهم الكامل من حقوقهم الثقافية والسياسية، كما هو الحال في سوريا مثلاً، التي حجبت لأسباب سياسية محضة، حق الجنسية عن مئات الآلاف(حوالي 300 ألف) من أكرادها المسجلين في دوائر نفوسها تحت خانة “أجانب” أو “مكتومي القيد”. هؤلاء، هم أكرادٌ مكتومون في دوائر النفوس، كمكتومية كرديتهم في كل دوائر الدولة السورية الرسمية، من مجلس المختار إلى مجلس الشعب.
الرئيس العراقي جلال الطالباني عبّر في تصريحٍ سابقٍ له عن واقع “كردستان الكبرى” أو “المفترضة” هذه بقوله: “كردستان وطن جميل في قصائد الشعراء”. هذا التصريح القنبلة، الذي أطلقه المام جلال قبل أقل من عام، دفع بالكثير من الكردستانيين(خصوصاً الشعراء السياسيين منهم) إلى انتقاد الطالباني بشدة. ذهب البعض من هؤلاء في نقده لسياسة مام جلال “اللاكردستانية” هذه، إلى كشف ما ورائها من “نيات ممكنة”. فهذا اتهمه ب”الخيانة العظمى”، وذاك اتهمه ب”المتاجرة” بكردستان، لصالح بغداد ودمشق وأنقرة وطهران.
ولكن بغض النظر عن الإتفاق مع براغماتية الطالباني أو الإختلاف معها هنا أو هناك، أوَليست كردستان في كونها وطناً لأكثر من أربعين مليون كردي، موزعين بين حدود أربعة دول، بالفعل “حلماً شاعرياً جميلاً”، يستحيل تحقيقه سياسياً على المدى القريب، أو العاجل في الأقل؟
برامج كل الأحزاب والحركات السياسية الكردية، في الجهات الكردية الأربعة، راهناً، تقول أنّ كردستان الكبرى لا تزال “وطناً مفترضاً”، أو “وطناً في التاريخ ومن التاريخ”، لن يتحقق كما يخال للبعض بالسهولة المرتجاة سياسياً، في الراهن من جيوبوليتيك الأكراد الصعب جداً.
لهذا يتحاشى السياسيون الكرد الذين يمشون على الأرض راهناً، جرّ أكرادهم إلى رفع شعاراتٍ “ثقيلة”، يصعب عبورها الآن وربما بعده أيضاً.
فشعار “توحيد وتحرير كردستان” مثلاً، الذي طالما تغنت به أحزاب وحركات كردية في جهات الكرد قاطبةً، أيام “كردستان الجبل”، أنتهى على الأرض، سياسياً، إلى “الحكم الذاتي”، أو “الفيدرالية” في أحسن الأحوال.
ليس لأن كردستان الكبرى، كحق كردي، غير مشروعة، أو “خارج شرعية”، وإنما لأنها صعبة التحقيق الآن، وغير ممكنة.
تلويح الرئيس مسعود بارزاني الأخير في مؤتمر حزبه الثالث عشر، الذي انعقد ما بين 11 و17 من الشهر الجاري في هولير، بحق الأكراد في تقريرهم لمصيرهم، في كونه “حقاً جوهرياً”، أثار ردود أفعال رسمية وشعبية، عربية وأعجمية كثيرة.
التصريح سمي في الأوساط العربية ب”القنبلة”، التي فجرها بارزاني في حضور كل الفوق الرسمي في العراق.
كلام البارزاني عن حق أكراده في تقرير المصير، ليس كلاماً جديداً، سواء في الداخل الكردي أو خارجه.
وهذه ليست المرة الأولى، التي يلوح فيها الرئيس بارزاني عصا حق تقرير المصير أو الإنفصال، ضد شركائه في عراق بغداد.
فسبق وأنّه هدد العراق أكثر من مرة ب”أنه سيعمل على فصل الإقليم من العراق فيما لو…”(يُنظر مثلاً إيلاف، 13.01.09).
أما التصريح الأكثر ناريةً وشهرةً، على مستوى تلويح الرئيس بارزاني بذات العصا “المصيرية”، فكان في 26 فبراير 2007، على قناة العربية، حين هدد تركيا قائلاً: “اذا اعطى الأتراك الحق لانفسهم بالتدخل في شأن كركوك والتركمان فلنا الحق بالتدخل بشؤون شعب كردستان في تركيا”.
تركيا الرسمية والشعبية، أقامت تهديدئذٍ الدنيا على الأكراد(كل الأكراد) ولم تقعدها.
كانت ردة فعل أردوغان في حينه عنيفةً جداً، ووجّه إلى البارزاني تحذيراً شديد اللهجة، ل”تجاوزه حدوده” على حدّ قوله.
فماذا كانت نتيجة هذه التهديدات والتلويحات بذات عصا الإستقلال أو الإنفصال، وذات الحق في تقرير الكرد لمصيرهم؟
النتيجة، كما نعيشها اليوم مع كل كردي في جهاته الأربعة، هي هي: كردستان بقيت وستبقى إلى أمدٍ غير قصيرٍ جزءاً من العراق، كركوك طارت من قلب كردستان، والمادة 140 تبخرت إلى أجل غير مسمى، وتركيا صارت في قلب كركوك، وفي كل كردستان(رؤوس أموال تركية بالمليارات، شركات بالآلالف، جامعات، أجندات وشبكات سرية..إلخ)، فيما كردستان ما بعد التهديد، بقيت في مكانها وحدودها، كما كانت عليه قبل التهديد، بلا تقرير مصير ولا هم يحزنون.
لاشك، أنّ للكرد ككل الشعوب والجماعات الإثنية الأخرى في العالم، حقهم الكامل في تقريرهم لمصيرهم، فهو حقٌ كفّله ميثاق الأمم المتحدة والصكوك والمواثيق الأممية.
بحسب الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2200 لعام 1966(المادة الأولى من الجزء الأول)، “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركز سياسي، وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
حق تقرير المصير، إذن، هو “حق شفوي”، مكفولٌ “أممياً”.
حق تقرير المصير، الذي يعني وفقاً لمنطق العقل الكردي الجمعي الإنفصال عن الدول التي “تحتل” كردستان الكبرى، هو “طموح كردي مشروع”، أو في الأقل “حلمٌ كردي مشروع”، ولكنه يبقى على مستوى السياسة وممكناتها، طموحاً بعيد المنال.
أكراد العراق اشتغلوا سياسياً، على شعار الحكم الذاتي، والحكم الذاتي الحقيقي في مرحلة ما قبل انتفاضة ربيع 1991، وثم اشتغلوا على الفيدرالية لاحقاً، كحد معقول، ضمن حدود العراق الواحد الموحّد، في عراق ما بعد صدام.
“كردستان الفيدرالية”، ك”كيان كردي”، موجود ضمن حدود كيان العراق الواحد، كما ينص على ذلك الدستور العراقي، ومسودة دستور كردستان الآن، هي برأيي، أعلى(وأفضل) سقف سياسي يمكن لأكراد العراق بلوغه في هذه المرحلة، وربما في القادم من العراق أيضاً.
وما يمكن لأكراد العراق أن يحققوه الآن في ظل الفيدرالية(وطن مزدوج بين بغداد وهولير+ سلطة مزدوجة+ميزانية مزدوجة+جيش مزدوج..إلخ)، ربما لن يبلغوه في مرحلة ما بعد الفيدرالية.
هذا فضلاً عن أنّ ظروف الأكراد أنفسهم، وما تحيط بهم وكردستاناتهم المشتتة من ظروف دولية وإقليمية معقدة، لا ولن تسمح لهم، راهناً، بأي “عبور ممكن” إلى كردستان الكبرى.
ففضلاً عن محاربة “جيران” كردستان، أو “أعداءها اللدودين”(تركيا+سوريا+إيران) كل ما يمكن أن يؤدي بأكرادها إلى حقهم في تقرير مصيرهم، هناك “تحفظ” دولي كبير(أميركي بالدرجة الأولى) بشأن القضية الكردية.
دولياً، لا يزال يُنظر إلى قضية الأكراد بإعتبارها قضية “أقلية إثنية” ضمن دول الأكثرية، أكثر من كونها “قضية شعب”، يسعى أكرادها إلى إقامة دولتهم المستقلة، على أرضهم التاريخية كردستان، التي سقطت من خريطة المنطقة السياسية، نتيجة مؤمرات وصفقات واتفاقيات دولية، منها اتفاقية سايكس بيكو السرية سنة 1916، التي اتفقت فيها كل من إنكلترا وفرنسا على اقتسام تركة تركيا العثمانية(الرجل المريض) فيما بينهما.
أميركا، التي بيدها الآن مفاتيح الحل والربط في العراق، متحفظة جداً بشأن أي طموح قومي ربما يؤدي بالأكراد إلى الإنفصال عن بغداد.
كردستان الفيدرالية، الآن، بكرديتها في عراقيتها، وعراقيتها في كرديتها، هي آخر ما يمكن أن تمنحه أميركا وأخواتها، للأكراد في عراق اليوم.
انفصال الكرد عن العراق، هو للآن خط أحمر أميركي، إلى جانب كونه خطاً أحمراً عربياً و تركياً و إيرانياً.
في عددها الصادر أمس(الأربعاء، 29.12.10)، حذّرت صحيفة ال”نيويورك تايمز” الأميركية القادة الكرد العراقيين من مغبة أيّ تفكير ب”الإنفصال”، أو محاولة “الإستيلاء” على كركوك المتنازع عليها(التي هي قلب كردستان في أدبيات الثورة أيام زمان).
أيّ تفكير كردي بهذا الإتجاه، إذن، سيكون تهوراً أو “طيشاً” سياسياً، قد يؤدي بالكرد إلى ما لا يُحمد عقباه.
الإنفصال، أو حتى “التفكير به”، سيكلّف الأكراد الكثير من كردستانهم، وسيعني(بحسب الصحيفة) “نهاية الدعم الأميركي لهم”.
الرئيس بارزاني ومن حوله من الفوق الكردي، يعلمون بالطبع، ماذا يعني لهم ولكردستانهم “نهاية” الدعم الأميريكي وحمايتها لأكرادهم.
لهذا ولأسباب أخرى معروفة للبعيد قبل القريب، لا أعتقد أنّ بارزاني سيفكّر يوماً بإرتكاب “الإنفصال”، كما يفكّر به العقل الكردي الجمعي ويعّول عليه، في كل أرجاء كردستانه.
هو يعلم أنّ تفكيراً كهذا، سيعيد بأكراده في العراق إلى المربع الأول، وربما المربع الصفر.
لهذا نسمع ونقرأ دوماً بعد كلّ تصريحٍ أو “قنبلةٍ” له عن “حق أكراده في تقرير المصير” تصريحات عاجلة منه ومن المحيطين به، لتوضيح “كلام الرئيس” الذي “حرّفه” الإعلام، ل”إصلاح ما أُسيء فهمه”.
والحال، أنّ شعار “حق تقرير المصير”، كردياً، هو شعارٌ من الممكن رفعه أو تسويقه، شفوياً، بوصفه “حلماً جميلاً في قصائد الشعراء”، على حدّ قول طالباني، إلاّ أنه في الواقع، شعارٌ صعبٌ وشائك ومحفوف بالكثير من المخاطر، فيما لو فكرّ أو حاول الأكراد ارتكابه.
هذا “الشعار الشفوي”، والذي ينتهي في كل مرة إلى فرقعات وشوشرات وتناحرات إعلامية وسياسية، بين بغداد وهولير، وما حواليهما من عرب وأكراد، هو كما يقول المعقول من السياسة في كردستان الراهنة وخارجها، ليس أكثر من “إستنفار شفوي” للداخل الكردي، أو دغدغة لمشاعره القومية وحلمه التاريخي الجميل ب”كردستان كبرى”، لن تحدث قريباً على أية حالٍ.
يرى البعض بأنّ الأكراد ينوون من وراء رفعهم لشعار حق تقرير المصير في هولير، رفعاً موازياً لسقف مطاليبهم في بغداد.
بعضٌ آخر، يرى في رفع هذا الشعار الكبير، والدعوة المبطنة إلى “كردستان كبرى”، نوعاً من “التنفيس” عن غضب الداخل الكردي في “كردستان الصغرى”، التي تعيش في السنوات الأخيرة “احتقاناً شعبياً”، على أكثر من مستوىً وصعيد.
أياً كانت الأهداف، ولكن النتيجة تبقى واحدة: لا انفصال، ولا كردستان كبرى، ولا “حق تقرير مصيرٍ” يمكن أن يؤدي بأكراده إلى شيءٍ من هذا القبيل.
حق تقرير المصير الذي يعني به الكردي، حق المسير إلى “كردستانه الكبرى”، هو شعارٌ يكاد يكون في واقع الممكن من كردستان الراهنة، شبه مستحيلاً.
هو، شعارٌ يُرفع من زمانٍ إلى آخر، لا للسير إليه، وإنما للمشي عليه.
هو، شعارٌ للإستهلاك الكردي المحلي أولاً، يُراد به تحمية الجماهير الكردية في كردستان العراق وخارجها، وإعدادها لخوض “مباراة غير ودية”، لن تحدث في القادم من لعب الأكراد مع خصومهم، لا في بغداد، ولا في أنقرة، ولا في دمشق، ولا في طهران.
ايلاف