امتلاك السلطة يستوجب تحمُّل المسؤولية
علي محمد فخرو
في مذكراته ينقل الشاعر البريطاني الشهير رديارد كبلنغ عن سياسي بريطاني قوله بأن امتلاك السلطة بدون تحمُّل أية مسؤولية يماثل تماماً السلطة التي ملكتها المحظيًّات عبر العصور. الوصف شديد في قسوته، وذكره لا يقصد به التطاول على أحد، ولكن قائله يريد إرسال رسالة شديدة الوضوح إلى المسؤولين في عالم السياسة. دعنا نمعن النظر في المشاهد التالية :
1 ـ في أحد البلدان العربية تحدث اضطرابات شعبية واسعة احتجاجاً على ارتفاع نسبة البطالة وعلى غياب تكافؤ الفرص أمام المواطنين وعلى استشراء الفساد، وبعد بضعة أيام يطلُّ مالك السلطة الحقيقية، وهو الذي حكم البلاد والعباد لعدة عقود من الزمن، ليطلق الشًّجب والتحليل والوعيد والوعود دون أن يشير ولو بكلمة واحدة إلى مسؤوليته هو ومسؤولية نظام حكمه وإلى القصور في السياسات الرسمية التي قادت إلى حالة الغليان تلك.
2 ـ في بلد عربي آخر تحدث حادثة إرهابية بشعة تؤدٍّي إلى حرق مسجد هنا أو كنيسة هناك. وهي تحدث كدليل قاطع على وجود احتقان طائفي متراكم عبر السنين نتيجة ممارسات خاطئة ارتكبها نظام الحكم أو نتيجة صراعات دينية أو مذهبية غضًّ ذلك النظام الطًّرف عنها بسبب تلاعباته الانتهازية بأطرافها. وبعد أن يموت من يموت من الأبرياء وتبدأ المصادمات الموتورة بين أبناء الوطن الواحد يظهر مالك السلطة الحقيقية، وهو الذي حكم عبر عًّدة عقود، ليتحدًّث ويتًّهم ويتوعًّد كرمز طاهر عفيف يعلو فوق تلك الأحداث البشعة. وكسابقه في البلد الآخر لا يشير إلى مسؤولية السياسات التي وضعها وطبًّقها عبر الزمن الطويل هو وأنصاره وأجهزة الحكم التي أوجدها.
3 ـ في بلد عربي ثالث تقوم صراعات طائفية في جهة وتنبثق حركات تمزيقية لوحدة الوطن في جهة ثانية وتتكلم الدنيا كلُّها عن فشل نظام الحكم المفجع في إرساء أسس المواطنة وعن عدم تساوي مختلف المناطق والجماعات في التمُّتع بثروات البلاد المادية والمعنوية. في هذا الجو المظلم المهدٍّد لمستقبل البلد ووحدته يخرج علينا صاحب السلطة الحقيقية، وهو الذي حكم عبر عقود من الزمن، ليصف المعارضين بالغوغاء واللصوص، وليظهر نفسه وحكمه وكأنُّهما لم يرتكبا الأخطاء تلو الأخطاء التي أوصلت الناس إلى هذه الحالة من اليأس والكفر بالوطن.
ويستطيع الإنسان أن يذكر مئة مثل آخر، من الحاضر والماضي، مشابه في أدقَّ التفاصيل للأمثلة الثلاثة السابقة، ما المشترك في كل هذه الأمثلة؟
المشترك يعبر عنه الوصف البليغ الذي عرًّف به الكاتب البريطاني رونالد كنوكس الطفل الرضيع: إنه عبارة عن صخب عال من جهة وعدم المسؤولية من جهة ثانية. اصحاب السلطة الحقيقية في بلاد العرب، وبعد سنين من الحكم والممارسات الخاطئة، يطلُّون على الرًّعايا من على شاشات التلفزيونات فيُحدثون، كما وصف كنكوس، صخباً خطابياً بكائياً عالياً من جهة ويبعدون أنفسهم عن المسؤولية من جهة أخرى.
بلاد العرب يصُر بعضهم على أن يحكمها فرد واحد أو حزب واحد أو مجموعة ضبًّاط أو قبيلة طيلة عقود أو قرون من الزمن، حتًّى إذا انفجرت السياسات الخاطئة والفاسدة الغبيًّة في وجوه أنظمة الحكم وقف صاحب السلطة الحقيقية، الذي قاد مسيرة تلك السياسات أو تجاهل الجحيم الكامن فيها، ليلوم في كرنفال تلفزيوني طفولي صاخب كل جهة وليلعن الآخرين في الداخل والخارج، لكنه لا يشير قط إلى مسؤوليته الشخصية ومسؤولية حزبه أو أزلامه. هذا مع العلم أن الجميع يعرف بأن الحكم في بلاد العرب هو لشخص واحد أحد أيًّاً يكون مسًّمى الحكم، وأن كل من يعاقب ليس أكثر من كبش فداء لمالك السلطـة.
قادة الحكم في بلاد العرب أمرهم عجيب: فهم لا يشركون الآخرين في الحكم ليشاركوهم تحمُّل مسؤولية الأخطاء والخطايا، وعند حدوث الانفجارات الشعبيًّة لا يقبلون تحمُّل أيُّة مسؤولية، بل يلقونها في أحضان من ليس لهم حول ولا طول.
موضوع مسؤولية مالكي السلطة هو من المواضيع المطروحة في مراجع الفكر السياسي، وهو من الموضوعات الخلافية بالنسبة للموازين والقيم التي تحكم المسؤولية، بل وحتى بالنسبة لأهداف تلك المسؤولية. لكن من المؤكد أنها مرتبطة بموضوعي المساءلة والمحاسبة اللًّتين بدونهما لا توجد حياة سياسية معقولة، أي لا توجد حياة ديمقراطية في غياب نظام تقاسم وتوزيع للسلطة لا يمكن الحديث عن تقاسم وتوزيع للمسؤوليات، وعلى مالكي السلطة المطلقة في بلاد العرب أن يختاروا بين تقاسم السلطة وبالتالي تقاسم المسؤوليات وبين الهيمنة الكاملة على السلطة وبالتالي التحمًّل الكامل للمسؤولية في أوقات الشدًّة والتوتٌّرات والإنفجارات. الأمة تتعامل مع كبار وقادة وليس مع أطفال كنوكس الرضًّع.
القدس العربي