هل تسقط الديموقراطية الأوروبية؟
ميشيل كيلو
لا أعتقد أنه مر أسبوع خلال نصف القرن المنصرم دون أن يتنبأ عربي ما بقرب سقوط، أو بسقوط الديموقراطية في أوروبا والعالم.
هذه النبوءة المفعمة بالرغبة ليست جديدة، فقد كنا، نحن أبناء الحركة الشيوعية العربية نعتقد بصدق ونزاهة، أن النظام الديموقراطي القائم في أوروبا طبقي وفئوي، وتالياً ظالم وغير شرعي، وأنه سيزول (ويجب أن يزول) بانتصار النظام الاشتراكي، القائم على عدالة ومساواة من نمط جديد إنسانياً ومطلق. وكان خصومنا في الحركة القومية العربية في صيغتها الحزبية/ ما قبل الناصرية يعتبرون الديموقراطية نظاماً استعمارياً سيزول حتماً بفضل، أو في أبعد تقدير بعد انتصار الوحدة العربية، التي ستعيد العرب إلى حالتهم الطبيعية، وستمكنهم من العيش في نظام يتفق مع فطرتهم، ليس للأجنبي فيه أي نصيب: شيوعياً كان أم رأسمالياً. بينما اعتبرها خصومنا الآخرون في الأحزاب الإسلامية شورى زائفة / كاذبة، دنيوية ومحكومة بالاندثار، ستهزم حتماً أمام الشورى الصحيحة، التي هي حكم الله في الأرض، الذي يغني عن حكم البشر.
بهذه المواقف الرافضة، اشتركت المدارس الثلاث في سمة رئيسة هي أنها ركزت جميعها على عيوب ومثالب وكفر الديموقراطية، التي اعتبرت برجوازية في العقل الشيوعي، واستعمارية في العقل القومي، وكافرة في العقل الإسلامي. بصفاتها هذه، لم يجد أحد من أتباع هذه التيارات والمدارس حاجة إلى دراستها كما هي، كنظام يمكن أن يكون مستقلاً عن المواضعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة بقيامه هناك في أوروبا، ولم ير أحد دور الإنسان وحقوقه، وإسهام الحركة الاجتماعية والقومية المقرر والحاسم في تعيينه وتحديد هويته وخصائصه العامة والمحلية، وتقرير الفوارق بين أشكال تحققه من بلد لآخر، ومن تجربة مجتمعية لأخرى.
لم ير أتباع المدارس الثلاث صلة النظام الديموقراطي بالحراك التاريخي الجديد الذي أبرز موقع الإنسان المركزي في الشأن العام وما نجم بالمقابل عنه، ولم يفطن لمعنى ظهور المواطنة في لحظة تاريخية محددة جلبت كتلاً بشرية هائلة إلى المدن، ارتبطت بظهور واقع جديد هو «المجتمع المدني»، الذي أتاح لها ممارسة دور غير مسبوق تاريخياً، حامله كائناً أنتجه تقدّم العقل، وتغير الواقع، هو الإنسان باعتباره اسم نوع يستحيل تعريفه طبقياً، أو قومياً، أو دينياً فقط، يتعيّن بخصوصية رئيسة تحدد هويته، تتخطى أية صفة طبقية أو قومية أو دينية هي حريته، التي تتجاوز مواضعاته الملموسة، ولا تتعيّن بدلالتها، يتساوى الإنسان/ الفرد من خلالها مع بقية أفراد النوع البشري، بينما صفاته الثانوية كانتمائه الطبقي والقومي والديني تتصل بحالاته الخاصة والضيقة، فهي لا تعينه رغم أهميتها في وجوده الملموس، بينما يبطل تعريفه من خلالها مبدأ وواقع المساواة بين البشر وتالياً مبدأ العدالة.
بغياب الإنسان كمبدأ أعلى عن رؤى ووعي هذه التيارات، وغيابه عن أحزابها وبرامجها، تحول البشر في نظرتها إلى أعداد وأرقام، وغاب الفرد لمصلحة الجماعة، التي سرعان ما صارت جماعتنا، حزبنا. وفبرك كل تيار «إنساناً» مسخاً على صورة أيديولوجيته ومثالها، فصار هناك «البروليتاري»، و«العربي»، و«المؤمن»، ولم يرتق أي من هؤلاء إلى مرتبة الإنسان وحسب، الذي يتعين بحريته، لأنه كما وصفه أرسطو «ذات حرية وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعيناتها الموضوعية»: انتماؤها الطبقي والقومي والديني.
بسبب مواقف التيارات الثلاثة المختلف في المظهر والواحد في الجوهر، تعاظمت المسافة التي فصلتها عن الديموقراطية، وتوطن فيها جميعها نزوع طاغ إلى الاستبداد جعل تشابهها جوهرياً، رغم خلافاتها الكلامية والعرضية. في بنية كهذه، كان من المنطقي أن تختلف التيارات الثلاثة على نقطة/ جوهر: أي تيار منها سيقطع الطريق على الديموقراطية: الضعيفة التوطن والبرانية التاريخ في مجتمعاتنا، الغريبة عن أحزابنا، الساقطة حكماً في أول انقلاب، والتي لا مخرج لها من أزمتها الكونية القاتلة، بشهادة التيارات الثلاثة؟
لم ير هؤلاء الديموقراطية خارج حقل السياسة المباشر، وبعيداً عن الأيديولوجية التي رسم بواسطتها سياساته عموما. وأضيف أن التيارات الثلاثة اكتفت بنبذها ففوّتت على نفسها فرصة التعرف عليها وفهمهما وتطوير موقف نقدي منها، مثلما فوّتت سياسويتها (رحم الله ياسين الحافظ!) عليها فرص ممارسة سياسة عليا يكون حاملها الإنسان، واحتجزت تطورها في مدارات حالت بينها وبين تلمس نظام إنساني يقوم على حرية وحقوق الإنسان والمواطن، وساقتها على دروب قتلت السعي إلى نظام كهذا في فكرها وممارساتها، فكان من الحتمي أن تذهب وتأخذ بلدانها إلى النظام الوحيد الذي حملته في أحشائها: نظام الاستبداد، الذي انفلت من عقاله بمجرد وصول أي منها إلى السلطة، وأكل بين من أكلهم من علموه أن السياسة لا تعرف كائناً اسمه الإنسان، ولا تتعامل معه باعتباره ركيزة الشأن العام، وأن تابعه الحزبي هو نقيض المواطن، الذي يجب أن يعامل كعدو، لأنه لا يستطيع العيش إلا كإنسان، أي دون حرية.
واليوم، وبعد أن بأن المؤدى العملي لفهم ورهانات وسياسة التيارات الثلاثة: الشيوعي والقومي والإسلامي، نقرأ من حين لآخر مقالات تتحدّث عن قرب انهيار الديموقراطية في البلدان المتقدمة وخاصة الأوروبية منها. ويستشهد الأذكياء من كتاب هذه المقالات بما يتخذ في هذه البلدان من تدابير تقيد حرية الأفراد، ليقولوا بالشماتة التي يتقنها أنصار الاستبداد: إن الديموقراطية تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد أن تبين أنها ليست نظاماً قابلاً للعيش، وأن مسيرتها لم تذهب نحو المزيد من الحرية والمشاركة، بل إلى مزيد من التقييد والغلبة السلطوية.
كتب ماركس في دراساته عن المجتمع البرجوازي نقداً تناوله من زاويتين رئيستين:
– عجزه الواقعي عن إقامة شروط تحفظ حرية الإنسان كذات حرة، لكونه يقيم على صعيد «المواضعات» الملموسة شروطاً تناقض هويته هذه. والنتيجة عند ماركس ليست الانتقاص من قيمة الحرية بل إلغاء المواضعات، التي تقيدها وتتجلى في الانتقاص منها من جهة وفي استغلال الإنسان رأسمالياً من جهة أخرى.
من سيلغي هذه المواضعات؟ إنها في رأي ماركس «التشاركية المدنية» (أي الشيوعية الإنسانية)، التي ستزيل من واقع الإنسان أي قسر خارجي يقيد حريته وحقوقه كمواطن يكثف في ذاته الحرة البشر جميعاً وتالياً الإنسانية، وستطيح بشروط خضوعه لأي نظام، سياسياً كان أم نظام حاجات، عبر إلحاق عمومية حياة الإنسان بجزئية هذا النظام: اقتصادية كانت هذه أم اجتماعية أم سياسية أم ثقافية.
وقد انتقد ماركس الثورة الفرنسية لأنها أعطت المواطن باعتباره إنساناً مشخصاً حقوقاً منقوصة، والإنسان باعتباره مواطناً مجرداً حقوقاً مقدسة لا تنتهك، ورأى أنه كان عليها إعطاء المواطن، الإنسان المشخص، الحقوق المقدسة التي لا تنتهك. هذه الرؤية، التي كثيراً ما اعتبرت طوباوية ونظر إليها باعتبارها جزءاً من نظام لا يقبل التحقيق، تتصل بإشكالية الإنسان كذات حرة، التي ليست ولا يمكن أن تكون طوباوية، لاندراجها، عند ماركس، في مشروع رهانه تحرير الإنسان المشخص والواقعي في العالم المشخص والواقعي، بفضل شروط تزيل عنه الاستغلال وترفع عنه أي قسر خارجي وتحرر إرادته إلى الدرجة التي تجعله حامل حريته: حالته الطبيعية الجديدة المتجاوزة لأية سياسة أو نظام، التي تمكنه من استعادة نفسه كذات تتعين بحريتها ولا تتعين بانتماءات ثانوية كالمنبت الاجتماعي أو الأصل القومي أو المعتقد الديني.
– ضرورة اختراق سطح الديموقراطية السياسي إلى عمقها ما قبل السياسي: الإنساني/ ما بعد الطبيعي، الذي يفسرها دون أن تفسره، خاصة إن اقتصرت النظرة إليها على جانب واحد من جوانبها بما هو نظام ينتمي إلى بنية فوقية.
رأت الماركسية العربية الديموقراطية من منظور سياسوي/ طبقوي ضيق وما دون إنساني وتشاركي، حصر النظر إليها في إطار الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، فلم ينطلق منها إلى دراسة منطويات النظام الإنساني، كما يتظاهر في تاريخنا وواقعنا وتضمره رغم النواقص التي تشوبها، واعتبر رأيه السياسي فيها كافياً وافياً، يستنفد حقيقتها بوصفها جوهر نظام استغلال رأسمالي، غير إنساني، من البداهة بمكان أن أي بديل له سيحقق إنسانية الإنسان. بينما ضاع العقل القومي في متاهات غير عقلانية/ غير تاريخية، وغرق في بدوية صحراوية وإحيائية استعارت نظرية الكلس العربي من نظرية الكلس الآري، في حين اعتبر العقل الإسٍلامي المسألة برمّتها خارج أي بحث، سواء من جانب الإنسان، المعرف بصورة نهائية بوصفه «عبد الله»، أم من الجانب الإلهي، المختص وحده بتقديم التعريفات الماهوية، وخاصة تلك التي لا يدركها عقل بشري عاجز عن إدراك ذاته.
والغريب، أن من يتحدثون عن أزمة الديموقراطية الأوروبية لا يعلمون أنها لم تقصر في رؤية عيوبها ونواقصها، حتى أن أحد كبار المحافظين المدافعين عنها، ونستون تشرشل، اعتبرها «أحسن الأنظمة السيئة»، وقال غيره إنها ولادة مشكلات وكذلك حلول، وليست نظاماً ربانياً أو مقدساً لا عيب ولا نقص فيه، وإن أهم مزاياها لا تكمن في خلوّها من مشاكل صعبة ومستعصية، بل في قدرتها على إنتاجها ضمن حدود مقبولة سياسياً وإنسانياً، وعلى تطوير وسائل التصدّي لها والتعايش أو التفاعل معها بطرق لا يموت فيها الذئب ولا يفني الغنم.
إنها باختصار أفضل نظام لإدارة أزمات مجتمع في حالة نمو، بينما الاستبداد هو، بالمقابل، أفضل نظام لإدارة موت المجتمع احتجز نموه. والغريب أن من يبشرون بموتها لا يرونها إلا بالمنظار السياسي/ السياسوي، ولا يتخطون سطح السياسة إلى المجتمع والتاريخ، حيث الإنسان يفسر بمجتمعيته ظواهر السياسة، التي لا تستطيع بمفردها تفسيره.
هل من الحتمي أن نكرّر في بلداننا تجربة الديموقراطية الأوروبية؟ أية ديموقراطية نريد؟ إلى حديث مقبل…
السفير