قطبيات اقتصادية متعددة!
ميشيل كيلو
منذ الأزمة الاقتصادية الأخيرة، التي بدأت عام 2007 ،وتواصلت بأشكال مختلفة إلى اليوم، شنت الصين هجوما اقتصاديا دوليا كاسحا غطى العالم كله، نوعت وسائله وأشكاله وركزته على دور مالي / نقدي استهدف ضمان توازن واستقرار الوضع المالي الدولي، خاصة في البلدان المتقدمة، حيث تحولت إلى مشتر رئيس للسندات والأسهم، وإلى مشارك فاعل في كثير من هيئات ومؤسسات اتخاذ القرار والمواقع الاستشارية من جهة.
وحفزت نمو اقتصاد الدول الفقيرة وسعت إلى تعزيز مشاركتها في الإنتاج والتجارة الدوليين، إما عبر سد فراغات ظهرت فيها عقب الأزمة وما لازمها من تراجع اقتصادي عام، أو تعزيز قدرتها على الإنتاج والاقتراض، في سياق جهد جلي استهدف توسيع السوقين الصينية والدولية، باعتباره الرد الناجع على تقلصهما بسبب الأزمة، التي تطلب التخلص منها ضخ مئات مليارات الدولارات في سوق الصين الداخلية، ومثلها في أسواق بلدان نامية كثيرة ومتقدمة محددة، بحيث ظهر مشهد كوني مباغت حده الأول انكفاء وإلى حد ما تراجع دول العالم المتقدم إلى داخل حدودها، لمعالجة أزمة كادت تطيح باقتصادها، وحده الثاني اندفاع صيني هائل الأبعاد غطى العالم بدرجات بدا أنها تتناسب مع أوضاع مكوناته المختلفة، غادرت بكين معه حدودها الخاصة وأثبتت تحولها إلى رافعة رئيسة لاقتصاد عالمي أخذ يتعين أكثر فأكثر بسياساتها ومصالحها، بعد أن كانت طيلة قرابة ثلاثة عقود ورشة تابعة بصورة كبيرة له، وخاصة لبلدانه المتطورة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
ما هي معاني هذا التحول، الظاهر لكل ذي عينين؟ أظن أن هناك معاني عديدة تستحق التوقف عندها، أهمها اثنان:
1 ـ أن العالم لم يعد مقتسما بين الدول الرأسمالية المتقدمة، كما كان يقال دوما، وأن فيه مكانا لكل مجتهد ومصمم وراغب في التقدم، وأن إعادة ترتيب أوضاعه ممكنة بما أن صورته الراهنة لم تعد نهائية، بل هي صورة عالم ينتقل بسرعة وثبات إلى حال مغايرة قيل الكثير عن القوى الوسيطة التي ظهرت فيها، ثم بينت الأزمة أن واحدة منها،هي الصين، لم تعد وسيطة بل غدت قوة اقتصادية عظمى بمعنى الكلمة، وأن بوسعها كقوة محض اقتصادية لعب دور كوني وسيلته الرئيسية الاقتصاد، الذي اكتسب بفعل الأزمة وأزمة العالم العامة أهمية تفوق أهمية أي دور سياسي أو عسكري يمكن لدولة كبرى أن تمارسه اليوم، فالعالم لم يكن مقتسما إذن، ولا يعاد اليوم اقتسامه، والصين لا تعيد تعريفه وإنما توسعه وتتوسع فيه وتضمه إلى عوالم ودوائر إنتاج وتبادل جديدة، بالتفاهم مع حكوماته وخدمة لمصالح مشتركة. هذا الواقع الجديد هو، بلا مبالغة أدنى مبالغة، تغير ثوري يعدل أدوار وأحجام القوى في عالمنا، ويبدل معنى وطبيعة العلاقات الدولية، تحتل فسحة مهمة فيه المصالح المشتركة بين قوة كبرى وبلدان فقيرة اقتصاديا فقدت معظم مكانها ومكانتها في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، اقتصاد المركز الذي خلق هوامش وقرر مصيرها، لاكها ثم بصقها، وأعاد إنتاجها حسب مصالحه، وها هي الصين تحاول إعادة إدخالها إلى نظام مختلف من الإنتاج والتبادل، لأن مصالحها تتطلب ذلك، واقتصادها ليس موجها نحو الطبقات الوسطى وحدها، كما هو حال اقتصاد الدول الرأسمالية المتطورة.
2 ـ أن العالم لم يعد وحيد القطبية اقتصاديا، بل صار متعدد الأقطاب مع ميل أولي إلى بروز الصين كقطب يفوق في أهميته معظم البلدان المتطورة، فهو أكثر فأكثر القطب المقابل للقطب الأمريكي. هل هي ثنائية قطبية أمريكية/ صينية نهائية؟
نعم، شريطة أن لا ننسى أن فارق القوة الاقتصادية بين الدولتين العظميين وبين بقية الدول يرجح على فارق القوة السياسية والعسكرية، وأنه هو الذي يحتم الميل إلى جعل الاقتصاد رافعة لدور الصين الدولي، كما يحدث بالفعل منذ ظهرت قدرتها على التوسع المباغت في كل مكان من العالم، بما في ذلك أمريكا نفسها، المغلقة أمامها سياسيا وعسكريا. مع الأزمة، بدأ الاقتصاد يلعب الدور المقرر والرئيسي في علاقات وأحجام الدول، وأخذ يتراجع أمامه واقع جعل هذا الدور وظيفة تنجم عن تضافر عوامل متعددة / متكاملة تتعلق بالوزن السياسي / العسكري / الاستراتيجي/ الثقافي للدولة، وكذلك بطريقة الحياة وأنماط الاستهلاك فيها. بما أن تضافر هذه العوامل لم يسد ويبرز في أية دولة كما برز وتحقق في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخاصة عقب انهيار السوفييت، فإن تعاظم دور الاقتصاد الصيني سيأكل بالضرورة من مكانة أمريكا كرمز لتكامل القوة الحديثة، وتاليا من دورها العالمي وقدرتها عل التحكم العسكري، وسينافس اقتصادها الموجه أساسا نحو الطبقات الوسطى والغنية داخل وخارج حدودها، وسيقيد نمط السياسة الدولية التي تطورت منذ قامت دولة الأمة بعد معاهدة فستفاليا عام 1648، وأوصلتها الولايات المتحدة إلى ذروتها، وكان يظن أنه ستستمر إلى فترة لا نهاية لها، بسبب انفرادها بالعالم وبالقطبية السياسية، لكن الأزمة والحرب في العراق وأفغانستان بينتا أنها بحاجة إلى إعادة بنينة هي حاجة حقيقية إلى حد أن أمريكا لم تعد قادرة على تجاهلها أو القفز من فوقها، والدليل دعم الصين لإصلاحاتها المالية، ومطالبتها برفع سعر عملتها كي يتمكن الاقتصاد الأمريكي من منافسة اقتصادها. نحن، على الأرجح، في بداية زمن جديد سيكون مختلفا عن أي زمن سبقه.
حققت الصين في السنوات الأخيرة الثلاثة ما تحققه الدول عادة خلال عقود ثلاثة: تحولت إلى مركز أنقذ اقتصاد آسيا الشرقية في نهاية القرن الماضي من انهيار مالي محتم وقف الين الياباني عاجزا حياله، ثم لعب في سنوات الأزمة الأخيرة وما زال يلعب إلى يومنا هذا وأكثر من أي وقت مضى دورا حاسما في إنقاذ الاقتصاد العالمي، بما فيه الأمريكي، بينما أنجز نقلة نوعية مهمة في الداخل بدلت جوانب مهمة من طابعه، حولته من اقتصاد يعتمد على التجارة الخارجية، مفاتيحه بيد الآخرين، هو اقتصاد تصدير، إلى اقتصاد يعتمد عليه الآخرون، تحتل سوقه الخاصة المكانة الأولى بين زبائنه، بعد أن تفرد، رغم الانكماش الاقتصادي الدولي العام، بتحقيق توسع إنتاجي ومالي غطى العالم، وانخرط في منافسة شديدة وناجحة مع أمريكا واليابان على مصادر المواد الأولية، وخاصة منها النفط، وأقام مشاريع عملاقة في بلدان كثيرة بين أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، نالت بعض الدول العربية نصيبا وافرا منها (مصر والسودان والجزائر والإمارات) ووظف استثمارات هائلة في كل مكان، خاصة في البلدان المتقدمة، واشترى مؤسسات وشركات كاملة في قطاعات النقل والتقدم التقني والعلمي، ودفع بعلاقاته مع العالم المتأخر إلى حدود شراكة بعيدة الأمد، مغلبا الحسابات الاقتصادية على غيرها، ومحددا من خلالها علاقاته السياسية والدولية وإستراتيجياته، بينما تميزت مواقفه من الأزمة الاقتصادية عن غيرها من مواقف الدول المتقدمة، التي قصرت الجزء الأعظم من جهودها على إصلاح القطاع المالي والمصرفي، حين ابتدع علاجا كليا جوهره توظيف قرابة تريليون دولار أمريكي في توسيع وتحديث بنيته التحتية وقطاعاته الاقتصادية وصناعاته الإلكترونية ومؤسساته الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، ورفع القدرة الشرائية للمواطن، الذي عادت الأزمة عليه بمنافع متنوعة ملموسة. بالمقابل، خصصت الصين قسما مهما من فوائضها النقدية قدرت بحوالي ثلاثة تريليونات دولار أمريكي – لتوسيع إنتاجها وحضورها الاقتصادي في العالم الخارجي وتعزيز التبادل التجاري معه، وليس أمرا قليلا بالنسبة إلى الاقتصاد الدولي أن الصين والهند قررتا زيادة تجارتهما إلى 120 مليار دولار سنويا، بينما ستبلغ التجارة بين الصين وباكستان مئة مليار دولار أمريكي خلال أعوام قليلة قادمة.
انتهى زمن القطبية الاقتصادية الواحدة، وتراجعت القطبية السياسية في مركزها الأمريكي وعلى نطاق العالم. وبينما استخدمت الصين بانفتاح وهجومية الأزمة الاقتصادية، نراها تتعامل بتحفظ مع الميدان السياسي، حيث تتخذ مواقف حذرة رغم القبول العالمي والأمريكي الضمني والصريح بدور متعاظم تلعبه في الشؤون الدولية، بل ومطالبتها بذلك. من المفهوم طبعا أن تكون الصين حذرة، فهي تضع نصب عينيها على الدوام التجربة السوفييتية، التي رجحت السياسة على الاقتصاد وأفرطت في استخدامها، وحملت أعباء مغامرات عقيمة وغير مضمونه النتائج في أماكن كثيرة من العالم، فكانت النتيجة فشل نظامها في الداخل رغم نجاحاتها الخارجية المدوية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لا يستقر عالمنا على حال .
ويبدو أن الصين تكرر المرء اليوم في وجه أمريكا شعار كلينتون خلال حملته الانتخابية ضد جورج بوش، الذي كان قد أعلن قيام نظام القطبية السياسية الواحدة، وأوكل إلى أمريكا وحدها مهمة إدارة العالم، فواجهه كلينتون بكلمات أربع تسببت في هزيمته خلال الحملة الانتخابية عام 1991، رغم انتصاره في حرب الكويت على العراق وانهيار السوفييت: إنه الاقتصاد، أيها الغبي!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي