سياسة الفصل الطائفيّ
مصطفى علي الجوزو
حتى أواسط القرن الماضي كان الفصل الطائفي في لبنان شبه كامل، فلم يكن من زواج مختلط بين الطوائف أو حتى بين المذاهب، وكانت الحالات الاستثنائية تُعَدّ ظواهر شاذة ومرفوضة، وكان الفصل يطول حتى التسوّق، فكان أحدهم يفضل الشراء من ابن طائفته، وربما كان هناك حضّ على ذلك. لكن مع تطور الإحساس الوطني والاختلاط في المؤسسات التعليمية الرسمية خاصة، والمؤسسات الخاصة إلى حد ما، أخذت الحواجز بين الطوائف تتساقط، وكثر الزواج المختلط، وصار التعامل السوقيّ بين أهل الطوائف شيئاً عادياً، إلى أن نشبت الحرب الأهلية، فأثرت شيئاً ما على ظاهرة الاختلاط، وراحت بعض التصرفات الطائفية الحادة أو اللطيفة، أو ربما المؤوّلة على غير حقيقتها، تجرى في عكس تلك الظاهرة.
ومن تلك التصرفات، اليوم، دعابة أرسلها غبطته، فردّ عليها أحد ذوي السماحة، وأثار رد سماحته ردوداً طائفية لا يخلو بعضها من الفجاجة، والطريف فيها أنها صدرت عن نفس المتعادين الذين اجتمعوا على رفض إعطاء الفلسطينيين حقوقهم في لبنان، والذين أيدوا الأرمن الذين شتموا أردوغان ضيف لبنان ببراءة لا نبرّئ منها الصهيونية العالمية، وتجاهلوا أنهم في دولة عربية اسمها لبنان، وليس في يرفان أو ناغورني كاراباخ؟ ومن ينظر إلى دعابة غبطته بحسن نية لا يجد فيها أكثر من قلق على الوجود المسيحي في لبنان، وإيحاء بوجوب تفضيل النوعية على العدد بصورة مطلقة، وذلك إذ أعلن تناقص عدد رعيته، واستدرك بأن المهم هو النوعية، مستشهداً برسل المسيح وعددهم القليل. أي انه لم يقل صراحة إن المسيحيين يتفوقون نوعياً على المسلمين.
لكن الذي أثار المسلمين، وليس سماحته فحسب، هو أن هذه القضية توحي الفصل الطائفي الذي عاناه لبنان، ولا سيما أن الأقليات في العالم غالباً ما تحاول التعويض بمزاعم التفوّق النوعي، للدفاع عن وجودها الإنساني، وللحصول على امتيازات لا يقرّها العدل ولا النظام الديموقراطي. وقد تكلمنا في أكثر من مقالة على شعار «شعب الله المختار» الذي تكاد تؤمن به كل طائفة دينية سياسية، وتنسب الاختيار الإلهي إلى نفسها، كما تكلمنا على ما يصحب هذا الشعار من عنصرية، بلغت أقصى حدودها عند اليهود، وظهرت في لبنان لكن بصورة أقل حدة، وإن جعلت بعضهم يشارك في مذبحة صبرا وشاتيلا، ويباهي بمحاربة الفلسطينيين، ويقاوم حصولهم على الحقوق الإنسانية البديهية.
والمفارقة أن نفس الذين يعانون عقدة الأقلية، ينحون نحواً مضادّاً هو الإيهام بالكثرة، وذلك بالزعم أن لهم امتدادات ديموغرافية واسعة، منتشرة في أصقاع الأرض. ولا تهم هنا الإحصاءات، بل يكفي أن يصبح الوهم أسطورة عقدية حتى يُستغنى عن الحسابات. كما لا يهم أن يكون المدَّعون منتسبين إلى الأقلية حقاً أو باطلاً، لأن المطلوب التكثّر ليس إلاّ، وذلك ما يفعله الصهاينة اليوم بإدخال غير اليهود في عدادهم، وبخاصة المجهولي النسب أو الانتماء، أو حتى الوثنيين.
والأسطورة التي تتغنى بها إحدى الطوائف في لبنان هي أسطورة المهاجرين الذين زُعم يوماً أنهم يبلغون عشرين مليوناً، وظل هذا العدد ينقص حتى بلغ عشرة ملايين في آخر تصريح لأحد رؤساء الكنيسة اللبنانية؛ وهم في الواقع لا يكادون يتجاوزون المليون، إذا استثنينا المهاجرين بعد إحصاء سنة 1943 المحتفظين بتذكرة الهوية اللبنانية، والمثبتة أسماؤهم في سجلات المقيمين البالغين نحو أربعة ملايين نسمة؛ أي إذا عُنينا بالمهاجرين القدماء وحدهم الذين سقطت الجنسية عن معظمهم، أو لم يسجّلوا أبناءهم في القيود اللبنانية. وعندما نقول مليون فإننا نستند إلى وثائق، وننفي صفة اللبناني عن منتحليها وعن أي دعيّ مُلصق، عربيّ أو أجنبيّ.
لكن حبذا لو أن سماحته نظر إلى تلك الدعابة بسماحة؛ فالطوائف الدينية في لبنان كالضرائر، كل واحدة منهن تفاخر سائر نساء زوجها بما تزعمه مزية فيها عليهن أو مزايا. ولو أراد الإنسان محاسبة الضرائر على مزاعمهنّ لأتعب نفسه وأتعبهنّ، إن كنّ يتعبن. وبعض المسيحيين لا يزالون يفاخرون بمستواهم الثقافي والحضاري على سائر الطوائف، وكان لفخرهم مسوّغ في الماضي، مع التحفظ؛ فقد أتاح لهم الغرب، ولا سيما فرنسا، فرصاً تعليمية وصلات حضارية لم يتحها للمسلمين؛ كما أتاح لهم، منذ نشوء دولة لبنان، أن يكونوا هم الطائفة العظمى في الجمهورية بفضل امتيازاتهم في الحكم والإدارة، وهذا حمل بعضهم على الدعوة إلى التفرد بلبنان، وإلى رحيل سائر المواطنين عنه نحو البلاد العربية. فالعلم والسلطة أنشآ عندهم شعوراً بالفوقية وبحق الاستئثار، وحتى بفرض التفوق العددي بوساطة إحصاءات غير دقيقة، ابتداء، ثم من طريق رفض الإحصاء، فضلاً عن الإيحاء بالتفوق النوعي من خلال تشجيع مبدعيهم في الأدب والعلم والفن، ورعايتهم، وإذاعة صيتهم بصورة لا تخلو من التضخيم والأسطرة، مع الإيحاء بفقر غيرهم في هذه المجالات، وتجاهلهم أو إهمالهم.
فلما زاد عدد المسلمين، ولم يعد بالإمكان نكران زيادتهم تلك، وفوق تلك الزيادة حضور فلسطيني يجعل المسلمين المقيمين في لبنان من حملة الهوية ومن الضيوف أكثر من ضعفي عدد المسيحيين، وأتيحت فرص العلم والتواصل الحضاري لجميع اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم الطائفية، وفرض المبدعون في كل الطوائف حضورهم في المجالات العلمية والفنية والأدبية، استشعر غلاة الطائفية خطراً على الخريطة السُّلْطية في لبنان، أي على تفوقهم السياسي والثقافي، ولعل هذا من الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية التي أريد بها قلب الميزان، وفرض موازين سياسية وديموغرافية جديدة على البلد. وقد أصاب الغرور بعض مدّعي التفوق فزعموا أنهم قادرون على استخدام جميع الناس لمصلحتهم من غير أن يستخدمهم أحد، فلم تصح ادعاءاتهم، بل صح عكسها، وخرب لبنان، وفوق خرابه فُرضت موازين دستورية جديدة نزعت من المسيحيين كثيراً من امتيازاتهم، وسوّت بينهم وبين سائر اللبنانيين في الحقوق والواجبات.
ومن الفصل الطائفي تلك التورية التي استعملها غبطته في الحديث نفسه، وهي قوله: لقد أخذوا المسيح إلى مكان آخر، وهو يعني، على الأرجح، احتفاء تلفاز المقاومة بميلاد المسيح بوصفه نبياً من أنبياء الله، وفاقاً للعقيدة الإسلامية، وخلافاً للعقيدة المسيحية القائمة؛ وذلك، إذا صحّ فهمنا له، يوحي بضرب من الفصل حتى في شأن الرموز الدينية، كأنّ المسيح للنصارى لا يشاركهم في إجلاله وتكريمه أحد؛ مع أن إيمان أحدنا برمز ديني على طريقته لا ينبغي أن يستفزّ الآخرين. وهل لغبطته أن يُستفزّ لو تُرجمت إلى العربية، مثلاً، مقالة جان بابتيست وِلَّرموز Willermoz المنشورة في فرنسا سنة 1986 وعنوانها: «الرجل الإله، مقالة في الطبيعتين»، وفيها أن الذي صُلب هو المسيح الإنسان، آدم الثاني، وأن فكرة أن يكون شبيه المسيح (الإسلامية) هو المصلوب تستحق التأمل، لأن المسيح الإله لا يجوز عليه العذاب ولا الموت؟
وأخيراً خرج علينا أحد جهابذة السياسة بمشروع يعيدنا إلى أسوأ من حال النصف الأول من القرن العشرين، وهو مطالبته بإصدار قانون يمنع على المسيحيين بيع عقاراتهم للمسلمين، وذلك تحاشياً لهجرتهم. ولا أدري إذا كان، حتى في مجاهل افريقيا اليوم، قانون مشابه لهذا. وليت هذا الجهبذ يعلم أن المسلمين يشكون أكثر من المسيحيين سطوةَ رأسِ المال المتوحش، ومعظمه أجنبي صريح أو مموه، ذلك المال الذي جعل بيروت وبعض جوارها أملاكاً أجنبية، ولم يعد اللبناني يستطيع شراء شقة في العاصمة والمدن الكبرى، وحتى في الأبنية الحسنة في جوار تلك المدن، إلا في حالات نادرة. وليته يعلم أن الهجرة أصابت المسلمين كالمسيحيين، فكانت ثمة هجرتان واسعتان: الهجرة من المدن إلى الضواحي وجوارها، والهجرة إلى الخارج. وهذه المعضلة لا تحل بقوانين خنفشارية، بل بالإصلاح السياسي والاقتصادي، لأن الكحل العنصريّ يعمي ولا يجمّل.
كل هذا السلوك العزليّ الذي يرمي في نهاية المطاف إلى التقسيم الطائفي ضار ولا جدوى منه، والحل الذي يبدد المخاوف الأقلية واحد، هو محاربة الشعور الأقليّ بإلغاء الطائفية السياسية كلية، وحتى في ما يزعمونه مناصفة، فالمناصفة جوهر الطائفية. ومن البديهي أن يصحب إلغاء الطائفية السياسية إصلاح سياسي جذري، ومواجهة لآفتي الفساد والتنكر للعقيدة الوطنية والقومية، وما خلا ذلك فتنة وخراب.