صفحات العالم

نكبة تلو نكبة.. تلو نكبة!

عبد الوهاب بدرخان
يكاد يخيَّل إلينا كأن إسرائيل لم تحتل فلسطين مرة واحدة وأخيرة، وإنما عشرات المرات، بل لا تزال مزمعة على تكرار احتلالها، وهذا ما تفعله كلما وقع حجر آخر تحت ما يسمى “الاستيطان” وهو عمليّاً تجديد وتأكيد وترسيخ للاحتلال. فبعد اثنين وستين عاماً لم يعد أي مجرم حرب يستحي من الدفاع عن جريمته والتفاخر بها، لأنها تبدو مغتفرة، لأن “السلام” المنشود لا يطمح لأكثر من حدود 1967، بل إنه لا يستحي من الدفاع عن السرقة المستمرة لأراضي الـ67، لأن أحداً عربيّاً أو غير عربي لا يستطيع ردعه أو يشكل أي تهديد له. الإسرائيلي بات يقول علناً إنه يريد “سلاماً” يبقي الشعب الفلسطيني تحت “قانون” الاحتلال ويبقي قوة الاحتلال فوق كل قانون.
حرب تلو حرب فإذا بالنكبة تتراكم وتتضخم، ثم ها هي “عملية السلام”، التي انبثقت أساساً من قراءة أميركية لحال العرب بأنها بلغت ذروة التعاسة إلى حد أن خيار الحرب سقط تلقائيّاً من أيديهم. أما إسرائيل فقرأت أنها تستطيع التخلي عن خيارات طرحتها سابقاً للحصول على الأمن والاعتراف والشرعية، أو لعل العكس بات صحيحاً، أي أن العرب صاروا بحاجة إلى اعتراف إسرائيلي ليلقوا معاملة حسنة من لدن الولايات المتحدة. وحتى عندما أُنجز شيء من ذاك “السلام”، وقيل عن هذا أو ذاك من الإسرائيليين إنه “رجل سلام”، ما لبث أن تبين أن هذا وذاك وذلك ليسوا سوى رجال استيطان، وأن العصابة لم تقلع عن المهنة الوحيدة التي تتقنها. كانت لهذا السلام وظيفة محددة، تدمير القضية الفلسطينية على أرضها.
الواقع العربي اليوم واضح المعالم: فريق حقق “سلاماً” مع إسرائيل، وفريق لا يزال ينتظر. فريق فلسطيني يفاوض على نحو غير مباشر، وآخر يقاوم ولو على نحو غير مباشر. فلو أرادت إسرائيل -وهي أرادت- لما استطاعت رسم انقسام بوضوح أكبر. هناك نكبات زادت في الطريق، فلا سلم لأن إسرائيل لا تريده أصلاً، ولا حرب إلا حين تحتاج هي إليها لتعيد ترتيب أوراقها. وهي في أي حال بلغ انزعاجها من مصطلح “النكبة” إلى حد أنها تريد تحريمه، كونه يعادل ذكرى إنشائها، بل وإلى حد توقع برقيات التهاني والتبريك من العرب. ومع ذلك فهي لا تتردد في تحدي من سالموها لتجعل من الصلح وبالاً عليهم، إذ تهدد السلطة الفلسطينية بـ”حماس” والعكس بالعكس، والأردن بالفلسطينيين، بل تهدد مصر بالقنبلة المائية التي يشهرها جيرانها الأفارقة ضدها.
تغيّرت طبيعة النظرة والعلاقة والمقاربة العربية للقضية الفلسطينية، وللنكبة. تغيّرت بمنحى تجاوزي يتصور ويعمل على أساس أنها حُلّت وهي لم تُحلّ بعد. لذلك يراوح التجاوز بين كونه وهماً أو تخيلاً محضاً، وفي الحالين لا تلبث أن ترتد لتذكر بأن الأمراض التي أنتجتها لا تزال تعتمل. لذلك يبدو التجاوز إنكاراً لحقيقة أن النكبة -والقضية- خلّفت تشوّهات وإعاقات في الجسم العربي ما لبثت أن ظهرت في بناء الدول والعلاقة بينها وبين مجتمعها ومواطنيها، كما في التنمية والنهوض بالاقتصاد. فكان أن تعمقت النكبة وتضاعفت بفعل الذين استغلوها لإعاقة دولهم ومجتمعاتهم، وها هي أمراضها تترسخ بفعل الذين يتجاوزونها.
هذه أمة زلزلت النكبة وجدانها فبقيت شاهدة على قضية ظلم لا ينفك يتجبّر ويتعنّت، ومطلوب أن تبني مستقبلها على قبول هذا الظلم كأنه طبيعة ثانية أو واجب الوجود. هذه أمة تدعي أنها تقاوم ذاك الظلم وإذا بهذا تظلم بعضها بعضاً.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى