درب الآلام المصرية
ساطع نور الدين
في مصر بالذات، تثير الفتنة الطائفية الحزن والاسى أكثر مما تثير الخوف والهلع، مع أن تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية في الدقائق الاولى من العام الجديد، ينبئ بأن أرض الكنانة مقبلة على سنة قاسية، تحسم فيها خيارات مصيرية. ولن يكون العالم العربي بأكثرياته المضطربة وأقلياته المرتعبة مجرد مراقب أو مشاهد.
أسباب الفتنة في مصر موجودة وموروثة منذ قديم الزمان. لكنها في السنوات الاخيرة كانت أشبه بـ«فتنة جنسية» تشعلها في الغالب فتاة مسيحية أو مسلمة خرجت عن دينها واختارت زوجا أو عشيقا من الدين الآخر، ما يؤدي الى سقوط عدد من القتلى والجرحى من أقاربها الذين ينكرون ميول قلبها أو جسدها، فيستخدمون القوة لإعادتها الى الكنيسة أو الجامع، ويمسون عصباً مشدوداً على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني طبعا في المجتمع المصري من أقصاه الى أقصاه.
تفجير كنيسة الاسكندرية يمثل افتراقاً حاداً عن تلك «الفتنة الجنسية»، ونزوعاً حازماً نحو إشعال خطوط التماس الطائفية بين المسلمين والأقباط، بما يعنيه من اختبار للشكوك والهواجس التي تعتمل في صدور المصريين جميعا حول مستقبلهم في ذروة المرحلة الانتقالية الراهنة، المتمثلة في رفض الرئيس حسني مبارك التنازل عن الرئاسة وإفساح المجال لانتقال سلمي أو بالاحرى غير انقلابي للسلطة القلقة، التي أفرغتها الكهولة من محتواها وهيبتها ووظيفتها المركزية في وادي النيل ومصبه.
تنظيم «القاعدة» هو الجهة المنفذة على الارجح، لا سيما أنه حدد اسم الكنيسة المستهدفة في أحد تهديداته في شهر تشرين الثاني الماضي. لكن الاختراق السياسي الذي أحدثه التفجير أكبر وأخطر بكثير من الاختراق الامني، وهو ما يغري الكثيرين في المضي حتى الحدود القصوى في استحضار نظرية المؤامرة التي لا تستبعد اسرائيل ولا الاستخبارات الاميركية، ولا تنفي فكرة الربط بين ما جرى في الاسكندرية مع ما يجري الاحد المقبل من استفتاء على مستقبل الجنوب السوداني.. مع ان الترويج لمثل هذه الافكار يمثل خدمة جوهرية للتنظيم الجنوني، لأنه يبرر اضطهاد الأقباط المصريين ويصنفهم باعتبارهم عملاء للإسرائيليين أو الأميركيين ومتآمرين على وحدة مصر الوطنية التي طالما كانوا من حماتها ورعاتها والمضحين من أجلها أكثر بكثير من إخوانهم المسلمين، من دون ان ينالوا حقوقهم الطبيعية.
إلقاء اللوم على الخارج في تفجير الاسكندرية خطوة بارعة. لكنها لا تكفي لاستيعاب الصدمة المصرية العامة، ولا تخدم في احتواء الغضب المشروع للأقباط، الذين يدفعون الثمن سواء عندما تقرر السلطة التوجه نحو المصالحة مع الاسلاميين أو عندما تختار المواجهة معهم. في الظرف الراهن، لا يشك أحد في أن السلطة قدمت هدية مجانية للمتطرفين الاسلاميين عندما رفضت استدعاء المعتدلين الاسلاميين الى المؤسسات، وتفكيك خطابهم الأخرق حول عدم جواز الولاية للقبطي أو للمرأة وحول حاجة مصر الى مجلس (شرعي) أعلى، على الغرار الايراني، كما جاء في البرنامج الشهير لـ«الإخوان المسلمين».
المشكلة هي عند الغالبية المصرية، على اختلاف تنويعاتها الرسمية والسياسية والدينية. وضرب تنظيم القاعدة الذي يتنكر له الجميع وينكرونه، بدرجات متفاوتة، يعتمد فقط على المعالجات التي يمكن أن تتقدم بها تلك الغالبية، لوأد فتنة طائفية لها أسباب وليس لها مشروعات، كما هي الحال في بقية بلدان العالم العربي، التي تنتظر نهاية درب الجلجلة المصرية بفارغ الصبر.
السفير