واذا ابتليتم بالمعاصي فانتفضوا
كامل عباس
ان أهم الدعوات التي حدثت في التاريخ – سواء كانت سماوية ام أرضية – كان سببها الرئيسي هو انقسام المجتمع الحاد بين مضطهِدين ومضطهَدين , وكانت في بداية الأمر منحازة للمظلومين وتدعو لدفع الظلم عنهم , ولكن أبناء الطبقات المهيمنة تمكنوا في النهاية من هضم تلك الدعوات وكيّفوها بما يخدم مصالحهم . نذكر على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة دعوات أممية .
1- دعوة المسيح عليه السلام , فقد تمحورت في البداية حول قول يسوع لتلاميذه كما هو وارد في انجيل متى , الاصحاح التاسع عشر , الآية 23 – 24
(الحق أقول لكم انه يعسر أن يدخل غني الى ملكوت السموات , وأقول لكم أيضا ان مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني الى ملكوت الله ) .
وقد كان أخوه يعقوب بنفس الوضوح على ذمة مؤلف قصة الحضارة ويل ديورانت حيث يروي قوله التالي ج11 ص 279
( هلّم الآن أيها الأغنياء , ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة , غناكم قد تهرأ, وثيابكم قد أكلها العث , ذهبكم وفضتكم قد صدئا , وصدؤهما أكل لحومكم كنار , قد كثرتم في الأيام الأخيرة , هو ذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ , وصراخ الحاصدين قد دخل الى أذني رب الجنود .. اما اختار الله فقراء هذا العالم .. ورثة الملكوت )
انتهت المسيحية كما هو معروف الى جمع المال بأي طريقة كانت بما فيها بيع وشراء المراتب الدينية , وأصبحت كنيستها الداعم الأساسي لحق الملوك الالهي في السلطة , ومن عارضها في ذلك أقامت له محاكم تفتيش تحرق المخالفين لتعاليمها أحياء كما جرى للطبيب ورجل الدين الأسباني مايكل سرفانتس عام 1553م ,
2- دعوة الرسول العربي .
عبّرت الأية الكريمة التالية عن جوهر الدعوة الاسلامية في البداية :
( ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ) وقد جاهرت بعدائها لحكم السلالات الوراثية .
ولكن الاسلام الآن داعم أساسي لحق الملوك الإلهي ومن بعدهم أبنائهم , وجميع الأسر المالكة في الخليج تحكم باسم الاسلام , وما يملكه أمراؤها من أرصدة في بنوك أوروبا يفوق الوصف , في حين يلهث كثير من أبناء المسلمين وهم يركضون وراء الرغيف والرغيف يركض أمامهم .
3- دعوة ماركس .
كانت دعوة ماركس في البداية تعبيرا عن صوت الطبقة العاملة المقهورة والمستغلة أبشع استغلال من قبل أصحاب المصانع الجشعين الذين كانوا يخلطون الطحين بالحجر الكلسي من اجل خفض ثمن قوتهم وزيادة أرباحهم .
ولكن الماركسية انتهت الى دعم حق أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي في احتكار السلطة اذا كان الحزب حاكما , ودعمهم في احتكار القرار السياسي للحزب اذا كان خارج السلطة , لا بل وصل الأمر في كثير من الأحزاب الشيوعية الى توريث المنصب سياسيا وحصر الأمانة العامة بالعائلة كما هو حاصل عندنا في الحزب الشيوعي السوري (جناح بكداش ) .
مع انهيار النظام العالمي السابق ودخولنا في زمن العولمة , توّهم الكثيرون ومنهم انا أن زمن الدعوات المتمحورة حول شخص او زمرة قد انتهى , فحضارة الجنس البشري راكمت وعيا لقضيته بحيث يصعب على الطبقات المهيمنة التحكم في الثروة والنفوذ على هذا الكوكب كما كان الأمر في السابق , وذهب الكثيرون الى القول بأنه في عام 2025 لن يبقى جائع على وجه الأرض , ولكن الصورة في نهاية عام 2010 تدل بوضوح على أن نجاح الأغنياء في ظل العولمة لا يقل عن نجاحها في السابق والحقائق تفقأ العين ولنبدأ على الصعيد الاقتصادي .
1- أول هذه الحقائق هو إحراق أكثر من شخص نفسه في تونس احتجاجا على البطالة , ورد الحكومة التونسية على تلك الحوادث بالقول – البطالة أزمة عالمية لسنا مسؤولين عنها – وهو كلام حق يراد به باطل – فصندوق النقد الدولي وتوابعه يهمه بالدرجة الأولى إرضاء أصحاب رؤوس الأموال أكثر مما يهمه حل مشكلة البطالة .
2- النوادي الليلية التي ازدادت واحدا في العالم قبل لحظة رأس السنة في دمشق , وما صرف في ليلة رأس السنة داخل هذه النوادي يطعم ملايين المساكين الذين يفتشون عن لقمة عيشهم في حاويات الزبالة .
3- أبلغ صورة عن الوضع العالمي الحالي قدّمها لنا خبير اقتصادي أمريكي عمل في هيئة الأمم المتحدة لأكثر من عشرة سنوات في كتابه المعنون – نهاية الفقر- والذي يقترح فيها خطة لإنهاء الفقر في عام 2025 , متوهما مثلي ان النظام العالمي الجديد جاد في القضاء على هذه الآفة . مما جاء في الكتاب ص 352 – ترجمة د امين الجمل , منشورات الجمعية المصرية للنشر ( ان مجموع دخل كل من بوتسوانا ونيجيريا والسنغال واوغندة بلغ 57 مليار دولار في عام 2000 كان هو دخل 161 مليون شخص بمتوسط 350 دولارا للفرد في العام , في حين ان 69 مليار دولار كان دخل أربعمائة شخص في الولايات المتحدة .)
غني عن القول أن المليارديريين قّل عددهم وزادت فلوس الواحد منهم في زمن العولمة أما الفقراء فقد ذاد عددهم وفقرهم معا . والرقم قد يتضاعف في عام 2025.
والنجاح على الصعيد السياسي يكاد يفوق النجاح على الصعيد الاقتصادي وهذه بعض من أدلتي .
1- تمّكن المحافظون الجدد من إفشال برنامج أوباما ووعوده المتكررة للمسلمين تحديدا بإقامة دولة فلسطينية . والقضية الفلسطينية جرح نازف في جبين العالم وحل مشكلتها ليست مصلحة أمريكية فقط بل وعالمية , والعالم كله شاهد التقرير الأخير على شاشة التلفزة الذي قدّمته منظمة هيومن رايس وتش , وفيه نرى كيف يسقي المستوطنون مزروعاتهم ويهدرون الماء في أراضيهم في حين تنفق على الجانب الثاني من الجدار العازل حيوانات وأطفال الفلسطيننين عطشا .
كيف سيصدق أبناء العالم وعود قادته عن الانسان وحقوقه وهناك أكثر من عشرة ألاف معتقل قلسطيني لا ذنب لهم سوى مناهضتهم لاحتلال أرضهم ؟ أليس هذا ما يعطي الذريعة لرافعي شعار المقاومة والممانعة في الاستمرار بانتهاك حقوق الانسان ؟ ( لا يمكن فهم تقدبم علي العبد الله الى المحاكمة بناء على رأي أدلى به من سجنه – والسجين يمكن ان تصدر عنه آراء انفعالية بسبب فقدانه حريته – الا أنه احتقار لكل المؤسسات والهيئات الدولية يوفرها لهم الكيل بمكيالين في حقوق الانسان .)
ان الاستمرار في مسايرة غطرسة الاحتلال الفلسطيني يوفر الجو مستقبلا لحدوث ما هو أفظع من أحداث أيلول السابقة ويجعل المسلمون في كل مكان يقرؤون الآية الكريمة من قرآنهم – واذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا – كما يلي: واذا ابتليتم بالمعاصي فانتفضوا .
2- في ظل العولمة تعجز دولة ذات تاريخ عريق مثل مصر أن تجد بديلا لرئيسها او ابنه , وكأن نساء مصر عقمت عن ان تلد حرا يخلف آل ميارك في الحكم , والحقيقة أن القطط السمان في الحزب الحاكم تأبى أن تتنازل عن ادارة الدولة وما يدر لها من نهب وجاه ونفوذ. حتى ولو أدى الأمر بأبناء مصر ان يناموا جميعا في المقابر .
الخلاصة :
هذه ليست دعوة للانتفاض على الوضع القائم في العالم . انا من القائلين بان الثورة هدم وبناء وهي لاتناسب عصرنا أبدا , عصرنا يحتاج الى اصلاح يتم فيه بناء على البناء . انها قراءة موضوعية للواقع الحالي وتحذير من الاستمرار فيه الذي سيؤدي الى الانفجار في أماكن عديدة والى الفوضى في أماكن اخرى من العالم . والتحذير يقصد منه دفع ساسة العالم لحل مشاكله الحالية بإيجاد تنمية عريضة على قاعدة الإنسان وحقوقه من الناحيتين السياسية والافتصادية ( حقه في التعبير عن رأيه وحقه في تامين فرصة عمل له ) قبل أن يحصل للاقتصاد العالمي ما لا تحمد عقباه ,حتى لو جاءت تلك التنمية على حساب فئة صغيرة على شاكلة المستوطنين اليهود .
*اللاذقية