صفحات العالم

ازدواجية أمريكا والمراجعة العربية الاستدراكية

سليمان تقي الدين
في خطوة لافتة قرر الرئيس الأمريكي تعيين سفير بلاده في دمشق، تجاوز رغبة الكونغرس واستبق انعقاده بأرجحية الجمهوريين الذين ينتقدون سياسته الموصوفة بالمهادنة . لكن الإدارة الأمريكية خفضت من أهمية الخطوة بذريعة الحاجة إلى التواصل وتوجيه الرسائل التي تؤكد سياسة الولايات المتحدة الخارجية الثابتة تجاه معظم ملفات المنطقة .
في الواقع، الرئيس أوباما لا يهادن برغبة طيّبة، والجمهوريون يتطلعون إلى العالم بالنظّارات السوداء . كلفة الحرب على أمريكا كانت أكبر بكثير من جدواها . الحرب التي أرادها جورج بوش الابن استباقية لوضع اليد على مصادر الطاقة والضغط على السياسات الدولية الأخرى، أسهمت في الأزمة المالية الأمريكية بدلاً من معالجتها .
وحدها سياسة الفوضى وتعميق الصراعات والنزاعات الإقليمية وفّرت لأمريكا عشرات مليارات الدولارات من سوق بيع الأسلحة لأصدقائها، وهذا بحد ذاته وسيلة ناجعة في الوقت الحاضر . في يد أمريكا ما هو أكبر من القوة العسكرية تأثيراً في مسار الأمور . حصلت “إسرائيل” على الدعم الكافي من القوة، والعقوبات على إيران تتفاعل، والمحكمة الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي عناصر مهمة للضغط على أكثر من دولة، والحروب السرية مفتوحة لإشغال العرب بأمنهم الداخلي واستقرارهم .
بالفعل، لم يتوقف السعي الغربي لاحتواء سوريا بالضغوط حيناً وبالإغراءات حيناً آخر، أو بالتزامن بين الأمرين . السياسة المزدوجة مع إيران لا يمكن وصفها بالفشل . في العراق، أمريكا وإيران أخذتا كلتاهما من حصة العرب . رجحت حصة إيران لكن البيئة العربية الأوسع ازدادت حذراً استخدمته أمريكا وتستخدمه في لبنان وفلسطين . ما تقدمه أمريكا لسوريا لا يختلف نوعياً عما تقدمه للعرب الآخرين: خلق المتاعب والأزمات في محيطها وتهديدات الأمن إذا أمكن ذلك، وإغراؤها بدور أكثر نفوذاً وأقل أهمية في الصراع الدائر على تشكيل النظام الإقليمي . هذه السياسة القديمة الجديدة لا تجد حتى الآن صدى في دمشق، رغم الإيحاءات الغربية الكثيرة التي تختصر المسألة في ابتعاد دمشق عن طهران .
في أية قراءة استراتيجية نجد دمشق وقد اجتازت خطط التطويق وأقامت علاقات تعاون مستفيدة من نمو التناقضات بين المصالح الدولية .
تطوعت فرنسا أخيراً لحمل جزءٍ من العبء الأمريكي والدعوة الى تعاون آسيوي أوروبي يكون لروسيا فيه دور مؤثر باعتبارها الجهة التي تساعد إيران في التكنولوجيا النووية . هكذا تبدو السياسات الدولية كلها متجهة الى استقطاب سوريا بوصفها حجر الزاوية في دائرة المشرق العربي والقطب الذي تدور من حوله المشكلات والحلول في لبنان وفلسطين والعراق .
لكن الدور الإقليمي المتعاظم لسوريا من حيث أهميته في صياغة منظومة “الشرق الأوسط” البديل لا تقابله حيوية موازية على صعيد الداخل السوري . هناك فجوة واسعة بين القرار في قمة الهرم والإدارة السياسية . وهناك خلل بين العلاقات السياسية السورية وبين تجلياتها على المستوى الشعبي العربي . تبدو سوريا في كثير من الأحيان وكأنها تلعب مع قوى حليفة لها ولكنها غريبة عنها . هذا شأنها في لبنان وفلسطين والعراق . يتراجع الحضور السوري في هذه القضايا والملفات عن الواجهة لمصلحة ظهور الدور الإيراني .
ليس المطلوب فتح مواجهة أو منافسة على هذا الصعيد، لكن المطلوب هو تفعيل الدور السوري بوصفه العنصر العربي الأكثر أهمية في الجغرافيا السياسية بين أضلاع المثلث الذي يقوم عليه تعاون إقليمي يمنع الهيمنة الأمريكية الصهيونية، وهو المثلث السوري – الإيراني – التركي وامتداداته في دول المحيط .
يدرك المسؤولون السوريون هذا الواقع ولا يجدون له حلاً حتى الآن . لكن الفراغ ليس أمراً طبيعياً، وهناك المزيد من القوى والتيارات التي تملؤه على حد أن تركيا تخطف جزءاً من وهج السياسة على مسرح المنطقة منذ استدارت نحو الشرق واتخذت مواقف في صالح الحقوق العربية . في المدى المنظور تعيش المنطقة في أجواء الهدنات وصياغة التسويات الموضعية الجزئية والمؤقتة، هناك وقت يضيع من مستقبل العرب وهم في غياب أية مبادرة أساسها إعادة تكوين الرؤية والمصالح المشتركة . لقد اعتدنا بفعل الزمن على الدور الإيراني وهو يمارس شراكة متزايدة على قضايا العرب . قد نعتاد غداً على الدور التركي وسواه ونبحث عن دور أوروبي وندعوه للتدخل لملء فراغ لا يبرره حجم العرب على الخارطة الدولية لاسيما بما يملكون من رصيد للطاقة الحيوية لكل الحضارة المعاصرة، وما يملكون من أموال هي العنصر المهم في الأزمة المالية العالمية . وفوق هذا وذاك، هناك حراك عربي في أكثر من موقع لا يزال يقاوم سياسة الإخضاع والاعتداء على الحقوق . أقفلت السنة الماضية على كثير من الأزمات بعضها مزمن وبعضها مستجد، لا لزوم لتعدادها وقد شملت معظم الدول العربية . هناك ما هو مشترك في السلبية بعد تراجع منسوب المشتركات الإيجابية في الوضع العربي . يُختصر المشهد العربي اليوم في عنوان عريض، إما الإصلاح أو الفتنة، إما اتباع سياسة التعاون وإما الإغراق في الشرذمة . إما التصدي للتحديات وإما الانكفاء على المزيد منها . ما كان من قبل في موقع الذي يحيّد نفسه عن الصراعات انخرط فيها بشكل أو بآخر . المنطقة تتفاعل بمشكلاتها الداخلية وباستمرار الضغوط الخارجية عليها، لا مفر من مراجعة السياسات التي كانت حصيلتها وكأن العرب قد خرجوا من الفعل التاريخي وأسلموا أمورهم لمشروعات تشطير كياناتهم الحديثة وتفكيك لحمة اجتماعهم السياسي جهوياً وطائفياً وإثنياً وقبلياً . أمن العرب ووجودهم وتقدمّهم مرهون جميعه بمراجعة ومصارحة ومصالحة بين هذه المكونات الراغبة في الحفاظ على “عالم” عربي يتحدث لغة واحدة ويشترك في مرجع واحد لكرامة الأرض والإنسان .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى